كسوة الكعبة
فيه ذكري ملازماني وأنا صغيرة لما كنت في زيارة لأقربائي في مدينة السنبلاوين، وصادف وجودي هناك في يوم المولد النبوي، عشان أتفرج علي أحتفال عمري ماشوفته في القاهرة. وقفت في البلكونة أتفرج علي الأعلام الخضرا والدرويش اللي لابس اخضر وسبح كتيرة كبيرة وصغيرة متعلقة في ايديه ورقبته، وهو بيطوح يمين وشمال وقدام وورا، ووراه وقدامه زفة كبيرة من الدراويش بالدفوف وهم بيقولوا مدد يارسول الله، واللي ع الحصان يرد يقول حي ماداااااد، ده غير الدراويش اللي شايلين المباخر. وفضلت الزفة دي سادة الشارع من أوله لأخره لفترة طويلة، ودق الدفوف والذكر عالي. من أنبهاري من اللي بيحصل فضل المشهد ثابت في ذاكرتي بكل تفاصيله، والاحتفال اللي مر عليه 30 سنة ده، لا شفت زيه قبله ولا بعده لحد الآن.
بس لما كبرت عرفت ان الاحتفالات دي زيها وغيرها كانت كتيرة أوي في مصر، ولسه فيه منها في الموالد، وبالنسبة لأهل الأقاليم عارفينها وشافوها كتير، أحنا شعب بيموت في الهيصة والاحتفالات سارية في دمنا مع جينات أجدادنا قدماء المصريين. بس احتفالات الموالد دي ممكن تهم فئة معينة أول مكان محدد لكل مناسبة. لكن تعرف أن كان فيه أحتفال سنوي فضل المصريين يحتفلوا بيه 700 سنة، ومش بس المصريين ده كان بيجيله مخصوص الآف الزوار من جميع البلاد الاسلامية. تعالي معايا نتفرج عليه.
القاهرة في ذي القعدة سنة 647 هجري 1250 ميلادية، في ساحة قلعة الجبل واقف جملين شايلين محفة بينهم، فوقه هودج مربع كبير له قمة هرمية، معمول من ديباجة حمرا مزينة بخيوط من ماء الدهب. ومن وراه جمال كتيرة شايلة صناديق كتيرة. ووراهم جمل أخير عليه راجل شكله غريب كده، شعره مضفر وجسمه نصف عاري وكله عضلات بارزة، سمعت الناس بتقول أنه قائد الجمال. أما عن الساحة مليانة ناس من كترهم واقفين وسطهم بالعافية، زحمة موت ولا يوم الحشر، وفيه منهم كتير معاه حمار أو حصان أو جمل وحاطط عليه زكايب أو صناديق.
أستني كده ده باب القلعة بيتفتح، خرج مجموعة كبيرة من المشايخ والقضاة والأمراء علي خيولهم. الله بص مين كمان خرج وسطهم... دي السلطانة "شجر الدر"...
- هي ايه الحكاية.
- "شجر الدر" قررت السنة دي تحج لبيت الله الحرام، والهودج ده هو هودج نساء السلاطين والخلفاء اللي بيسافروا فيه. شوفت أهم نخوا جملين الهودج وطلعت قعدت جواه السلطانة "شجر الدر" ومعاها جواريها.
- طب وايه الجمال اللي وراها دي كلها؟
- دي جمال شايلة صناديق فيها كسوة الكعبة، واللي أتصنعت من نسيج مصري وبتطريز أمهر الأيادي المصرية في دمياط. وباقي الجمال فيها الزاد لرحلة الحج من أكل وشرب وهدوم وفلوس.
- يعني "شجر الدر" طالعة الحج ومعاها كسوة الكعبة؟.
- مصر من سنين كتيرة قبل "شجر الدر" كانت المسئولة عن تصنيع كسوة الكعبة، بس كانت بتخرج عادي من دمياط، لكن السنة دي أختلفت عشان السلطانة طالعة تحج فطبيعي هتاخد معاها الكسوة المشرفة توديها بنفسها. ومش بس "شجر الدر" طالعة بالكسوة بس السنة دي، بص كده علي ألاف الدواب والناس اللي واقفين ورا الجمال، كل دول حجاج مصريين ومن المغرب العربي والأندلس و كمان، الكل أتجمع عشان يطلعوا ورا السلطانة وكسوة الكعبة عشان ينالوا شرف صحبة الكسوة الشريفة.
شايف أهو الموكب أبتدي يتحرك أهو.. أول جمل طالع هو اللي عليه قائد الجمال ووراه المشايخ والعلماء ومشايخ الطرق الصوفية والأمراء راكبين الأحصنة قدام ووراهم هودج "شجر الدر" ووراهم الجمال اللي شايلة صناديق كسوة الكعبة ووراهم جمال الأمتعة ووراهم دواب الحجاج وفيه منهم اللي هياخدها مشي وشايل علي راسه بوأجته اللي فيها زاده وهدومه، محاوط ده كله من أول صف لأخر صف مماليك الحراسة بسيوفهم وأسلحتهم. والناس اللي علي الجانبيين واقفين بيهللوا ويكبروا والستات بتزغرد. وهيفضل الناس ملمومة علي موكب الكسوة من أول هنا لحد ما يطلعوا علي طريق السفر في السويس.
يلا ياسيدي أي خدمة أديني أخدتك وفرجتك علي أول موكب للمحمل المصري.
- أستني بس أنتي قلتيلي وسط الكلام أن مش دي أول مرة يخرج فيها كسوة الكعبة من مصر يبقي ازاي أول محمل.
- ركز بس في الكلام الله يهديك أنا قلت أول محمل لأنه فعلا أول مرة يبقي فيه موكب يسمي المحمل كان موكب محمل "شجر الدر"، أنما كسوة الكعبة حرفيا كانت بتخرج من مصر من أيام أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" اللي وصي وأستحسن النسيج القبطي لصناعة كسوة الكعبة لجودته ومتانته ومهارة نساجين وحرفيين مصر. وكانت الكسوة بتتصنع الأول في الفيوم وبعدين في تنيس في بورسعيد وبعدين بقت تتصنع في تونة وشطا في دمياط، وكانت الكسوة بتطلع من برة برة كده علي مكة من غير موكب ولا محمل. يعني الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والطولونية والأخشيدية والفاطمية والأيوبية كانت كسوة الكعبة بتتصنع وتتطرز في مصر. وأتطور شكل ولون كسوة الكعبة في الفترة دي من الأبيض للون الأسود من عهد العباسيين لونهم المفضل. لحد ما صادفت أن "شجر الدر" قررت تحج وأمرت أنها تخرج معاها الكسوة وكانت بداية لتقليد موكب المحمل اللي فضل يتعمل بحذافيره وبنفس شكل موكب "شجر الدر" كل سنة طول 700 سنة.
من بعد "شجر الدر" و"أيبك" و "قطز" بيجي "الظاهر بيبرس" اللي بيهتم جدا بشكل ومظهر موكب المحمل، وأعتبرها نقطة قوة في مملكته لازم تظهر وتتبروز كدليل علي قوة وعظم شأن مصر وكل اللي بيخرج من مصر اللي بيحكمها سلطان قوي زيه. وأحتفظ الظاهر "بيبرس" بشكل موكب المحمل اللي فيه هودج فاضي علي نفس شكل هودج "شجر الدر" بس اصغر عشان فاضي طبعا، بيتحط علي جمل واحد، وزود في شكل الاحتفال بالمحمل بأنه حط الكسوة في صناديق طويلة والصندوق نفسه مطرز بماء الدهب بآيات من القرآن الكريم. وخلي خروج المحمل من القاهرة ليلة عيد، ليلة ايه دول 3 ليالي، الناس في العالم الاسلامي كله بيستناهم من السنة للسنة وبسببهم بيسافروا مخصوص من كل حتة للقاهرة عشان يتفرجوا ويشاركوا في احتفالات خروج المحمل. بتقفل فيهم دكاكينهم وتعلق الزينة والقناديل علي المحلات والبيوت، القاهرة كلها وشوارعها كانت بتزغرد حرفيا في 3 ليالي المحمل.
كان موكب المحمل اللي فيه المشايخ وأئمة المذاهب الأربعة والامراء والعلماء ومشايخ الصوفية بأعلامهم الخضرا، معاهم صناديق فيها أموال للتكية المصرية في مكة واللي أهل الحجاز كانوا بيستنوا عطايا المصريين مع كسوة الكعبة كل سنة. ووراهم الحجاج المصريين وغير المصريين وأمير الحج وقائد الجمال والحرس من المماليك في حضور السلطان. بيخرج المحمل اللي عبارة عن أكتر من 100 جمل أساسي، في شهر رجب من باب النصر ويفضل يلف بما معروف بدوران المحمل، والناس تستقبله بالتكبير والتهليل وضرب الدفوف والزغاريد. وكان بيلف معاهم مهرجين أسمهم عفاريت المحمل بيقدموا عروض ويضيفوا البهجة علي دوران المحمل. وبعدها ينطلقوا للسويس ومنها علي سينا ويمشوا في درب المحمل لحد ما يوصلوا لمكة المكرمة.
في مكة بيستقبل أمير مكة المحمل بكل أحترام وتبجيل، لدرجة أنه بيبوس حافر الجمل اللي شايل صندوق الكسوة الشريفة. ويبدأ المماليك والأمراء ينزلوا صندوق الكسوة بكل هدوء وأحترام وتبجيل. وبيتم أنزال الكسوة القديمة وغسل الكعبة بماء الورد والعطور وتلبيسها الكسوة الجديدة في يوم وقفة عرفات. وبالنسبة للكسوة القديمة بتتحط في نفس الصندوق اللي كان شايل الكسوة الجديدة، وبعد أنتهاء مراسم وشعائر الحج بترجع الكسوة القديمة مع المحمل لمصر تاني. وفي مصر بتتقسم أجزاء علي السلطان والامراء والمشايخ والأعيان كنوع من البركة.
- يعني كسوة الكعبة والمحمل فضل يخرج من مصر بس، مفيش أي بلد تانية غارت مثلا وقالت أنا اللي هعملها.
- بيقول "المقريزي" أن في عهد السلطان المملوكي "برسباي" جاله طلب من السلطان "شاه رخ بن تيمور لنك" بيطلب منه ينول شرف كسوة الكعبة، بس جاله رد "برسباي" عنيف ورفض تماما وأعتبرها مخالفة للشرع، وأنها لو حصلت تبقي أهانة لشرف المماليك، ولا يسلم الشرف الرفيع من الأذي حتي يراق علي جوانبه الدم.
وفضلت الكسوة بتتصنع في مصر والمحمل بيخرج من مصر برده أيام العثمانيين بنفس الشكل الهودج الفاضي وال 100 جمل اللي شايل صندوق الكسوة وصناديق الأموال اللي بسببها تم عمل وقفية مخصوصة عبارة عن قريتين لغرض فلوس المحمل والتكية المصرية في مكة، وزاد عدد القري للوقفية بتاعة المحمل أيام العثمانيين. لحد أيام "محمد علي باشا" حصل دروب سنتين أتمنع فيهم الكسوة والمحمل بسبب حروبه هناك ضد الوهابيين وخلافاته معاهم، لكن رجع تاني المحمل والكسوة يخرجوا من مصر بعد السنتين العجاف دول.
وأستمرت مصر شايلة شرف صناعة ونسج وتطريز كسوة الكعبة وارسالها في محملها لحد سنة 1962م أيام حكم "جمال عبد الناصر" اللي قرر وقف صناعة الكسوة وخروجها من مصر لأسباب سياسية وخلافه مع الحكومة السعودية. ومن يومها قررت السعودية الاعتماد علي نفسها وأنشأت مصنع لكسوة الكعبة، وأنتهي الي يومنا هذا أشرف وأجمل وأعظم أحتفال، محمل الكسوة الشريفة.
مروة طلعت
12/7/2024
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
المصادر:
السلوك لمعرفة دول الملوك - المقريزي.
رحلة ابن بطوطة - ابن بطوطة.
تعليقات
إرسال تعليق