الراشد العمري 9
(9) كانت سياسة بني أمية في الحكم هي البطش والترهيب، اخذ كل الامور بالقوة وسفك الدماء. كان مبدأهم استقرار الحكم واعتدال الأمور بتكميم الافواه وده عن طريق تطيير الرقاب لكل من قال الأه حتي. لكن "عمر بن عبد العزيز" كنت رؤيته ان تحقيق استقرار الحكم يجي بالعدل ومنع الظلم والتعسف، ورد المظالم الي اهلها، وده عكس نظام الحكم الأموي تماما، وبالتالي سياسة "عمر بن عبد العزيز" وطريقة تفكيره وسط أهله من الأمويين يعتبر انقلاب سياسي خطير وحاد، لأنه بالمنظر ده بيواجه لوحده دولة كامة بجميع أركانها اللي في كل مكان وجحر مثبتين جذورهم اللي بتتغذي علي الظلم والقهر والدماء، وهيكون ليهم ردود فعل خبيثة من أصحاب المصالح اللي جو السلطة والظلم مريحهم. لكن ترتيب القدر كان له رأي أخر.
سين سؤال ماذا يحدث اذا أطال الله بقاك "الوليد بن عبد الملك بن مروان" علي قيد الحياة. جيم جواب كان سيتحايل علي قتل ابن عمه ونسيبه "عمر بن عبد العزيز" في أقرب فرصة، خصوصا بعد ما وقفله زي الشوكة في حلقه لما حب يغير ولاية العهد ويديها لابنه بدل اخوه "سليمان بن عبد الملك" اللي الناس بايعته في حياة أبوهم "عبد الملك بن مروان"، وكان "عمر بن عبد العزيز" من أبرز القلة اللي رفضت مبايعة ابن "الوليد" وتمسك بالعهد والمبايعة الأولي ل "سليمان".
سين سؤال تاني ما النتائج المترتبة علي وفاة "الوليد بن عبد الملك" ومن بعده "الحجاج بن يوسف". جيم جواب أولا انتقال الحكم بسلاسة ومن غير صراع وهدوء ل "سليمان بن عبد الملك بن مروان". ثانيا شال "سليمان بن عبد الملك" الجميل لابن عمه "عمر بن عبد العزيز" وقربه منه وخلاه مستشاره الاول في أمور الحكم. ثالثا بقي وده الأهم وفاة الشيطان الأكبر "الحجاج بن يوسف الثقفي" واللي كان ممكن بحيله وخططه الجهنمية المسمومة يميل "سليمان" ناحيته زي ما عمل مع "الوليد" وقبله أبوهم "عبد الملك". وبكده مالت الكفة ناحية "عمر بن عبد العزيز" بشكل قوي. ومهد القدر ل"عمر بن عبد العزيز" الأمور بحكم منصبه كمستشار لأمير المؤمنين أنه يأمره بالمعروف وينهيه عن المنكر، ومن هنا جت سياسة التدرج في الحكم والميل ناحية الحق والعدل وتوظيف الدولة لخدمة الشريعة الاسلامية. واحنا هنا بنقول تدرج لأن "سليمان بن عبد الملك" كان برده راضع سياسة الدم زي غيره من بني أمية، فكان فيه شطط في الحكم بين شد وجذب، يعني الامور مكنتش تحت سيطرة "عمر" 100% بس نقدر نقول ان "عمر" فرض سيطرته وميوله السياسية بنسبة 60%، ودي نسبة معقولة جدا في وسط طبيعة البيئة السياسية دي. واحنا اتكلمنا في الجزء اللي فات عن مواقف كتيرة كانت بين "عمر بن عبد العزيز" و "سليمان عبد الملك" بتدلل علي الكلام ده.
"سليمان بن عبد الملك" قعد علي كرسي الخلافة سنتين و8 أشهر، من جمادي الآخرة سنة 96 هجرية ل صفر سنة 99 هجرية. ولما بقي أمير المؤمنين كان لازم يختار ولي العهد بما أن مفيش بيعة سابقة - بيعة "عبد الملك بن مروان" كانت علي ولاده الاتنين "الوليد" و "سليمان" بس - فأختار "سليمان" ابنه "أيوب" لولاية العهد، وأخد البيعة من الكل علي كده وده كان في شوال سنة 96 هجرية. وزي ما ذكرنا في الجزء اللي فات أن أول حاجة عملها علي حسب نصيحة "عمر بن عبد العزيز" أنه يشيل كل حلفاء "الحجاج بن يوسف الثقفي" من ولاية البلاد أو مراكز الحكم عموما، وبدلهم بالأصلح واللي أختارهم "عمر" بنفسه بالأسم. وبالمرة صفي "سليمان" حساباته علي جنب بعيد عن "عمر" مع كل اللي بعت مبايعته لابن "الوليد بن عبد الملك". ماحنا قلنا ان "سليمان" كان له قراراته برده اللي بعيدة عن "عمر".
من ضمن الناس اللي بعتوا جواب مبايعة ل"الوليد بن عبد الملك" كان "زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب" رضي الله عنهم وعلي آل البيت أجمعين. وجواب المبايعة ده كان مبعوت بدافع الخوف من أذية وبطش "الوليد"، معروف أد ايه كانت معاملة الأمويين للعلويين قاسية، ومش بس للعلويين ده لأي مخالف، وميفرقش معاهم صحابي من تابعي من آل البيت، ما هو مفيش من بعد قتل "الحسن" و"الحسين" رضي الله عنهم وأرضاهم ومن بعدهم "عبد الله بن الزبير" والتمثيل بجسدته، حاجة. فلما لقي "سليمان بن عبد الملك" جواب المبايعة من "زيد بن الحسن"، فبعتله رسول يسأله وقاله لو أنت فعلا اللي بعت الجواب ده قولي ولو مش أنت هتحلف قصاد قبر رسول الله صلي الله عليه وسلم أن الجواب ده مش منك. طبعا "زيد بن الحسن" ابن حفيد رسول الله صلي الله عليه وسلم مش هيكدب، وأعترف أن الجواب منه. وهنا كتب أمير المؤمنين "سليمان بن عبد الملك" رسالة لوالي المدينة المنورة يأمره فيها بالقبض علي "زيد بن الحسن" رضي الله عنه وضربه 100 سوط ويمشيه حافي اذلال له. فالرسول وهو خارج من مجلس أمير المؤمنين، قابل "عمر بن عبد العزيز" اللي عرف منه مهمته ورسالته. فأمره - بما أنه مستشار أمير المؤمنين الأول - أنه ميسافرش دلوقتي ويستني لما يراجع أمير المؤمنين يمكن يعرف يحنن قلبه.
لكن حصلت حاجة قلبت كل موازين الخطط والأحداث. في محرم سنة 99 هجرية، أتصاب ولي العهد "أيوب بن سليمان بن عبد الملك" بالطاعون هو وكل أهل بيته، ومفيش كام يوم وكلهم توفوا. "سليمان بن عبد الملك" اتكسر ضهره حرفيا بوفاة ابنه "أيوب". دخل عليه ابوه "سليمان بن عبد الملك" و "عمر بن عبد العزيز" و العالم الفقيه "رجاء بن حيوة" و "سعد بن عقبة"، و"سليمان" مش شايلاه رجليه من شدة الحزن وكسرة القلب، فقاله "عمر": "يا أمير المؤمنين، الصبر أولى بك فلا تحبطن". وبعد دفنه قعد أبوه "سليمان بن عبد الملك" علي قبره وقال: وقوف علي قبر مقيم بقفره متاع قليل من حبيب مفارق. السلام عليك يا أيوب، كنت لنا أنسا ففارقتنا فالعيش من بعدك مر المذاق.
وصدق كلام "سليمان عبد الملك" في رثاء ابنه، لأنه مستحملش الحياة فعلا من بعده. ومن بعد رجوعهم من الدفن بيدخل "سليمان" في مرض وهزال وتعب، وكان كل ما الرسول بتاع رسالة "زيد بن الحسن" يروح ل"عمر بن عبد العزيز" يسأله يسافر وينفذ رسالة أمير المؤمنين، كان "عمر" يأجله بحجة مرض أمير المؤمنين.
في أيام مرض أمير المؤمنين "سليمان عبد الملك" الأخيرة، بعت يحضر العالم الفقية "رجاء بن حيوة" عشان يستشيره في أمر الخلافة ومين الأصلح في أولاده من بعد "أيوب". رد عليه "رجاء بن حيوة" وقاله: "إن مما يحفظ الخليفة في قبره أن يولي على المسلمين الرجل الصالح". فسأله "سليمان" يولي ابنه "داوود"، فرد عليه "بن حيوة" وقاله: "إنه غائب عنك بالقسطنطينية ولا تدري أحي هو أو ميت". فلما احتار "سليمان" لحقه "بن حيوة" وقاله علي "عمر بن عبد العزيز" أعلمه والله فاضلاً خياراً مسلماً. قاله "سليمان" وهو أدري الناس ب"عمر" وببني أمية اللي عكس بعض: "هو على ذلك، والله لئن ولّيته ولم أولِّ أحداً من ولد عبد الملك لتكونن فتنة ولا يتركونه أبداً يلي عليهم إلا أن أجعل أحدهم بعده ويزيد بن عبد الملك غائب على الموسم" بحكم خبرة "سليمان بن عبد الملك" شاف اللي ممكن يحصل في المستقبل بين "عمر" وأهله من بني أمية وخاف تحصل فتنة، خصوصا ان الاحق من بعد أولاده أخوه مش ابن عمه. فقاله "بن حيوة": "فيزيد بن عبد الملك أجعله بعده، فإن ذلك مما يسكنه ويرضون به". أقتنع "سليمان بن عبد الملك" بالرأي ده، وفعلا كتب بنفسه وخط ايده رسالته ووصيته:
"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني وليته الخلافة من بعدي، ومن بعده يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله ولا تختلفوا فيُطمع فيكم" |
وبعتها لصاحب الشرطة عشان ينفذ وياخد المبايعات بأمر أمير المؤمنين. الجميل بقي في الامر أن "رجاء بن حيوة" خبي الرسالة عن "عمر بن عبد العزيز"، ولما سأله عنها رفض وحلف بالله ما يقوله اللي فيها. لأنه كان عارف ومتأكد أن لو "عمر" عرف أن المبايعة ليه، هيدخل ل"سليمان" يخليه يغيرها، لأنه كان زاهد في منصب تقيل عليه في آخرته زي ده. وتكتم الأمر تماما عن أخوات "سليمان بن عبد الملك" وأقاربه من بني أمية، الا عن ولاة البلاد اللي اتبعتلهم رسايل المبايعات. حاول "هشام بن عبد الملك" يدخل لأخوه أمير المؤمنين "سليمان بن عبد الملك" عشان يعرف منه مين علي الخلافة من بعده، فلقاه في سكرات الموت الأخيرة، وتوفي أمير المؤمنين "سليمان بن عبد الملك" يوم الجمعة 10 صفر سنة 99 هجرية في مدينة دابق جنب حلب، بعد وفاة ابنه "أيوب" ب 45 يوم.
وبعد الوفاة والدفن، أمر "بن حيوة" بتجميع كل آل بيت بني أمية في مسجد دابق. وقرأ عليهم رسالة ووصية "سليمان بن عبد الملك" المكتوبة بخط ايده ومختومة بختمه. وأول ما جه أسم "عمر بن العزيز" حصل وجوم وذهول وصمت جماعي، حتي من "عمر" نفسه. وفجأ قطع "هشان بن عبد الملك" الصمت وقام يصرخ ويقول: "لا نبايعه أبدا". فشخط فيه "رجاء بن حيوة" وقاله: "أضرب والله عنقك، قم وبايع". الحقيقة أن "بن حيوة" لعبها صح لأنه مركون علي مبايعات كل البلاد اللي معاه وكمان رسالة ووصية أمير المؤمنين اللي في ايده ولازمة النفاذ.
قام "رجاء بن حيوة" وشد "عمر بن عبد العزيز" وهو لسه مش مستوعب، ولما فاق بقي "بن حيوة" يشده و "عمر" يتراجع عاوز يهرب ومش عارف يعمل ايه، هي خلاص كده اتقفلت عليه غصب عنه. وقعده "بن حيوة" علي المنبر، وأمر كل بني أمية يقوموا يبايعوا أمير المؤمنين "عمر بن عبد العزيز". فقاموا وهم مكرهون يبايعوه، واخد "عمر" المبايعة وهو كمان كاره وبيفكر في الحمل التقيل اللي شاله وخوفه من الله عز وجل.
رحم الله العالم الفقيه "رجاء بن حيوة" وغفر له، اللي انتهز الفرصة المناسبة عشان يخدم الشرع والدين. ورحم الله "سليمان بن عبد الملك" اللي أطاع نصيحة الحق لعلها كانت المنجية له. ورحم الله خامس الخلفاء الراشدين "عمر بن عبد العزيز" رضي الله عنه وأرضاه.
(يتبع)
مروة طلعت
13 / 10 / 2023
#الراشد_العمري
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
المصادر:-
* بدائع الزهور في وقائع الدهور ج1 - محمد بن اياس.
* المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ج1 - تقي الدين المقريزي.
* البداية والنهاية ج9 - ابن كثير.
* سيرة عمر بن عبد العزيز - أبي الفرج بن الجوزي.
* صفوة الصفوة - أبي الفرج بن الجوزي.
* سير أعلام النبلاء ج 4،5 - شمس الدين الذهبي.
* الكامل في التاريخ ج3 - ابن الأثير.
* مختصر تاريخ دمشق - ابن منظور.
* عمر بن عبد العزيز - د/ محمد عمارة.
* عمر بن عبد العزيز - د/ علي محمد الصلابي.
* عبد العزيز بن مروان - د/ سيدة إسماعيل كاشف.
تعليقات
إرسال تعليق