الراشد العمري 11
(11) كان من عادة الناس الوقوف بين أيدي الملوك والأباطرة في كل زمان ومكان، يعني الملك أو الأمبراطور يبقي قاعد علي عرشه وكل الناس وقفة في حضرته ومحدش يقعد قصاده طول لقائهم معاه ولا يديله ضهره وهو خارج. لكن الاسلام غير العادة دي وجعل الوقوف للداخل أو للكبير عموما أحترام ومن مكارم الأخلاق، لكن بمجرد جلوسه الكل بيقعد جنبه وحواليه. والعادة دي توارثها الخلفاء الراشدين من رسول الله صلي الله عليه وسلم. لكن بعد الخلفاء الراشدين، خلفاء بني أمية بعجرفتهم وغطرستهم وعصبيتهم رجعوا عادات الملوك والأباطرة تاني، وبقي كل الناس في حضرة الخليفة وقوف.
لما تولي "عمر بن عبد العزيز" الخلافة، ومن أول يوم فيها ودخل قاعة الحكم،قام الناس بين ايديه زي ماهم متعودين. فقال لهم "عمر بن عبد العزيز": "يا معشر المسلمين إن تقوموا نقم وإن تقعدوا نقعد، فإنما يقوم الناس لرب العالمين، وإن الله فرض فرائض وسن سننا، من أخذ بها لحق ومن تركها محق". كان واضح من أول لحظة أنه بيهد كل الموروثات من خلفاء بني أمية السابقين وأنه بيعدل الدفة لمنهج رسول الله صلي الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين، فنجح في السيطرة علي نفسه وأهواءه، وصحح مفاهيم المجتمع، وعرف اللي كان متعود علي لحس النعال أن أسلوبه المرة دي مش نافع فهو أمام خليفة من عينة الخلفاء الراشدين حازم في شرع وحدود الله.
فضلت الوفود تتوافد علي دمشق من كل البلاد الأسلامية عشان تهني أمير المؤمنين "عمر بن عبد العزيز" بالخلافة والكل مستبشر بيه بحكمته وعدله، فسمعته كانت مسمعة في كل مكان وألف مين له حكاية معاه مبهور بيها وبيحكيها للناس بتدل علي رجاحة عقله وتدينه وحلمه وعدله وحزمه، يعني كل الصفات الجميلة والمميزة اللي بيحلم بيها الرعية. وفي يوم دخل عليه وفد من الحجاز، وبعد ما سلم الوفد علي أمير المؤمنين وقعدوا، أندش "عمر" لما لقي غلام صغير مكملش 15 سنة هو اللي هيبتدي بالكلام عن الوفد اللي معاه واللي كلهم من أكابر الحجاز. فقال "عمر": "مهلا يا غلام ليتكلم من هو أسن منك". يعني خلي الكلمة لحد كبير. فقال الغلام: "مهلا يا أمير المؤمنين، المرء بأصغريه قلبه ولسانه، فإذا منح الله العبد لسانا لافظا وقلبا حافظا، فقد استجاد له الحلية، يا أمير المؤمنين لو كان التقدم بالسن لكان في الأمة من هو أسن منك". هنا "عمر" بيعجب جدا بفصاحة الغلام وعقله، وطبعا لو كان قال الكلمتين دول قصاد "الوليد بن عبد الملك" مثلا ولا "عبد الملك بن مروان" كان زمان الغلام أتعدم بتهمة العيب في ذات الخليفة، لكن "عمر بن عبد العزيز" قاله: "تحدث يا غلام". قال الغلام: "نعم يا أمير المؤمنين، نحن وفود التهنئة لا وفود المرزئة، قدمنا إليك من بلدنا، نحمد الله الذي من بك علينا لم يخرجنا إليك رغبة ولا رهبة، أما الرغبة فقد أتانا منك إلي بلدنا، وأما الرهبة فقد أمننا الله بعدلك عن جورك". بصراحة الوفد أحسن أختيار الغلام الفصيح ده للكلام، والموقف كله دليل علي حلم "عمر" وتشجيعه للكفاءآت حتي لو غلام، ومكتفاش "عمر" بكده ده حب يزيد ثقة الغلام في نفسه أكتر فقاله: "عظنا يا غلام وأوجز"، ده ايه الروعة دي أمير المؤمنين بيطلب من غلام 13 سنة تقريبا أنه يوعظه، يوعظ المجدد الأول في الاسلام، متخيل الدرس الأخلاقي والتربوي اللي بيقدمه "عمر بن عبد العزيز" مش بس للغلام ده للأمة كلها. قال الغلام: "نعم يا أمير المؤمنين، إن أناسا من الناس غرهم حلم الله عنهم، وطول أملهم وحسن ثناء الناس عليهم، فلا يغرنك حلم الله عنك، وطول أملك وحسن ثناء الناس عليك فتزل قدمك".
كان "عمر بن العزيز" من أول يوم تولي فيه الخلافة، وهو فاتح أبوابه لأي سائل أو صاحب شكوي أو مطلب من غير عوائق، والرسايل اللي بتجيله من كل مكان كان بيستلمها بنفسه وبيشدد أن محدش يفتحها غيره. وفي يوم وصلته رسالة من سيدة مصرية بسيطة أسمها "فرتونة السوداء مولاة ذي أصبح" كان عندها بيت فيه عشة فراخ وحيطة العشة دي قصيرة فكان حراميو الفراخ بينطوا ويسرقوا من فراها بسهولة وهي ست غلبانة مش معاها تبني مكان يكفيها شر الحرامية. ست بسيطة وغلبانة سمعت وشافت عدل "عمر" فتوسمت فيه يحللها مشكلتها اللي تبان بسيطة أو تافهة جنب مسؤوليات الحكام ومشاغلهم العامة وده أمير المؤمنين مش مجرد والي مصر، لكن مشكلتها لا كانت بسيطة ولا تافهة بالنسبة ل "عمر بن عبد العزيز". فورا بمجرد ما "عمر" قرا رسالة الست "فرتونة" كتب رسالة ل "أيوب بن شرحبيل" والي مصر قاله فيها: "من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلي ابن شرحبيل، أما بعد فإن فرتونة مولاة ذي أصبح كتبت تذكر قصر حائطها، وأنه يسرق منه دجاجها وتسأل تحصينه لها، فإذا جاءك كتابي هذا فأركب أنت بنفسك إليه حتي تحصنه لها". أول ما قرا "ابن شرحبيل" رسالة "عمر بن عب العزيز" خرج بنفسه زي ما أمره "عمر بن عبد العزيز" يسأل ويدور عن "فرتونة" لحد ما لقاها ست غلبانة عايشة في الجيزة. وأول ما قابلها في بيتها سلمها رسالة من أمير المؤمنين "عمر بن عبد العزيز" بيرد فيها بنفسه علي رسالتها وكتب فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلي فرتونة السوداء مولاة ذي أصبح، بلغني كتابك وما ذكرت من قصر حائط وأنه يدخل عليك فيسرق دجاجك، فقد كتبت كتابا الي أيوب بن شرحبيل آمره بأن يبني لك ذلك يحصنه لك مما تخافين إن شاء الله". والله أنا متخيلة أحساس الست "فرتونة" اللي في الغالب بعتت الرسالة وهي حاسة أنها في أغلب الظن مش هتتقري بس قالت أهي محاولة يا صابت يا خابت، فيقوم والي مصر بنفسه يتحرك بجنوده وعماله يدوروا عليها ويجولها لحد باب بيتها ويبنوله بيتها ويحصنوه وكمان رسالة من أمير المؤمنين ليها مخصوص بخط ايده تطمنها وتعرفها أنها عايشة في أيام خير وعدل ورحمة غير كل الأيام اللي فاتت.
في يوم وصل ناس من أهل المدينة المنورة ل "عمر بن عبد العزيز" بلد ولادته ومنشأه وصباه وشبابه، بلده اللي كان والي عليها قبل كده. وقعد "عمر" يتكلم معاهم ويعرف منهم كل أخبار المدينة واللي فيها. وبدأ يسأل ويقول: "ما فعل المساكين الذين كانوا يجلسون في مكان كذا وكذا؟" يردوا: "قد قاموا منه يا أمير المؤمنين". قال: "ما فعل المساكين الذين يجلسون في مكان كذا وكذا؟" يردوا: "قد قاموا منه وأغناهم الله". قال: "وكان من أولئك المساكين من يبيع الخبط للمسافرين" - الخبط هو نوع من من الشجر بتاكله الجمال - يردوا: "قد أغنانا الله عن بيعه بما يعطينا عمر بن عبد العزيز". يعني مبقاش فيه في المدينة لا فقرا ولا مساكين زيهم زي كل البلاد الاسلامية وقتها، الكل أتغني بفضل الله ثم بفضل سياسة "عمر بن عبد العزيز" في توزيع أموال المسلمين اللي كان أساسها العدل والرحمة، فبدل ما كانت الفلوس متوجهة لجهة معينة وجماعة أه وجماعة لا، قسم كل الفلوس علي كل الجهات والجماعات بالعدل، فاستغني الناس عن الشغل الشاق اللي كان مبيكفيش وبقت عيشتهم غنية ومرتاحة.
في يوم دخل رسول من أمير المؤمنين "عمر بن عبد العزيز" مسجد الكوفة ونادي في الناس بالتجمع لسماع خطاب موجه للرعية، وبعد ما الناس بلغت بعضها والكل أتجمع داخل المسجد. فتح الرسول الرسالة وبدأ يقرا بصوت عالي ويقول: "من كانت عليه أمانة لايقدر علي أدائها فأعطوه من مال الله، ومن تزوج امرأة لايقدر أن يسوق إليها صداقها فأعطوه من مال الله". "عمر بن عبد العزيز" عمل أصلاح عام للفرد والمجتمع، وكان عارف أن راحة الفرد وسداد أحتياجاته الأولية والأساسية هيأدي لأستقامة المجتمع ككل. وكان الزواج وعفة الشباب من أساسيات احتياجات الفرد، وأحتياج قوي لحماية المجتمع من جرائم كتيرة وفواحش. مراحش بقي وقال للآباء خفوا مهور بناتكم ومتتشرطش علي العريس، ولا رمي اللوم عليهم وقالهم خلوا بناتكوا تبور، ولا راح للعريس وقاله كل فولة وليها كيالها ودور علي اللي أد أمكانياتك. هو راح للعريس فعلا وقاله أختار اللي أنت عاوزه ولو مش معاك مهرها اللي طالبه أبوها زي مايحب، بيت المال هيدفع ويجهزك ويجوزك ويديك نقطتك كمان. والحال مكنش بس علي راغبي الزواج، ده شمل كمان الغارمين، ماهو الفرد أكيد مش هبقي سوي نفسيا طول ما فيه علي صدره هم الدين اللي عليه طابق علي نفسه. كتب أمير المؤمنين "عمر بن عبد العزيز" الي عماله وقال: "أن أقضوا عن الغارمين". يعني أدفعوا ديون المتعسرين في السداد. فرد عليه عماله برسالة قالوا فيها: "إنا نجد الرجل له المسكن والخادم، وله الفرس، وله الأثاث في بيته". العمل بيعملوا دراسة حالة عن الأكثر احتياج للأموال، فبيلاقوا الناس عندهم بيت، وحصان اللي هو العربية في زمنا، وأثاث والدنيا عادية، وده من وجهة نظرهم مش غارم. لكن "عمر بن عبد العزيز" رد عليهم وقال: "لابد للرجل من المسلمين من مسكن يأوي رأسه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، وأثاث في بيته، ومع ذلك فهو غارم، فأقضوا عنه ما عليه من الدين". هنا بيضرب "عمر بن عبد العزيز" أروع مثال للرحمة، فمن حق الغارم أنه يعيش مستور وفي عيشة كويسة، يعني مش عشان مديون يبيع بيته وينام في الشارع ولا يبيع عفش بيته وينام ع البلاط ولا حتي يبيع فرسه اللي مفروض انه نوع من أنواع الرفاهية لكن "عمر" شايف أنه من الأساسيات مش رفاهية ده كمان من الأساسيات أنه يكون عنده خادم أصلا، ومش من حق حد يفرض عليه أنه يفرط في حاجة منهم عشان يسد دينه، ده واجب الدولة وبيت المال.
البلاد الاسلامية كان فيها المسلمين وأهل الذمة (المسيحي واليهودي) وهم كمان كانوا من رعايا الخليفة، فكانت رحمة وعدل "عمر بن عبد العزيز" شملاهم. في يوم بعت أمير المؤمنين "عمر بن عبد العزيز" رسالة الي "عدي بن أرطأة"والي البصرة قاله فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين الي عدي بن أرطأة ومن قبله من المسلمين والمؤمنين سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا اله الا هو، أما بعد فأنظر أهل الذمة فأرفق بهم، وإذا كبر الرجل منهم وليس له مال فأنفق عليه، فإن كان له حميم فمر حميمه ينفق عليه". يعني كبار السن اللي ملهمش دخل ولا قوة للعمل وملوش حد ينفق عليه، نفقته ودخله من بيت مال المسلمين. وكان معروف عن "عمر بن العزيز" أنه لما بيمشي وسط الناس ويمر علي جماعة من أهل الذمة كان بيقعد ياكل وسطهم بس بشرط يدفع تمن اللي أكله وفي الغالب مكنش بياكل أكتر من درهم، وده تصرف فرضه علي نفسه فقط في العموم لأن الرعايا مسؤولين منه فمش من حقه ياكل أو ياخد منهم حاجة يخاف يتسأل بيها من الله، لكن الأكل لينا عباد الله العاديين مع أخواتنا من أهل الكتاب بمحبة عادية.
هنقول ايه ولا ايه عن الخليفة الراشد "عمر بن عبد العزيز" الحكايات كتير والدروس كتير لأولي الألباب. ويسِتمر الحديث وتستمر الموعظة الحسنة.
(يتبع)
مروة طلعت
5 / 1 / 2023
#الراشد_العمري
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
المصادر:-
* بدائع الزهور في وقائع الدهور ج1 - محمد بن اياس.
* المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ج1 - تقي الدين المقريزي.
* البداية والنهاية ج9 - ابن كثير.
* سيرة عمر بن عبد العزيز - أبي الفرج بن الجوزي.
* صفوة الصفوة - أبي الفرج بن الجوزي.
* سير أعلام النبلاء ج 4،5 - شمس الدين الذهبي.
* الكامل في التاريخ ج3 - ابن الأثير.
* مختصر تاريخ دمشق - ابن منظور.
* عمر بن عبد العزيز - د/ محمد عمارة.
* عمر بن عبد العزيز - د/ علي محمد الصلابي.
* عبد العزيز بن مروان - د/ سيدة إسماعيل كاشف.
تعليقات
إرسال تعليق