شم النسيم
الشجر الناشف بقي ورور والطير بقي لعبي ومتهور.
فاكرة وأنا صغيرة أيام ماكانت الحياة لسه بسيطة، وكنا قادرين نفرح وننبسط بأبسط الأشياء. ليلة شم النسيم دي كانت ليها بهجة وفيها طقوس خاصة، كانت ماما تسلق البيض وأجيب الألوان بتاعتي وأقعد ألونها كل بيضة بلون، وبابا الله يرحمه قاعد جنبي بيتفرج علي حفلة قديمة لمطربه المفضل فريد الأطرش، وهو قاعد علي كرسي وفي حضنه العود علي المسرح وبيغني أدي الربيع عاد من تاني والبدر هل بأنواره.
يوم شم النسيم بقي نفسه كان جوه كده فيه بهجة من الصبح، بصحي وأنا متحمسة وبحط البيض الملون الجميل في الأطباق وبغلفها، وبنزل أشتري الملانة - اللي محدش دلوقتي يعرفها - والبصل الاخضر، وتكون أمي حضرت الرنجة - عشان مبنحبش الفسيخ - ونحط كل ده في الشنط مع ترمس الشاي وكولمن الماية الساقعة والملاية، ونتجه الي الكورنيش. كان الكورنيش زمان جميل الرصيف واسع ومزروع فيه نجيلة خضرا وأشجار وجناين، بيتجمع فيها العائلات، مكان جميل محبب للنفس ومتاح لأي حد مجانا. نلعب كورة ونط الحبل وصلح، ونركب مراكب في النيل، وناكل البيض والرنجة والبصل، كانت أيام جميلة أوي، والناس والنفوس أجمل. لكن للأسف كل ده راح زي ما كل حاجة جميلة راحت.
وأحنا هنفرفش أمتي أمال دلوقتي ولا في سبتمبر.
أجدادنا في مصر القديمة، كانت حياتهم وأرواحهم مرتبطة بالنيل، كانت مصر بلد زرعية في المقام الأول، جنة الله في الأرض. وعشان كده قسم المصري القديم السنة ل 3 فصول مرتبطة بالدورة الزراعية، تبدأ رأس السنة المصرية مع فصل الفيضان (آخت) الموافق ظهور نجم الشعرى اليمانية، وده في يوم 19 يوليو بتقويمنا الحالي. في شهر نوفمبر يجي فصل بذر البذور "برت"، وفيه تظهر الأرض بعد انحصار الفيضان، وفي شهر مارس يجي فصل الصيف "شمو" اللي هو موسم الحصاد.
الورد مفتح شوفوا شوفوا بيرقص ومداري كسوفه.
موسم الحصاد هو موسم الخير وأعتبروه رمز الحياة، عشان كده قدسه المصري القديم. وكعادة وطبع المصري القديم المحب للحياة، أن أفراحه ومناسباته كلها العامة والخاصة حتي أحزانه لازملها أحتفال. فمابالك بقي وهو بيجني محاصيله وأرضه وبيته وبلده كلها مليانة خير، ومنظر الحقول الخضرا والورود الملونة وسنابل القمح اللي ترد الروح محاوطاه وعلي مدد الشوف مالية حياته جمال وبهجة.
في بداية موسم الحصاد، اللي هو فصل (شمو)، كان المصري القديم مخصص يوم للأحتفال واللي أرتبط أسمه بأسم الفصل (عيد شمو). ليلة عيد شمو كان المصريين القدماء بيعلقوا البصل حوالين سرايرهم وعلي الباب عشان كانوا بيعتقدوا أن البصل مبارك وبيطرد الأرواح الشريرة وعشان كده برده كانوا بيشمموا الطفل أول ما يتولد البصل ويعصروه في عينيه. ويوم عيد شمو بيصحوا بدري في الفجر، ياخدوا أكلهم وشربهم ويطلعوا في زوارق في النيل، يغنوا ويعزفوا علي الناي والمزمار ويرقصوا ويصقفوا ويقضوا يومهم كله لعب ومرح وسرور.
كانوا بياخدوا أكل معاهم ايه بقي؟. أول حاجة البيض، طب أشمعني البيض؟. طبقا لميثولوجيا مصر القديمة كانت بداية خلق الكون من بيضة كبيرة، وكمان البيض بيعبر عن بداية حياة جديدة، من البيضة بيخرج الكتكوت. لكن بعد موسم (شمو) مبيبقاش محبب للمصريين القدماء أكل البيض. وكمان بياخدوا معاهم السمك المملح (الفسيخ والملوحة) والبصل الأخضر والخس والملانة (الحمص الأخضر) والوز المشوي. ذكر (هيرودوت) أن المصريين كانوا بياكلوا السمك ويجففوا شوية في الشمس ویاکلوه نیي، ويحفظوا الباقي في الملح.
كان (عيد شمو) بيشترك فيه كل أطياف المصريين، الملك ووزراؤه والأمراء والحاشية والكهنة والجند والصناع والحرفيين والكتبة والزراع، الكل بيخرج كبيرهم وصغيرهم في الحقول والحدائق، يوم للبهجة والفرح واللعب. ومع مرور الأيام والسنين وأختلاف الألسنة أتبدل أسمو (شمو) ل (شم) وأنضاف عليها أسم النسيم دليل علي هوا الربيع العليل، فأصبح (شم النسيم).
قالك وصفة بلدية للصحة وطولة العمر خد شمس وهوا علي ماية بلا دوا بلا عيا بلا مر.
أحنا قلنا أن عيد شمو اللي هو شم النسيم في أول مارس، طب ايه اللي خلاه دلوقتي يجي مرة في ابريل ومرة في مايو. ولو هو العيد العام اللي يعتبر الوحيد في مصر القديمة لا ديني، ايه اللي ربطه دلوقتي بعيد القيامة عند المسيحيين. قبل ما جاوب علي السؤال ده أحب أوضحلك أن عيد (شمو) كان مربوط قبل كده بعيد الفصح عند اليهود كمان.
(الفصح) في العبرية معناها (أجتاز أو عبر)، وعيد الفصح هو أحتفال اليهود بيوم خروجهم من مصر وهروبهم من فرعون وجنوده، واللي أتصادف أن اليوم ده هو هو نفسه كان في يوم أحتفال المصريين ب (عيد شمو). ففضل مرتبط عيد الفصح عند اليهود بعيد شمو عند المصريين في نفس اليوم.
أستمر احتفال المصريين بعيد شمو لحد العصر القبطي. ولما حطت الكنيسة التقويم القبطي أعتمدوا في حساباتهم علي نفس تقويم مصر القديمة لكن خلوا بداية تقويمهم من سنة 284 ميلادية الموافق لعصر الاضطهاد الكبير أيام حكم الإمبراطور الروماني " ديقلديانوس ". لما أنتشرت المسيحية في مصر في القرن الرابع الميلادي وبسبب لخبطة في الحسابات الفكلية، فوجئ المصريين أن (عيد شمو) جاي في وقت الصوم الكبير، وطبعا ده كان عيد مهم في وجدان المصريين وفي نفس الوقت صعب الاحتفال بيه وتأدية طقوسه والناس صايمة. ولحل المشكلة دي وضع العالم الفلكي المصري " بطليموس الفرماوي" نظام لضبط التقويم، وأضاف 13 يوم لبداية الربيع 21 مارس، وبالتالي أصبح الاعتدال الربيعي في 3 ابريل. وبكده عيد القيامة اللي بيجي بعد أنتهاء الصوم الكبير أتحدد أنه يجي في فترة سماح من يوم 14 إبريل لحد 8 مايو، ويجي (عيد شمو) - شم النسيم - اليوم اللي بعده. والتقويم ده له دورة بتتكرر كل 19 سنة واتعرف " بالتقويم الأقبطي الشرقي ". وده كان سبب مجئ شم النسيم بعد عيد القيامة عند المسحيين، يعني شم النسيم يوم أحتفال مصري خالص لكل المصريين مهما أختلف دياناتهم. وكل سنة وأحنا كلنا بخير ومصر بخير.
الدنيا ربيع والجو بديع قفلي علي كل المواضيع مفيناش كاني ومفيناش ماني كاني ماني ايه الدنيا ربيع.
مروة طلعت
5 / 5 / 2024
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
المصادر:
اللغة المصرية القديمة - د/عبد الحليم نور الدين.
الثروة النباتية عند قدماء المصريين - د/ وليم نظير.
تاريخ الأمة القبطية وكنيستها -
تعليقات
إرسال تعليق