الراشد العمري 10

يقول الامام "ابن سيرين" عن "سليمان عبد الملك بن مروان": "يرحم الله سليمان أفتتح خلافته بإحياء الصلاة، وأختتمها بإستخلافه عمر بن عبد العزيز". حكينا موضوع إحياء الصلاة قبل كدة بناء علي نصيحة "عمر بن عبد العزيز" لأمير المؤمنين "سليمان بن عبد الملك، تقدر ترجعلها في الجزء التامن من السلسلة. 

بعد ما أخد "عمر بن عبد العزيز" المبايعة له علي كره منه وكره من بني أمية وفرحة وترحيب من باقي الرعية من كل البلاد الاسلامية. وبعد ما احتشد باقي الناس في مسجد دابق وقف "عمر بن عبد العزيز" اللي خلاص أصبح أمير المؤمنين، علي المنبر وقال: «أيها الناس، إني قد ابتُليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم.». كلام ميتقلش فعلا غير من "عمر بن عبد العزيز" أو من رجل عارف حدود الله كويس يخشاه بحق، تخيل كده خليفة يقول للناس أن المنصب ده بلوة مستغني عنها ومش عاوزها. لا وكمان يدي الناس حرية أختيار الخليفة اللي هي أصلا وراثة، يعني مش بس وجوده تحدي لبروتوكول بني أمية لا ده كمان عاوز يقلبها شورة أصلا، يعني بني أمية من أول كلمة له شافوا أيام مش لطيفة جاية عليهم.

لكن الناس اللي عارفين كويس مين هو "عمر بن عبد العزيز" واستبشروا بأيام جاية مليانة عدل وخير في عهده، أول ما سمعوا كلمته صرخوا وقالوا في نفس واحد: "قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك، فولِّ أمرنا باليمن والبركة". لما لقي "عمر بن عبد العزيز" التمسك الصادق ده بيه، وكلهم أمل فيه، ملقاش مفر ولا هروب من قبول الخلافة، وقرر أنه يكون واضح من البداية ويعرض خطته ومنهجه قصاد الناس فقال لهم: 


"أما بعد، فإنه ليس بعد نبيكم نبي، ولا بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب، ألا إن ما أحل الله حلال إلى يوم القيامة، ألا إني لست بقاضٍ ولكني منفّذ، ألا وإني لست بمبتدع ولكني متبع، ألا إنه ليس لأحد أن يُطاع في معصية الله، ألا إني لست بخيركم، ولكني رجل منكم، غير أن الله جعلني أثقلكم حملاً.يأيها الناس، من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلا فلا يقربنا: يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا من الخير على ما نهتدي إليه، ولا يغتابن عندنا الرعية، ولا يعترض فيما لا يعنيه. أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء وليس من تقوى الله عز وجل خلف، واعملوا لآخرتكم، فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر دنياه، وأصلحوا سرائركم، يصلح الله الكريم علانيتكم، وأكثروا من ذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنه هادم اللذات. وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل، ولا في نبيها صل الله عليه وسلم، ولا في كتابها، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً، ولا أمنع أحداً حقاً".
ورفع صوته أكتر وقال: 

"يا أيها الناس، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. وإن من حولكم من الأمصار والمدن، فإن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا وليكم، وإن هم نقموا فلست لكم بوالٍ".

أجمع العلماء والمؤرخين والدارسين للحركة التجديدية اللي عملها "عمر بن عبد العزيز"، علي أن الخليفة الراشد "عمر بن عبد العزيز" هو المجدد الأول في الأسلام. يعني ايه مجدد؟؟ فيه حديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم بيقول: "إن الله يبعث لهذه الأمة علي رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها". و"عمر بن عبد العزيز" تولي الخلافة سنة 99هجرية، يعني علي رأس المائة الأولي في الأسلام. وأول من قال بكده كان الامام "محمد بن شهاب الزهري" ومن بعده قالها الامام "أحمد بن حنبل".

أول بشاير تجديده كان في خطبة الخلافة الأولي زي ما ذكرنا، لما تنازل وأعطي للناس حق الاختيار فأختاروه عن محبة واقتناع رغم رفض بني أمية الأسرة الحاكمة له، وبكده حول الحكم الي الشوري، وده مكنش موجود في من سبقه من خلفاء بني أمية. ومن أول لحظة أخد المسؤولية وهو مغموم من بعظمتها وتقلها، ولما سألوه انت ليه مغموم ده أنت الخليفة مفروض تبقي سعيد، قال لهم: "لمثل ما أنا فيه فليغتم، ليس لأحد من الأمة الا وأنا أوصل اليه حقه غير كاتب إلي فيه، ولا طالبه مني"، وقال: "لست بخير من أحد منكم، ولكن أثقلكم حملا".

من مظاهر تجديده أنه رجع الحكم للدين مرة تانية، أو بمعني أصح أنه أعاد الهدف الاول للحكم والخلافة الاسلامية لطريقها الصحيح، وهو الحكم بالقرآن والسنة بعد ما خدت الخلافة قبله علي ايد سابقيه من بني أمية طريق بعيد تماما عن مبدأ الحكم الاسلامي، وسلكوا مسلك الأباطرة الأوليين في الحكم. ولأن "عمر بن عبد العزيز" عارف ان الاصلاح او التجديد لازم يبدأ من النفس، فقرر أن كل قوانينه اللي هيفرضها تتاخد علي بيته ونفسه في البداية ومش بس كده ده فرض علي نفسه أضعاف من المفروض علي باقي الناس. يعني "عمر بن عبد العزيز" الشاب اللي كان بيحب الملابس الزاهية الفاخرة والعطور والاكل الحلال الطيب، واللي كان عنده زوجات وجواري وعبيد من حر ماله الشخصي وورثه من أبوه، فجأة رجع بيته بعد ما أخذ البيعة بالخلافة، وجمع كل أهل بيته وقالهم أنه دلوقتي لايملك من أمر نفسه شئ وأنه يخشي الله في كل فعل وقول وخطوة لأن حساب الآخرة هيكون عليه مضاعف فلازم من الزهد في الحياة يكون مضاعف.

قال التابعي الامام "مالك بن دينار": "الناس يقولون مالك بن دينار زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها". أخرج "عمر بن عبد العزيز" غالبية ماله الي بيت المال، حتي أموال وذهب ومجوهرات زوجته  "فاطمة بن عبد الملك" بنت الخليفة "عبد الملك بن مروان" وحفيدة الخليفة "مروان بن الحكم" وأخت الخليفة "الوليد و سليمان بن عبد الملك" وزوجة الخليفة "عمر بن عبد العزيز"، 
عن رضا منها بعد ما خيرها تلازمه في حياته الزاهدة أو تسريح بأحسان فأختارته في كل أحواله، وزي ما خير باقي زوجاته "لميس بنت علي بن الحارث" و "أم عثمان بنت شعيب بن ريان". والجواري أعتقهم والعبيد أداهم للمكفوفين وذوي الاحتياجات من الرعية اللي معندهمش حد يرعاهم. وبقي يلبس الثياب الخشنة، وياكل أقل القليل من الاكل اللي يسد جوعه ويخليه يصلب طوله مش أكتر، لدرجة أنه كان بيصرف علي أكله وشربه وزوجاته التلاتة واولاده ال 16 في اليوم دينارين بس وده مين، ده الخليفة أمير المؤمنين اللي حكمه ممتد شرق وغرب وشمال وجنوب. ووصل زهده أنه لما أشتاقت نفسه للحج فقال ل "مزاحم" خادمه المقرب: " إني قد أشتهيت الحج، فهل عندك شئ؟". قال "مزاحم": "بضعة عشر دينار". وبعد قليل جاله "مزاحم" يقوله بسعادة: "يا أمير المؤمنين تجهز، فقد جاءنا مال سبعة عشر ألف دينار من بعض مال بني مروان". قال "عمر": "اجمعها في بيت المال، فإن تكن حلالا فقد أخذنا منها ما يكفينا، وإن تكن حراما فكفانا ما أصابنا منها". فلما حزن "مزاحم" وبان علي وشه، قاله "عمر": "ويحك يا مزاحم لا يكثرن عليك شئ صنعته لله، فإن لي نفسا لم تتق إلي منزلة فنالتها، إلا تاقت الي ما هي أرفع منها، حتي بلغت اليوم المنزلة التي ليس بعدها منزلة، وإنها اليوم قد تاقت الي الجنة".

سك "عمر بن عبد العزيز" عملة جديدة وكتب عليها أمر الله بالوفاء والعدل". وأمر عماله بأختيار اللي يولوهم من أصحاب الكفاءة والدين، وكتب رسالة ليهم قال فيها: "لا تولين شيئا من أمر المسلمين الا المعروف بالنصيحة لهم، والتوفير عليهم، وأداء الأمانة فيما أسترعي". وكان حريص جدا علي أموال بيت المال متتصرفش الا في الحاجة اللي فعلا محتاجة صرف مش في التفاهات لدرجة أنه كتب لواحد من عماله "أبي بكر بن حزم" وقال له: "أدق قلمك، وقارب بيب أسطرك، فإني أكره أن أخرج من أموال المسلمين ما لا ينتفعون به"، يعني بلغ حرصه حتي في اهدار الحبر والورق اللي بيكتبوا بيه. ونتيجة الحرص ده عاشت الرعية أيام "عمر بن العزيز" في ترف ورغد ونعيم وخير. قسم العطاء في أهل الحاجات وقسم في فقراء أهل البصرة 3 دراهم لكل انسان، وطلب من عماله يجهزوا أي حد عاوز يحج ومش معاه يطلع يحج علي نفقة بيت المال من كله ويسيب لأهل بيته كمان فلوس لحد ما يرجع. وأمر كل والي يعمل خانات للمبيت علي الطرق وأي حد معدي محتاج المبيت ينزل فيه أكل وشرب ليه وعناية واكل للدابة اللي راكبها يوم بليلة ولو مريض يقعد يومين بليلتين ولو مش معاه اللي يكمل بيه سفره من زاد او مال يدوله وكل ده من بيت مال المسلمين.

وفي أيام "عمر بن عبد العزيز" مكنتش الناس لاقية حد محتاج للزكاة. فكان الناس يطلعوا بزكاتهم علي بيت المال فميلاقوش حد خالص محتاج فلوس ويلفوا وينادوا أي حد محتاج مكنش حد بيرد فالكل معاه ومستكفي ومش محتاج وزيادة. في الاخر كانت الفلوس ياخدها بيت المال عشان يفدي بيهم أسري المسلمين من حروبهم المتتالية.

ورغم ده كله بيبعت "عمر بن عبد العزيز" رسالة للامام "الحسن البصري" يسأله فيها عن الامام العادل حتي يطمئن قلبه، فيرد عليه الامام "الحسن البصري" ويقول: "الإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده؛ يسعى لهم صغاراً، ويعلمهم كباراً، يكتب لهم في حياته، ويدخرهم بعد مماته. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البّرة الرفيقة بولدها، حملته كرهاً، ووضعته كرهاً، وربته طفلاً، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتمّ بشكايته. والإمام العدل يا أمير المؤمنين وصيّ اليتامى وخازن المساكين، يربي صغيرهم. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه، وتفسد بفساده. والإمام العدل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويُسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم. فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملَّكك الله كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، فبدَّد وشرَّد العيال، فأفقر أهله وفرَّق ماله".

طلب "عمر بن عبد العزيز" من الولاه أم مفيش والي يؤمر بأقامة حد من حدود الله علي أي أنسان الا بعد الرجوع ليه في الأول. وكتب ل "الجراح بن عبد الله الحكمي" أمير خراسانوقال له: "يابن أم جراح لا تضربن مؤمنا ولا معاهدا سوطا الا في حق، وأحذر القصاص، فأنك صائر الي من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وتقرأ كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها".

وشمل عدل "عمر بن العزيز" أهل الذمة مش بس المسلمين، وأمر محدش يعتدي عليهم ولا يظلمهم ولا يأذيهم. وكتب لعماله وقال: "لا تهدموا كنيسة ولا بيعة، ولا بيت نار صولحتم عليه". ورفع المكوس وألغي العشور والضرايب اللي فرضوها الخلفاء اللي قبله، وأعطي للناس حرية التجارة في البر والبحر من غير قيود أو فروض.

   
(يتبع)

مروة طلعت

16 / 10 / 2023

الحكاية دي نتيجة مجهود بحثي وذهني أقدمها للقراء بكل حب مجانا، فمتبخلش عليا بلايك وكومنت عشان الفيس يزود الريتش والحكاية توصل لغيرك ويبقي تقدير منك لمجهودي وطبعا لو الشير كمان يبقي ده تقدير كبير ❤️

#الراشد_العمري

#عايمة_في_بحر_الكتب

#الحكاواتية

#بتاعة_حواديت_تاريخ

المصادر:-

* بدائع الزهور في وقائع الدهور ج1 - محمد بن اياس.

* المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ج1 - تقي الدين المقريزي.

* البداية والنهاية ج9 - ابن كثير.

* سيرة عمر بن عبد العزيز - أبي الفرج بن الجوزي.

صفوة الصفوة - أبي الفرج بن الجوزي.

* سير أعلام النبلاء ج 4،5 - شمس الدين الذهبي.

* الكامل في التاريخ ج3 - ابن الأثير.

* مختصر تاريخ دمشق - ابن منظور.

* عمر بن عبد العزيز - د/ محمد عمارة.

* عمر بن عبد العزيز - د/ علي محمد الصلابي.

عبد العزيز بن مروان - د/  سيدة إسماعيل كاشف.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خماراويه

السلطانة شجر الدر 6

نشأة محمد علي باشا