علي بك الكبير 4
(4) كل ليلة بينام فيها "علي بك الكبير" كان بيحلم فيها بمجده وسيطرته علي الحكم واستقلاله بمصر وجلوسه علي عرشها. بس كان فيه حلم تاني بيتداخل مع أحلامه دي، حلم متكرر بيصحي منه وقلبه مكسور، بيحلم بالطفل "يوسف" اللي عاش 15 سنة حر وسط أهله، وأسرته اللي ليها أحترامها في بلده "أماسيا" وأبوه "الأب داوود" وأخواته البنات الصغيرين. "علي بك الكبير" الشاب صاحب ال38 سنة، بكل اللي حققه ووصوله لمشيخة بلد مصر، وصراعاته وحروبه والتغيير الثقافي والمجتمعي والديني اللي حصله، مقدرش يقتل فيه "يوسف اللي عنده 15 سنة وطعم المرار اللي عاش فيه لما أتخطف من حضن أبوه وأهله في بلاد القوقاز. شعور الحنين لأبوه وأهله كان نقطة ضعفه الوحيدة، وعشان كده خباها في صدره طول السنين دي حتي دمعته كان بيظهر مكانها بريق قوة في عينه من عزة نفسه، ورغبة أنه يبان دايما قوي بلا نقاط ضعف.
في سنة 1766م، لما وصل "علي بك الكبير" وبقي شيخ البلد للمرة الأخيرة، يعت مملوكه "طنطاوي بك" بفلوس الجزية اللي هيقدمها للسلطان العثماني في الأستانة، مع الفلوس كان مبلغه بمهمة سرية يعملها بعيد عن العيون. "طنطاوي بك" كان من مماليك "علي بك الكبير" المخلصين، وبمجرد ما وصل وقدم الفلوس، قعد في الأستانة كام يوم زيادة بحجة الاستجمام، وهو في الحقيقة كان مستني مملوك من مماليكه يرجع من رحلته ويقضي مهمته اللي بعته ليها في "أماسيا". وفعلا بعد فترة طالت شوية، رجع مملوك "طنطاوي بك" وفي ايده "الأب داوود" العجوز وزوجته وبنته الصغيرة وابن بنته الكبيرة. وفي سرية أخدهم "طنطاوي بك" وركبوا المركب وسافر بيهم علي مصر في رحلة أستغرقت 40 يوم.
وزي ما فتحت مصر أبوابها ل"يعقوب" والد "يوسف" عزيز مصر، فتحت أبوايها ل"الأب داوود" والد "يوسف" شيخ بلد مصر. وأول ما وصلت البشري ل "علي بك الكبير" بوصول أبوه وأمه وأخته وأبن أخته، طار قلبه من الفرح، وخرج يجري من قصره علي حصانه ووراه مماليكه، مقدرش حتي يستحمل يستني دخولهم القاهرة، وقبل وصولهم فعلا قابلهم "علي بك" بمماليكه، اللي أول عينه ما شافت أبوه وأمه، نزل من علي حصانه وجري عليهم. ولأول مرة بتشوف مماليكه "علي بك" الانسان، واللي ذهلوا لما شافوا "علي بك الكبير" العظيم القوي المخيف مهاب الركن وهو نازل علي ركبه قصاد أبوه وامه وماسك ايديهم يقبلهم لا وكمان بيبكي.
كان "علي بك" محضر لأبوه وأمه قصر مخصوص ليهم في الأزبكية، جنب قصر مراته الحبيبة "نفيسة البيضا"، كان موجود في درب عبد الحق السنباطي وبتطل علي بحيرة الأزبكية مكان عمارة بنك مصر حاليا. أول ما دخلوا القصر جم الخدم وغسلوا رجليهم ودي كانت عادتهم زمان في الترحيب بأعز وأغلي الضيوف، ومن بعدها خرج "علي بك" وأمر بأقامة الأفراح ورص الموائد في الشوارع وتوزيع العطايا والهبات علي الرعية، وقصر والده فضل أيام ميخلاش من الأمراء الباكوات اللي جم من كل بقعة في أرض مصر يهنوا ويباركوا ل"علي بك".
لما خرج "علي بك الكبير" يستقبل أسرته، كان من ضمن مماليكه اللي جريوا وراه" مملوكه ودراعه اليمين "محمد بك أبو الدهب"، واللي أول ما عينه وقعت علي "يوهود" أخت "علي بك" الصغيرة سحره جمالها، فأستغل فرحة "علي بك" وسط الاحتفالات وطلبها منه، ومن فرحة "علي بك" وافق علي طلبه، بس نسي أن ليها أب مسئولة منه، واللي عاداته وتفكيره ودينه مختلفين تماما عن تقاليد وأفكار ودين "علي بك" الحالي.
والده الأب "داوود" بالفعل رفض طلب "محمد بك أبو الدهب"، ولأنه أب عاقل وحكيم، شاف وجوده أصلا غلط علي أبنه وهيفتح مجال لأعدائه يتصيدوله منه الأخطاء، لأنه علي غير دينه ورجل كنيسة، وده هيدي الفرصة للقيل والقال والاتهامات اللي ممكن تطول قرارات وأوامر أبنه، فطلب من ابنه "علي بك" أنه ياخد أسرته ويمشي، وكفاية الفترة اللي قعدوها، وكفاية أن قلبه اطمن عليه وشافه قبل ما يموت.
وبعد 7 شهور قضاها الأب مع ابنه في القاهرة، وبعد محايلات من الطرفين، بيصر الأ "داوود" علي الرحيل وبيودع أبنه الوداع الأخير، وبياخد مراته وبنته وحفيده، ويرجعوا أماسيا. بيرجع الأب وهو فاكر أنه عفا أبنه من مشاكل كتيرة، لكنه مكنش يعرف أنه خلق أكبر مشكلة كانت أول مسمار في نعش أبنه "علي بك الكبير، وهو "حقد وغل "محمد بك أبو الدهب" اللي كتمهم في قلبه بعد ما فشل يتجوز أخت "علي بك الكبير".
وصلنا في الجزء التالت لسنة 1769م، لما منع "علي بك الكبير" الجزية عن السلطان العثماني، وأعلن أستقلال مصر عن الدولة العثمانية. القرار ده في حد ذاته فرح المصريين جدا اللي كانوا من الأصل بيحبوا "علي بك الكبير" الراجل المجدع اللي رجع الأمن والعدل بين العباد.
غير "علي بك" حاجات كتير في البد وطورها لصالح المصريين ورفع ظلم العثمانين من عليهم. يعني مثلا في الزراعة لما دخل السلطان العثماني "سليم الأول" مصر سنة 1517م، أخد كل الاراضي وأعتبر نفسه مالكها الوحيد، وقسمها اقطاعيات ووزعها علي حكام الأقاليم يتصرفوا فيها زي ما يحبوا، يأجروها أو يعملوها وسيات وأهل البلد يشتغلوا بأقل من لقمتهم فيها أو حتي بالسخرة، المهم يدفعوا للخزانة الضرايب ، اللي بتروح جزء منها للأستانة وجزء للحامية التركية والباقي في كرش الوالي. جه "علي بك" وخلي تأجير الأرض للفلاحين المصريين ، وخفف من عليهم الضرايب بحيث يكون معظم ريع الأرض للفلاح، وجابلهم خبراء زراعيين أجانب يشرفوا علي الأرض وعملية الزراعة عشان المحاصيل تطلع في أحسن جودة.
أما في المدن أحتكر تجار القاهرة كل الشئون المالية بالتدريج وسحبوا البساط من التجار الأتراك، وخلوا القاهرة مركز تجاري كبير ومسمع برة وجوة، وعشان دايما "علي بك " يتابع مشاكل التجارة والأسواق، خلي كبار التجار أعضاء دائمين في مجلسه اللي بيضم التجار والشيوخ علماء الأزهر وكبار الأعيان. وبعد ما قضي علي قطاع الطرق، أصبح عنده طرق تجارية أمنة تماما من والي القاهرة. وأهتم "علي بك الكبير" كمان بالتجارة الخارجية، هنلاقيه في سنة 1770م، بيعقد معاهدة تجارية مشتركة مع البندقية في ايطاليا. حتي الجيش بتاعه ضم فيه رجال مصريين جنب مماليكه اللي حابين يطوعوا، فكان أول واحد يدخل مصريين في الجيش المصري، فكبر الجيش وأتوسع وبقي عنده حاميات قوية علي الحدود، وعلي حسه وحس المركز التجاري طبعا أنتعشت الصناعة المحلية.
عمل نظام مراقبة في كل المؤسسات حتي علي القضاه، فكان بيعاقب أي قاضي حكم حكم مخالف للعقيدة أو القوانين ومراعاش الدقة في حكمه، بالضرب أو بالنفي أحيانا القتل. ومن أشهرهم كان قاضي أسمه "الشيخ أحمد الكتبي" واللي عرف عنه أنه كان بياخد رشاوي، فقبض عليه وحكم عليه بالجلد والنفي لقبرص وفضل منفي لحد ما مات.
وكان من شدة ذكاؤه لما أعلن أستقلاله عن الدولة العثمانية، جري فورا وأتحالف مع قيصرة روسيا "كاترينا"، ماهو عدو عدوي صديقي بقي، فبعت رسالة مع مملوكه "ذو الفقار بك" لتعزيز أواصر الصداقة بين مصر وروسيا. ومقصرتش القيصرة الحقيقة، وبعتت خطابات مع أسطولها الروسي في البحر المتوسط جوابات ل "علي بك" بتأيده فيها وبتدعمه، ومش بس كده دي بعتت ضابطين روس لتدريب الجيش المصري ومعاهم مدفعين هدية.
(يتبع)
مروة طلعت
تعليقات
إرسال تعليق