الليث بن سعد 2
(2) قرية قلقشندة التابعة لمركز طوخ في محافظة القليوبية حاليا، كان أهل القرية متجمعين في حلقات الذكر والصلاة وقراءة القرآن كالعادة في ليلة النصف من شعبان الموافق يوم الجمعة في سنة 94 هجرية. وليلة النصف من شعبان للمصريين وخصوصا لأبناء الريف ليها قدسيتها ويعتبر موسم ولحد الآن موجود الاحتفال بيها في القري المصرية الجميلة. بس ليلة النصف من شعبان دي بالذات كانت مختلفة، خصوصا في بيت "سعد بن عبد الرحمن الفهمي" عين أعيان البلد والبلاد المجاورة واللي يملك أرض واسعة خصبة في قلقشندة وفي كل القري اللي في طوخ، واللي بتنتج أحسن الزرع وأشهي أنواع الفواكة، كان "سعد بن عبد الرحمن الفهمي" ربنا رازقه المال والبنون من وسع والخير عنده والثراء ملوش حدود.
في ليلة النصف من شعبان سنة 94 هجرية، كانت الزغاريد في بيت "سعد" منطلقة مسمعة البلد كلها لقدوم مولود جديد له، واللي الكل تفاءل بيه وبقدومه في ليلة مباركة، وكأن السماء أعطت أشارة بأنه مولود مبارك، فكان المولود هو "الليث بن سعد".
بعض المؤرخين قالوا أن أصل "الليث بن سعد" عربي، ودليلهم أن جده "الفهمي" نسبه لقبيلة "فهم" وهم بطن من قيس عيلان ومرجعهم الي العدنانية، زي ما قال العلامة "جلال الدين السيوطي". ده إلي جانب ملحوظة تانية أن أسمه بالكامل "الليث بن سعدد بن عبد الرحمن الفهمي" كلها أسماء عربية، ده غير أنه يبقي ابن عم والي مصر "الوليد بن رفاعة بن ثابت بن ظاغن الفهمي" المتولي علي مصر سنة 109 هجري، وهو عربي خالص من غير شك. لكنه زي كتير من اللي عاشوا في مصر واتجنسوا فيها، أصله عربي لكنه ووالده مواليد مصر عاشوا فيها واتجوزوا وتصاهروا منها، وأتعلموا فيها فأصبح هواهم وتفكيرهم وأنتمائهم مصري.
كان "سعد بن عبد الرحمن" بيهتم جدا بتعليم أولاده، كان عارف ومتأكد أن العلم زينة الرجل العاقل. وكانت أول خطوة في تعليم "الليث بن سعد" حفظ كتاب الله سبحانه وتعالي، ويتعلم أساسيات القراءة والكتابة، ومن بعدها يبدأ يتعلم علوم القرآن والحديث وأفرع اللغة العربية والفقة وعلوم الاسلام في العموم. وفي سن صغير، أصغر من زملاؤه اللي بيتعلموا معاه، أظهر "الليث بن سعد" نبوغ سريع، فأتم حفظ القرآن الكريم وعلوم اللغة العربية والحديث والفقه بشكل أبهر معلميه.
عشان نفهم أكتر شكل التعليم اللي تلقاه "الليث بن سعد" أكتر، لازم نفهم طبيعة الحياة العلمية في مصر في الوقت ده. مصر طول عمرها ولادة دي حقيقة مش كلام وشعارات، طبيعة المصري لو أخد فرصة وأتصقل بخلفية فكرية كويسة، هيثبت نفسه وبجدارة. واللي حصل في البيئة المصرية في الوقت ده خلت مصر تعتبر من أهم منارات العلوم الاسلامية من بعد المدينة. لما "عمرو بن العاص" رضي الله عنه فتح مصرسنة 21 هجرية، دخل معاه مصر كتير من الصحابة، ومن بعد فتح مصر كانت أرضها بتستقبل صحابة منهم "عمرو بن العاص وأبو ذر و الزبير بن العوام و سعد بن أبي وقاص" عليهم رضوان الله، والتابعين بقي كتير جدا، لقوا في أرضها السكينة وفي شعبها الطيب الترحاب والونس والأمان. الصحابة والتابعين لقوا في أهل مصر عقول متعطشة للمعرفة، وزي ما حصل في كل الحضارات اللي أستقبلتها مصر قبل كده، أخد المصريين ثقافة وعلوم العرب المسلمين وخلطوها بعلوم حضارتهم المصرية وعملوا مابينهم مكس فخرجت من أرضهم للعالم كله الحضارة الاسلامية مغلفة بطعم وأسلوب مصري، حتي أن الوافدين العرب أصبحوا بالتدريج مصريين حتي النخاع.
الدارس لتاريخ الفكر الاسلامي هيبقي فاهم كويس أثر مصر في حياة الفكر الاسلامي وتوجهاته. فابيئة المصرية دايما بيئة ملهمة، ليها شخصيتها المستقلة وطبعها المتميزالنابع من تاريخها العريق المؤثر في الحضارة الانسانية عموما. بالنسبة للفكر الاسلامي في مصرفكان من سماته الرغبة في المعرفة والبحث الدقيق في الأصول وفهم وتحليل الأسباب المؤدية لوجود الأصول ومن هنا كان المصري قادر علي كشف الغموض في أي حاجة منها، مكنش باحث ياخد الاصل ويطبقه لازم يفهم ويحلل ويدقق ويقتنع، ومن هنا يقنع اللي حواليه وحجته ساعتها بتكون قوية جدا. وعشان كده مصر كانت مهبط الدارسين ومكان الباحثين عن التجارب العلمية والفلسفية.
كان في مصر مدرستين أو جامعتين مهمين جدا، الاولي هو "جامع عمرو بن العاص" واللي تكونت أساتذتها من الصحابة زي "أبو ذر الغفاري وعبد الله بن عمرو بن العاص" وغيرهم كتير من الصحابة والتابعين، واللي سماهم المحدثين في سجلاتهم بأسم "المصريين"، تخيل أنت لما صحابة وتابعين يتجنسوا رسمي وبفخر. المدرسة أو الجامعة التانية هي "جامعة الفسطاط" ودي كان بيدرسوا فيها علوم مصر القديمة والفلسفة والتحليل المنطقي.
لك أنت تتخيل أن "الليث بن سعد" كان نتاج تعليم الجامعتين دول مع بعض، درس في الجامعة دي ودرس في الجامعة دي، وأتقن علوم دي وأتقن علوم دي. كان الطالب اللي تشبع بالثقافتين وكان دليل حي علي المكس اللي أتكلمنا عنه فتفوق علي أساتذته لكنه عمره ما أعترف بكده، لكن المعاصرين له أعترفوا وبأكتر من كده. "الليث بن سعد" درس اللغة العربية والقرآن الكريم والحديث وعلوم الفقه والشعر العربي، ودرس حضارة مصر القديمة والحضارات والثقافات العالمية، وكان متحدث بارع باللغات المصرية واليونانية واللاتينية الي جانب العربية.
روي "ابن حجر العسقلاني" عن "يحيي بن بكير" أنه قال: (سمعت شرحبيل بن يزيد يقول أدركت الناس في زمن هشام بن عبد الملك، وهم متوافرون مثل يزيد بن حبيب، وعبيد الله بن أبي جعفر، وجعفر بن أبي ربيعة، والحارث بن يزيد، وأبو هبيرة، ومن يقدم مصر من علماء أهل المدينة ومن علماء أهل الشام للرباط، والليث بن سعد يومئذ حدث شاب، وإنهم ليعرفون فضله ويشار إليه).
معني الكلام أن "الليث بن سعد" وهو لسه شاب صغير مكملش 20 سنة كان معروف لكل الأئمة والشيوخ والصحابة والتابعين اللي بيجوا مصر، لأنه أولا مكنش بيسيب إمام ولا صحابي ولا تابعي الا ويروح يتعلم منه، ثانيا أنه كان بيلفت نظرهم من كتر أسئلته ومناظراته معاهم، فعرفوا من خلالها أد إيه أنه واسع العلم ونابغة متميز.
والدليل علي كده قول "يعقوب بن سفيان" لما قال سمعت "يحيي بن بكي"ر يقول سمعت "الليث بن سعد" يقول: (رآني يحيي بن الأنصاري، وقد فعلت شيئا من المباحات فقال لا تفعل، فإنك إمام منظور).
معني الكلام أن "يحيي بن الانصاري" لفت نظر "الليث" وهو لسه في العشرين، أنه لازم ياخد باله من كل كبيرة وصغيرة في تصرفاته وأقواله لأنه بقي إمام له ثقله وعليه العين. ف"الليث بن سعد" وهو لسه شاب صغير السن وصل لمكانة كبيرة بجده وإجتهاده وعلمه وذكائه الحاد وذاكرته القوية جدا.
(يتبع)
مروة طلعت
13 / 4 / 2024
الجزء الاول
https://www.facebook.com/share/p/5uLurV1dtzovwdSK/?mibextid=Nif5oz
#الليث_بن_سعد
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
المصادر:-
سير أعلام النبلاء الطبقة السابعة - الامام الذهبي.
أئمة الفقة التسعة - عبد الرحمن الشرقاوي.
لب الألباب في تحرير الأنساب - جلال الدين السيوطي.
الرحمة الغيثية في الترجمة الليثية - ابن حجر العسقلاني.
الليث بن سعد فقيه مصر - دكتور السيد أحمد خليل.
الليث بن سعد الفقيه والمحدث والانسان - دكتور أحمد علي سليمان.
تعليقات
إرسال تعليق