قالوا زمان كل واحد له نصيب من أسمه، بس فيه ناس برده ليها نصيب من المكان اللي أتولدت فيه، والحكاية اللي هنحكيها النهاردة أبرز مثال علي كده. يعني لما يكون قاعد الإمام "كمال الدين أبو بكر" في بيته ويطلب من زوجته الحامل أنها تجيبله كتاب من حجرة مكتبته الضخمة، فلما تدخل الزوجة المكتبة وتبدأ تدورعلي الكتاب، وإذ فجأة يجيها آلام المخاض والولادة وتولد وسط الكتب، عشان تولد العالم الجليل "جلال الدين السيوطي" صاحب السبع علوم، واللي أتسمي ب "إبن الكتب" بسبب الواقعة دي وكان أسم علي مسمي بصحيح، يبقي لازم نعيد النظر في أن الواحد ممكن يكون له نصيب كمان في المكان اللي أتولد فيه.
لو ليك في التاريخ زي حالاتي أكيد سمعت عن كتاب "حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة" وكتاب "تاريخ الخلفاء". ولو مهتم بتفاسير القرآن الكريم فأكيد عارف تفسير الجلالين. الكتب دي ضمن أكتر من 300 مؤلف كتبهم الإمام "جلال الدين السيوطي" اللي أفخر أن أصوله ترجع لنفس أصولي من محافظة أسيوط.
أول رجب سنة 849 هجري/ أكتوبر سنة 1444م، اليوم اللي أتولد فيه "جلال الدين عبد الرحمن بن كمال الدين أبي بكر السيوطي"، في وقت حكم دولة المماليك. أسرة "جلال الدين السيوطي" كانت معظمها من أهل العلم، وليهم تقديرهم في بلدهم بأسيوط كأهل للوجاهة والرياسة. والده "كمال الدين أبي بكر السيوطي" من شدة حبه للعلم قرر النزوح من أسيوط ويستقر في القاهرة، عشان يكون مقرب لدروس العلم وكبار المشايخ، وخصوصا شيخه الإمام "إبن حجر العسقلاني" - برده كتاب وقراء التاريخ عارفين العسقلاني كويس - وفي القاهرة تزوج "كمال الدين أبي بكر" وأنجب "جلال الدين السيوطي". كتب الإمام "جلال الدين السيوطي" في كتابه "التحدث بنعمة الله" وقال: (لا أعلم من خدم العلم حق الخدمة من عائلتي إلا والدي). وده واضح من هجرة والده لطلب العلم.
في زمن زي اللي أتولد فيه "السيوطي"، زمن كان أبرز الوجوه فيه هم العلماء وطلاب العلم، حتي عن السلاطين والأمراء اللي كل يوم بيروحوا ويجي غيرهم - حياة المماليك التقليدية - وأب زي "جلال الدين أبي بكر" اللي هاجر لأجل العلم، لازم يكون الأهتمام الأول والهدف في تربية وتنشئة وتوجه الطفل "جلال الدين" هي العلم. ومن أول ما بدأ "جلال الدين" يمشي تقريبا وهو في أيد والده في مجالس العلم وخصوصا مجلس أمير مؤمنين الحديث الإمام "ابن حجر العسقلاني". وأساسي طبعا بدأ يحفظ أبنه القرآن الكريم في سن مبكرة جدا. لكن العمر كان قصير ملحقش "كمال الدين أبي بكر السيوطي" يحقق كل حاجة نفسه فيها لأبنه، وتوفي وأبنه "جلال الدين" عنده 6 سنين.
وهنا بقي يجي دور الصحبة الصالحة اللي كان والده معاها وأولهم كان الإمام "الكمال بن الهمام الحنفي"، واللي ضموا "جلال الدين السيوطي" ومحسسوش لحظة بفقدان والده، وكملوا معاه المشوارونفذوا وصية والده وحققوا حلمه في ابنه. وكانت البداية أن "جلال الدين السيوطي" أتم حفظ القرآن الكريم كامل وهو عنده 8 سنين. وبسبب تمتعه بالذكاء الحاد وقوة الملاحظة وسعة الحفظ قدر شيخوه ومعلميه علي تحفيظه المتون والكتب المفتاحية، وكتاب عمدة الأحكام، والمنهاج الفرعي في الفقه للنووي، والمنهاج في الأصول، وألفية ابن مالك في النحو، ومنهاج البيضاوي.
درس "جلال الدين السيوطي" علي أيد شيوخ وعلماء كتير، وفي علوم مختلفة علي سبيل المثال "الشمس محمد بن موسى الحنفي"، و"الفخر عثمان المقسي"، و"الشموس البامي"، و"ابن الفالاتي"، و"ابن يوسف"، و"العجلوني"، و"النعماني"، وقد أخذ عنهم الفقه والنحو، ودرس الفرائض مع الشيخ "شهاب الدين الشارمساحي". وكان من ضمنهم شيوخ نساء كمان أتعلم منهم، علي سبيل المثال "آسية بنت جار الله الطبري"، و"كمالية بنت عبد الله بن محمد الأصفهاني"، "أم هانئ بنت أبي الحسن الهرويني"، و"أم الفضل بنت محمد المقدسي"، وغيرهم كثير شيخات أفاضل ذكرهم في كتابه "حاطب ليل وجارف سيل".
وكان من عادة "جلال الدين السيوطي" في التعلم أنه يفضل ملازم الشيخ اللي بيتعلم منه لحد وفاته ومن بعدها، يروح لشيخ تاني. يعني هتلاقيه ملازم للشيخ "محيي الدين الكافيجي" لمدة 14 سنة، ولزم الشيخ "شرف الدين المناوي" لمدة لا بأس بيها.
قال الإمام "جلال الدين السيوطي" عن نفسه إنه تبحر في 7 علوم هي: التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع، وأصول الفقه والجدل والتصريف، وغيرها من العلوم. وقال: "قد كملت عندي آلة الاجتهاد بحمد الله"، وده معناه معرفة عميقة بعلوم اللغة والأصول وغيرها.
تفتكر طلب العلم عند "جلال الدين السيوطي" وقف لحد كده، مينفعش طبعا ده حتي ابن الوز عوام. سافر "جلال الدين السيوطي" لبلاد كتير لطلب العلم ورا أهل العلم في بلادهم عشان يتعلم. سافر الفيوم ودمياط والمحلة، وسافر إلى بلاد الشام واليمن والهند والمغرب وتشاد، وبلاد التكروراللي علي سواحل المحيط الأطلسي جنوب موريتانيا وفي محيط مالي، وسافر الحجاز اللي قعد فيها سنة كاملة. وفضل يتعلم ويدرس لحد ما وصل في الفقه إلى رتبة الإمام "سراج الدين البلقيني". وفي الحديث لرتبة الحافظ الإمام "ابن حجر العسقلاني" اللي كان شيخ ومعلم والده.
في سنة 871 هجري رجع "جلال الدين السيوطي" مصر وجلس بين العلماء والشيوخ كواحد منه له طلابه وتلاميذه اللي بيتلقوا منه العلم والفتوي، في الأول أتعين مدرس للفقه بالشيخونية، وهي المدرسة االلي كان والده بيتلقي فيها دروسه عن الإمام "ابن حجر العسقلاني"، وبعدين جلس لإملاء الحديث والإفتاء بجامع ابن طولون، وكان من أشهر تلاميذه "إبن إياس" صاحب كتاب "بدائع الزهورفي وقائع الدهور".
الإمام "جلال الدين السيوطي" عاصر 13 سلطان مملوكي، وعلاقته بيهم كان فيها شئ من التحفظ، كان "السيوطي" زاهد ومبيخفش يقول الحق، وعشان يوصل للمرتبة دي كان لازم محدش يكون له فضل عليه ولا كاسر عينه، عشان كده كان عامل لنفسه مكانة وحدود بينه وبين السلاطين والأمراء. في مرة دعا السلطان "الأشرف قايتباي" الشيوخ والعلماء، فحضر "جلال الدين السيوطي" وهو لابس عمامة (طيلسان) كبيرة وعالية. في الفترة دي كانت العمائم مهمة وكل الناس بتلبسها، وأرتفاع وحجم العمة بتعبر عن مكانة ورفعة اللي لابسها. فدخول "السيوطي" علي السلطان "قايتباي" بالعمة دي رسالتها واضحة أنه أرفع مقام وشأن منه. واللي حصل بعدها طبعا معروف، أتهاجم "السيوطي" هجوم شديد من مطبلاتية السلطان، وعشان "السيوطي كان بيتصف بالغضب الشديد وحاد الطباع، فكان بيحاول معالجة هذه االخصلة دي باعتزال الناس وتأليف الرسائل، فأكتفي بأنه يرد عليهم برسالة وسماها «الأحاديث الحسان في فضل الطيلسان». وفي فترة حكم السلطان "طومان باي الأول" جرأة "السيوطي" في قول الحق معجبتش السلطان، فأمر بالقبض عليه وأعدامه، فساب "السيوطي" بيته وأختفي فترة لحد ما السلطان أتعزل من الحكم.
"جلال الدين السيوطي" كان في حياته معارك كتيرة جدا بينه وبين العلماء في المسائل الفقهية أو الفتاوي، وأنا لما بقول معارك فأنا بقصد الكلمة كويس. للأسف الوقت ده كان الزمن فيه أختلف عن زمن الأئمة والإمام "الليث بن سعد" مثلا زي ما حكينا قبل كده، ففي زمنهم كانت المناظرات اللي بتهدف لمعرفة الحقيقة وفيها تقبل الرأي الآخر وإجلال لصاحب الرأي الصحيح. أما في زمن "جلال الدين السيوطي" كان الأمر زي زمنا بالظبط، كلها معارك وعند والتكبر حتي في الباطل المهم أن رأيي هو اللي يكسب. عشان كده ظهر ل "جلال الدين السيوطي" منافسين وحاقدين جدا عليه وأتهموه كتير أنه مدلس وناقل كتبه من الكتب القديمة يعني مش مؤلفاته الأصلية. وكان من أبرز الكارهين له "شمس الدين السخاوي" اللي تجاوز في كراهيته ل"السيوطي" أنه بقي يشنع عليه كمان في علاقته بأهل بيته. وكان بين وبين "السيوطي" و "السخاوي" ما صنع الحداد، "السخاوي" يهاجم و"السيوطي" يرد. أنما بقي المعركة الكبري اللي خاضها "السيوطي" واللي غيرت مجري حياته تماما، كانت لما أتعين في مشيخة الخانقاة البيبرسية اللي موجودة في الجمالية.
يعني أيه خانقاه؟. هو مكان بيتفرغ فيه المتعبدين وطلاب العلم الفقراء للدراسة والتعبد والدولة بتصرف عليهم أكل وشرب وطبعا فيها مكان للأقامة. لما مسك "جلال الدين السيوطي" مشيخة الخانقاة البيبرسية، أكتشف أن الخانقاه مسيطر عليها المتصوفة واللي كلهم قادرين ماديا، فشاف "السيوطي" أن قعادهم في الخانقاه نوع من أنواع الاستنطاع وأنه شاغلين المكان عن ناس محتاجينه بجد. وهنا قامت الدنيا مقعدش لما أعلن "جلال الدين السيوطي" أنه هينظم المسألة ويشوف مين الأولي واللي ملوش حق يمشي، فجأة هجم عليه المتصوفة المنتفعين بالمكان وضربوه ضرب مبرح وشالوه ورموه في فسقية الخانقاه عشان يغرقوه لولا لحقه من بين أيديهم تلاميذه اللي دخلوا في العاركة وخرجوه.
بعدها أتأزم "جلال الدين السيوطي" نفسيا جدا وكرامته وجعته، فأستقال من مشيخة، وقرر أعتزال الناس والعالم كله في بيته في روضة المقياس علي النيل في المنيل حاليا، وأتفرغ للقراءة والكتابة والتأليف، ومكنش بيقابل حد خالص. لدرجة أن الشيخ العلامة "شهاب الدين القسطلاني" من الشيوخ اللي بيهاجموا "السيوطي" حس بالذنب وخسارتهم وخسارة طلاب العلم بأعتزال قامة زي "السيوطي"، فراحله لبيته في الروضة حافي القدمين وعاري الرأس من عمته خالص، ودي رسالة عظيمة زي ما ذكرنا في معني العمائم في الفترة دي، وكأنه جايله متذلل. ورغم كده رفض "السيوطي" يفتحله الباب أو يستقبله، غاية ما هناك قاله من ورا الباب أنه مسامحه وبس.
حتي السلطان "الغوري" بعت ل "السيوطي" في عزلته فرفض يخرج، فبعتله ألف دينار وغلام، فأعتق الغلام ورد الألف دينار. وفضل الشيخ العلامة "جلال الدين السيوطي" معتزل الناس حتي الشارع مشافوش لمدة 8 سنين، ألف فيهم أروع وأعظم مؤلفاته اللي فضلت موجودة لحد الآن بينهل منها طلاب العلم.
وقبل فجر 19 جمادي الأول سنة 911 هجري/ 20 أكتوبر 1505م، بيتوفي الإمام الجليل "جلال الدين السيوطي" عن عمر 61 سنة، بعد ورم في دراعه اليمين أستمر أسبوع وفي الغالب كان بسبب أنسداد في شرايين القلب من القعدة الطويلة بلا حركة كفاية. واندفن في حوش قوصون اللي اتعرفت بقرافة سيدي جلال بحي السيدة عائشة.
مروة طلعت
28 / 4 / 2024
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
#جلال_الدين_السيوطي
المصادر:-
سلسلة أعلام العرب (37) - عبد الحفيظ فرغلي القرني.
التحدث بنعمة الله - جلال الدين السيوطي.
مؤرخو مصر الإسلامية - محمد عبد الله عنان.
جلال الدين السيوطي - د/ مصطفي الشكعة.
تعليقات
إرسال تعليق