باحثة البادية

كنت في سنة رابعة أبتدائي لما دخلت علينا أبلة ناهد مدرسة العربي في أول حصة ليها معانا في السنة الدراسية الجديدة. وبعد التحيات والقيام والجلوس، سألتنا الأبلة: "مدرستنا أسمها أيه يا ولاد". كلنا ردينا في نفس واحد وبتنغيمة مميزة "مدرسة باحثة البادية الابتدائية يا أبلة". سألت الأبلة تاني: "طب مين الشاطر اللي عارف مين هي باحثة البادية؟". هنا عم الصمت والوجوم، وأتردد صوت في ذهني بيسأل هو باحثة البادية ده أسم ست أصلا. ساعتها أبلة ناهد روت فضولي بأنها قالت أن باحثة البادية هي "ملك حفني ناصف" كاتبة وصحفية قديمة. ومن ساعتها وأسم "ملك حفني ناصف" باحثة البادية مبيفارقش بالي. والنهاردة أنا جاية أحكيلكم الحكاية اللي محكيتهاش لينا أبلة ناهد، هحكيلكم حكاية باحثة البادية.

 أتولد "محمد حفني محمد إسماعيل ناصف" سنة 1855م، في قرية بركة الحج جنب منطقة المرج في محافظة القليوبية. رجل ريفي بسيط من أسرة بسيطة أتعلم في كتاب القرية وحفظ القرآن الكريم زي أغلب ولاد البلد، لكن والده أصر يغير خط سير حياة أبنه بدل ما يكون فلاح معاه في الأرض، بعته يكمل تعليمه في الأزهر الشريف. وفي الأزهر بيتعرف علي الإمام "محمد عبده" - أتكلمنا عنه قبل كده هسيبلك اللينك في أخر المقال - اللي كان واحد منسلسلة تلاميذ "رفاعة الطهطاوي" التنويريين. لما أتخرج "حفني ناصف" أشتغل بالتدريس في مدرسة الحقوق لمادة الإنشاء القضائي، وعينه الإمام "محمد عبده" في فريق تحرير جريدة الوقائع المصرية. بعدها أترقي "حفني ناصف" وأصبح قاضي، ولما أتأسست الجامعة المصرية الأهلية سنة 1908م، كان أول رئيس ليها.  بعدها انتقل لوزارة المعارف - وزارة التعليم حاليا - وعمل كبيرمفتشى "اللغة العربية" وفضل فيها لحد التقاعد سنة 1915.

أحنا بنتكلم عن "ملك" ولا عن "حفني ناصف" دلوقتي؟. محنا عشان نتكلم عن "ملك" لازم نفهم هي ازاي أصبحت "ملك"، أصل الزمن ده مكنش سهل أبدا يظهر فيه أسم ست بالشكل ده في الحياة العامة، كان مجرد ذكر أسم الست نفسه عورة، في بلد كان ماضيها مشرف ومليان بأسماء نساء علماء وملكات. طب أيه اللي غير الحال للحال المتدني ده؟. الظلام العثماني هو اللي طمس العقول، وغير وضع الست من شريكةفي المجتمع والحياة لمجرد جارية متعة، شالها من دورها في الصفوف خلف الرجل كمعين ومؤثر ومعلم ودافع، وحبسها في الحرملك وحرمانها من التعليم وأعتبار العلم مفسدة لعقول النساء.

حرفيا الظلام خيم علي مصر فكريا وعلميا واجتماعيا ومهنيا في هبوط النكبة العثمانية سنة 1517م، لحد ما ظهر شعاع نور جديد في محاولات "محمد علي باشا" للتغيير وأرساله للبعثات العلمية وخصوصا مع راجعة "رفاعة الطهطاوي" من فرنسا. ومن يومها وبيظهر رواد بيقودوا حملات عنيفة لمواجهة الجهل والتخلف اللي عشش في الرؤوس 300 سنة. ولولا محاولات الاصلاح دي كان فضل "حفني ناصف" في البلد بأفكار الأقدمين، ومكنش بقي عندنا "ملك حفني ناصف".

في 25 ديسمبر سنة 1886م، في حي الجمالية، أنجب "حفني ناصف" أول واحدة في بناته السبعة، في الوقت اللي كانت فيها الجرايد بتكتب عن سلطان مصر "حسين كامل"، فسماها "ملك" علي أسم السلطانة "ملك" زوجة السلطان "حسين كامل". كبرت "ملك" وأصر والدها علي تعليمها هي وأخواتها، فدخلت أعرق وأول مدرسة للبنات وهي مدرسة السنية اللي بنيتها "جشم آفت هانم" زوجة "الخديو إسماعيل" في حي السيدة زينب بالقاهرة. في سنة 1900م أخدت "ملك" شهادتها الابتدائية، وكملت في نفس المدرسة في قسم المعلمات أتدربت فيها علي التدريس. وفي سنة 1903م، أتخرجت أول دفعة من مدرسة المعلمات واللي هم عبارة عن بنتين بس، "ملك حفني ناصف" و "فيكتوريا رياض عوض". أشتغلت "ملك" في نفس المدرسة كمعلمة فيها للبنات.

في سنة 1907م، أتقدم لها شيخ عرب الفيوم "عبد الستار الباسل" رئيس قبيلة الرماح البدوية الليبية في الفيوم. طبعا كان عريس لقطة مين يرفض عين أعيان بادية الفيوم. وعشان تتجوز من "عبد الستار" كان لازم تستقيل من مهنة التدريس، عشان وقتها ممنوع المدرسة تتجوز، يا الشغل يا الجواز، عين العقل والله 😂😂.

أتجوزت "ملك حفني ناصف" من "عبد الستار الباسل" وسافرت معاه الفيوم وعاشت وسط قبيلته هناك في البادية. بس للأسف تجربة الجواز بالنسبة ل"ملك" كانت تجربة قاسية جدا وأليمة، وده بسبب أنها فضلت وقت طويل ما خلفتش. لحد الآن الغالبية العظمي من الستات اللي ربنا مرزقهاش بأولاد أو حتي أتأخرت في الحمل، بيعانوا من تجارب قاسية من التنمر والنبذ والاحتقار والتلقيح في الرايحة والجاية، وكأن الأمر بإيديها. فما بالك بقي قبيلة بدوية عايشة في ضواحي الأقاليم، وكل نظرتها للست أنها لازم تخلف وتخلف وتخلف بس. أكيد "ملك" عاشت هناك سنين من العذاب النفسي والجسدي، مش بس عشان عدم قدرتها علي الانجاب، ده كمان بسبب الفجوة الثقافية اللي بينهم. واحدة متعلمة ومثقفة ومشهورة بالخطابة والشعر والكتابة، وتعتبر أول مدرسة للبنات مصرية خريجة أول مدرسة مصرية، ليها أفكارها ونظرتها الحياتية وفكرها، وفجأة أتحطت في قلب مجتمع جاهل بيتمارس عليها سلطة مبنية علي نظرة دونية جدا للمرأة.

اللي زاد من وجع وألم "ملك" كمان، أنها فوجئت أن جوزها كان متجوز قبلها ومطلق وعنده بنت، ومكنش قايلها ومكنتش تعرف. فلما ربنا مقدرش ل "ملك" أنها تخلف، رجع "عبد الستار" مراته الأولي لعصمته تاني. مكنش ل "ملك" حق الاختيار أو الأعتراض، حتي فكرة الطلاق مش موجودة، أحنا في زمن الطلاق فيه كان عار. كانت النتيجة أن "ملك" تقوقعت وأتونست في وحدتها بكتبها وقلمها وأوراقها، وقدرت تتواصل من منفاها ب"أحمد لطفي السيد" اللي ساعدها علي أنها تنشر كتاباتها ومقالاتها في السر في جريدة الجريدة، وتمضي مقالاتها بأسم مستعار وهو "باحثة البادية".

بعد يأس المحيطين ب"ملك" منها كعضو نافع للقبيلة، فكترت مرات السماح ليها بالتردد علي أهلها في القاهرة، وده ساعدها أكتر في تحقيق حلمها بالمشاركة في الحياة الثقافية، إشتهرت كتاباتها وندواتها ومحاضراتها بالحس الديني والتوجه الوطني، يعني كانت ماسكة العصاية من النص عاوزة التقدم والتعلم للمرأة وفي نفس الوقت تتمسك بدينها وأخلاقها. وبالفعل أصبحت من الرواد الأوائل للأدب النسائي، ومن أشهر سيدات النصف الأول من القرن العشرين. كتبت عنها الكاتبة "مي زيادة" كتاب، وبنت الشاطئ "د/ عائشة عبد الرحمن" كتبت عنها دراسة.

في الوقت ده ظهر "قاسم أمين" ودعوته لتحرير المرأة، وظهر من وراه رواد النسوية زي "هدي شعراوي". لكن "ملك حفني ناصف" كانت بتغرد كده في حتة لوحدها، اللي هو أنا معاكم بس ليا تحفظات. يعني مثلا دعاة تحرر المرأة نادوا بأن المرأة تتحرر كمان من الحجاب، فكان قلم "ملك حفني ناصف" مهم في الرد علي شطحاتهم اللادينية، فكتبت ردها بآيات من القرآن الكريم ونصوص من السنة، وفندت آراء المدعين بأن تأخر الشرق سببه التمسك بالحجاب ببراهين وأدلة عقلية، فقالت: "إن الأمم الأوروبية قد تساوت في السفور، ولم يكن تقدمها في مستوى واحد، فمنها الأمم القوية، ومنها الأمم الضعيفة، فلماذا لم يسوّ السفور بينها جميعا في مضمار التقدم، إذا كان هو الأساس للرقي الحضاري كما يزعم هؤلاء".

من ضمن مواضيعها كتبت كتير عن الظلم والقهر اللي بتتعرضله المرأة في البيوت ومن المجتمع، وده نابع من تجربتها المرة، خصوصا أن أن جرحها الأنثوي خلاها تكشف وتحلل لتكتشف أنها سليمة تماما من الناحية الانجابية، وبعد محاولات لمعرفة السبب بتكتشف أن السبب عند زوجها اللي عمل عملية بعد أنجابه بنته الوحيدة أتسببت في عقمه، وطبعا كان لازم يعلق الموضوع عليها هي. 

كان أسلوب كتابة "باحثة البادية"سهل ممتنع يتسم بالدقة والوضوح وألفاظها رشيقة جذابة ليها جرس موسيقي عذب، استمدت أسلوبها من جمال اللغة العربيةعربي، وفصاحته واستقامة ألفاظه من القرآن الكريم. وكانت باحثة البداية خطيبة شهيرة، وهي أول امرأة تبرز في الخطابة في العصر الحديث وكثير من مقالاتها كتب بأسلوب خطابي، وكانت خطبها محاضرات إنسانية اجتماعية قيمة.

مكتفتش "باحثة البادية" بعملها الكتابي دي كمان أسست "اتحاد النساء التهذيبي" اللي ضم كثير من السيدات المصريات والعربيات وبعض الأجنبيات، وكان هدفه توجيه المرأة إلى ما فيه صلاحها والاهتمام بشؤونها، وكونت جمعية لإغاثة المنكوبين المصريين والعرب اللي كان أساس لجمعية بالهلال الأحمر فيما بعد، وأقامت في بيتها - وعلى نفقتها الخاصة - مدرسة لتعليم الفتيات مهنة التمريض، وكفلت للمدرسة كل احتياجاتها.

طلعت "باحثة البادية" ومثلت المرأة المصرية في المؤتمر المصري الأول سنة 1911م، لبحث وسائل الإصلاح، وقدمت فيه المطالب اللي شايفاها ضرورية لإصلاح حال المرأة المصرية، واللي كان من أهمها تعليم البنات الدين الصحيح، ودفعهن للالتحاق بالتعليم الابتدائي والثانوي.

سنة 1918م، أجتاحت مصر والعالم وباء الانفلونزا الاسبانية - كورونا القرن العشرين - وأتصابت "ملك" بالوباء ده. وفي 17 أكتوبر 1918م، توفت "ملك حفني ناصف" متأثرها بمرضها وعمرها 32 سنة في بيت والدها بالجمالية، ومن حزن والدها عليها أصيب بالشلل وتوفي بعدها بأربع شهور.

رثاها الشاعر "حافظ ابراهيم" والشاعر"خليل مطران" بقصيدتين، ورثتها "مي زيادة"، وأتعملها أول حفل تأبين في مصر وكان في الجامعة المصرية - جامعة القاهرة حاليا - وأفتتحت مقدمة التأبين "هدي شعراوي".

رحم الله "باحثة البادية"... "ملك حفني ناصف".

مروة طلعت

30 / 4 / 2024

الإمام "محمد عبده"👇

https://www.facebook.com/share/p/EDqBnMm6n7GSh8qF/?mibextid=oFDknk

#عايمة_في_بحر_الكتب

#الحكاواتية

#بتاعة_حواديت_تاريخ

#باحثة_البادية

المصادر:

المسلمة العصرية عند باحثة البادية - عبد المتعال الجبري.

باحثة البادية - مي زيادة.

باحثة البادية ظلمها التاريخ - أحمد زكي عبد الحليم.

الحركة النسائية في مصر - د/ آمال السبكي.

عظماء القرن العشرين - سيد صديق.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الراشد العمري 9

الليث بن سعد 5

الليث بن سعد 6