علي بك الكبير
قعدت مرة في لحظة فراغ قصاد شاشة التليفزيون، ولحظات الفرجة القليلة علي التليفزيون عندي معناها الفرجة علي قناة ماسبيرو زمان فقط، أي ان كان عليها ايه هقضي قصادها الدقايق اللي أضطرتني فيها الظروف للقعاد قصاد الشاشة دي وخلاص. والمرة دي لقيت قصادي مسلسل أسمه "الحب في عصر الجفاف" تابعت التتر بتاعه وأنا بحاول أعصر دماغي عن أي معلومات عنه، لحد ما أتحركت خلايا مخي أخيرا بذكري بعيدة أوي لشكل الفنان العظيم "عبد الله غيث" وهو بيهتف بصوت جهوري ويقول: "أنا علي بك الكبير". كان مسلسل من عصر الاهتمام فيه بالتاريخ والثقافة والفنون والعلوم.
لو بصينا علي شخصية المسلسل "علي بك الكبير"، هنلاقيه أكتر شخصية تاريخية من وجهة نظري أتظلمت دراميا ودراسيا، ومش عارفة بقي عن قصد ولا عن جهل ولا عن سطحية في قراءة وكتابة التاريخ. المنظور العام للمماليك أنهم وحشين وسفاحين وقاسيين وفاسدين، الكلام ده صحيح بس متجيبش المماليك كلهم وتحطهم في سلة واحدة، فيه منهم مماليك عظام زي "قطز" و"بيبرس" و"قلاوون" و"محمد بن قلاوون" في عصر سلاطين المماليك وفي العصر العثماني فيه "علي بك الكبير".
اللي حصل أن الدراما صدرت شكل "علي بك الكبير" علي نفس شاكلة المماليك الفسدة المتجبرين، يعني مثلا في تتر مسلسل "الحب في عصر الجفاف" هتلاقيه بيقول: "القاهرة وقفت ورا الشبابيك.. القاهرة قاست من المماليك.. ظلم وأسي فوق طاقة الانسان.. ايه صبرك يا شعب علي مأسيك" ومفروض ده مسلسل شخصيته الرئيسية "علي بك الكبير" فحنا الرسالة وصلتلنا بقي. ولو جينا شفنا مسلسل "شيخ العرب همام" اللي بيعرض الحرب اللي كانت بينه وبين "علي بك الكبير"، هنلاقي الفنان "عزت أبو عوف" مقدملنا "علي بك الكبير" شخصية هزلية وتافهة وشرها صريح ومعندوش بربع جنيه ثبات انفعالي.
طيب مين هو "علي بك الكبير"؟ وليه أنا شايفة الدراما مشوهة صورته وسيرته؟ وليه هي من الأصل أتشوهت وايه الغرض منها؟. كل الاسئلة دي هنجاوب عليها بس تعالي نعرف مين هو "علي بك الكبير".
قرية أماسة الروسية سنة 1743م، جنوب البحر الأسود واللي كانت تابعة للقوقاز تحت السيادة العثمانية. عاش فيها "الأب داوود" واحد من قساوسة الكنيسة الأرثوذكسية مع زوجته وأبنه الكبير "يوسف" وبنتين. وفي يوم خرج "يوسف" ابن الأب داوود اللي كان عنده 15 سنة، مع أصحابه يتمشوا، وفجأة بيطلع عليهم عصابة من اللي بتخطف العيال ويبيعوهم عبيد، وبيختاروا "يوسف" بالذات من بينهم وخطفوه، عشان كان باين عليه من وسطهم بجسمه القوي الممشوق علامات الصحة والفتوة. وبعد خطفه باعوه لواحد من تجار الرقيق اللي أخده وسافر بيه علي أسكندرية وعرضه في سوق العبيد فيها، وهناك بيشتريه اتنين يهود كانوا مديرين الجمارك. وبرده عشان قوة جسم "يوسف" وعضلاته الواضحة عرفوا أنه ينفع يكون مملوك بأمتياز مش مجرد عبد، وأستغلوها فرصة يتقربوا بيه للأمير المملوكي "إبراهيم بك"، وأهدوه "يوسف".
"ابراهيم بك" بص ل"يوسف" كده بخبرته كمملوك قديم عرك الدنيا، شاف ملامح صلبة وعينين حادة طالع منهم بريق عجيب لا يمكن تكون لولد عنده 15 سنة، خلت "ابراهيم بك" نفسه للحظة ارتبك من شدة نظرة "يوسف" الحازمة القوية. ومن غير تردد قبل "أبراهيم بك" الهدية لأنه عرف أن "يوسف" هدية نادرة لازم يكسبها في صفه، وأحساسه كان في محله.
المماليك اللي كانوا بيجوا من القوقاز وأوروبا كتير، عشان كده أول حاجة بيعملوها أنهم بيعطوهم للشيوخ تعلمهم الدين الاسلامي لحد ما المملوك يسلم ويعرف دينه الجديد كويس. وده اللي حصل مع "يوسف" اللي أصبح أسمه "علي". وأتعلم "علي" القراءة والكتابة بالعربية والتركية، وحفظ القرآن الكريم. وبعدها انتقل علي الخطوة التانية وأتدرب علي القتال والفروسية وفنون الحرب، وكان "علي" مخلص ومحب جدا لسيده "ابراهيم بك" لأنه أكرمه وعامله بالحسني. و"ابراهيم بك" كمان كان معجب ب"علي" وفروسيته وذكاؤه وأخلاصه وقوته، فرقاه وبقي "علي" من أولاد الخزنة، يعني من حراس الخزانة اللي موجودة في قصر "ابراهيم بك" اللي شايلة الفلوس والأسلحة والغلال.
لحد ما جه يوم المحمل وكان "ابراهيم بك" في منصب كتخدا الانكشارية ورئيس الجيش المرافق للمحمل اللي شايل كسوة الكعبة وصناديق الأموال اللي رايحة للتكية المصرية في مكة، وطبعا "علي" كان واحد من فرقة المماليك المرافقة لحراسة المحمل. وفي أثناء ما كانت قافلة المحمل ماشية في سكتها في صحراء سينا، طلع عليهم جماعة من الاأعراب قطاعين الطرق، وكان عددهم وعتادهم أكبر من عدد المماليك وأسلحتهم. وبدأت دايرة الأعراب تديق علي المماليك والحجاج اللي في المحمل حسوا أنهم خلاص كده ضاعوا. وفجأة شاف "ابراهيم بك" والمماليك والحجاج والاعراب كمان منظر خارج من سلسلة رجل المستحيل، شافوا "علي" وهو بيطير حرفيا وبيضرب بسيفه يطير رقاب يمين وشمال، وأتجمد "ابراهيم بك" من الذهول وهو شايف "علي" قضي علي غالبية الاعراب لوحده بشجاعة وبراعة منقطعة النظير، وخلي الباقي يجري من الرعب. وبعد ما خلص"علي" وبص لسيده "ابراهيم بك" لقاه بيردد بذهول ويقول: "جن علي. جن علي". وبقي أسم "علي" الجديد اللي الكل بينادوه بيه هو "جن علي"، وبعد ما رجعوا بالمحمل تاني لمصر بعد الحج أترقي "علي" وأصبح خازندار، يعني كبير حرس الخزنة، واترقي كمان وبقي ماسك منصب كاشف في الجيش وبقي مقرب أكتر وأكتر ل"ابراهيم بك" وأصبح دراعه اليمين.
في صراع "ابراهيم بك" علي مشيخة البلد، كان دايس بقلب جامد عشان دراعه اليمين اللي لابيقهر ولا بيلين هو "جن علي" الحصان الكسبان. و"علي" المخلص كان عند حسن ظن مولاه، قدر يدخل حروبه ضد اعدائه ويكسبها بمنتهي الذكاء. كانت حجة "علي" في معركته ضد المماليك المنافسين، أنهم موصلوس أموال الحج لأهل الحجاز في ميعادها، وبكدة خد شرعية جر الشكل، وخد كمان تعاطف الناس لصفهم. ولما أتغلب "علي" علي كل المماليك المنافسين وفتح طريق مشيخة البلد لسيده "ابراهيم بك". كافؤه "ابراهيم بك" واداله لقب الباكوية وأصبح "علي بك"، كل ده وكنا لسه سنة 1749م يعني و"علي" عنده 21 سنة.
لما مات "ابراهيم بك" أصبح "علي بك" في منصب السنجقية يعني حاكم أقليم زي محافظ كدة، وكان بياخد كل شهرين 20 أردب حنطة و 40 أردب شعير. وبموت شيخ البلد اللي هو الحاكم العام من المماليك بعد الوالي العثماني، أجتمع المماليك يتناقشوا مين الأولي بمشيخة البلد منهم بعد "ابراهيم بك"، ففيه حد أقترح عليهم أسم "علي بك" فرد عليهم وقال: "أنا لا أتقلد الامارة الا بسيفي لا بمعونة أحد"، وسابهم ومشي.
لحظة كدة نفهم موقف "علي بك" الغريب ده. وقتها "علي بك" مكنش بالقوة الكافية ولا وراه الانصار التقال اللي يساندوه ويقوا موقفه وسط المماليك اللي هو عارف نواياهم كويس. ولو هم اتفقوا علي توليته ده معناه أنه هيكون مجرد دمية بيحركوها، وهو تحت ضغطهم وقلة حيلته الحالية هيرضغ ليهم، وده "علي بك" بذكاؤه وطموحه مش عاوزه. ده غير عامل نفسي خفي في قلب ولد عنده 15 سنة أتخطف من أهله وأستعبد علي ايد العثمانيين وله تار معاهم.
من اليوم ده أهتم "علي بك" بشغله كحاكم أقليم وبس، لا بص يمين ولا شمال، بس كان مهتم بحاجة مهمة أوي، كان بيشتري المماليك بشكل مبالغ فيه، كان صارف أغلب فلوسه عليهم، وكان بيدربهم معظم الوقت بنفسه علي الفروسية والقتال، لحد ما قدر في 8 سنين يعمل له جيش خاص من المماليك.وبعد ما اتأكد من قوة مماليكه وخط هجومه ودفاعه الأول، كان لازم يعمل حاجة تظهره للناس بقوة بعد ما فضل يشتغل في الضل 8 سنين، أو زي ما بنقول أحنا يفجر ترند قوي ويبقي علي كل ألسنة الناس.
جاتله الفرصة علي صينية من دهب، لما جاله واحد من كبار مماليكه يطلب منه ايد بنت "ابراهيم بك" بما أنه الوصي عليها بعد موت أبوها. وفعلا جوزهم وعملهم فرح ولا المهرجان، فرح المصريين مشافوش قبل كده حاجة في منتهي الابهار والبذخ، فرح أتعمل في ليالي صرف فيه أموال ما تتعدش، وفرش الولائم ووزع الهدايا والعطايا ع الرايح والجاي. ومن شدة فرحة المصريين بالليالي الملاح للفرح الميمون، مبقاش علي لسانهم غير كرم "علي بك" و جود "علي بك" وطيبة علي بك"، لا ده "علي بك الكبير" سيدنا وتاج راسنا، ادعوله ادعوله. ومن ساعتها بقي اسم "علي بك الكبير" علي لسان العامة والأمراء، كسب حب العامة وعداء الباكوات.
سامعاك ياللي بتقول ايه الفرق بينه وبين المماليك يخليني أعتبره مختلف عنهم في أول المقالة. هقولك بالظبط بس مش المرة دي أستني الجزء الجاي.
(يتبع)
مروة طلعت
19/7/2024
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
المصادر:
عجائب الآثار في التراجم والأخبار ج2 - الجبرتي.
تاريخ ثورة علي بك الكبير ضد العثمانيين - ستافرو لوزينيان.
علي بك الكبير - أحمد خيرت سعيد.
تعليقات
إرسال تعليق