الراشد العمري 8
(8) كان أمير المؤمنين "عبد الملك بن مروان" واخد البيعة لولاية العهد لابنه الكبير "الوليد بن عبد الملك" ومن بعده لأخوه "سليمان بن عبد الملك"، وده حصل من بعد موت "عبد العزيز بن مروان" أخو "عبد الملك بن مروان" اللي كان ولي عهده الأصلي، لكن القدر شاء أن ولي العهد يموت قبل الخليفة. وزي ما فكر "عبد الملك بن مروان" أنه يخالف البيعة وياخد ولاية العهد من أخوه ويديها لابنه بسبب وسوسة "الحجاج بن يوسف الثقفي"، "الوليد بن عبد الملك" برده ان عاوز يخالف البيعة وياخد ولاية العهد من أخوه ويديها لابنه وبرده بسبب وسوسة "الحجاج"، وكأن "الحجاج" غاوي فتن ووقيعة وخلاص.
ان كان مرض "عبد العزيز بن مروان" وخوف أخوه عليه وقف حائل قصاد رغبة "الحجاج" في المرة الأولي، ف "عمر بن عبد العزيز" كان الحائل وحائط الصد القوي اللي أتكسرت قصاده رغبة وأطماع "الحجاج" في المرة التانية. "الوليد" بعت لأخوه "سليمان" اللي كان والي علي فل.سط.ين وقتها، يعرض عليه فلوس مقابل أنه يتنازل عن ولاية العهد ويقبل بتغيير البيعة، لكن "سليمان" طبعا رفض. فبعت "الوليد" رسايل يأمر فيهم الولاة في كل البلاد بالبيعة لابنه "عبد العزيز بن الوليد". وهنا كان دور "عمر بن عبد العزيز"، وقف قصاد "الوليد" وعارضه بشدة وقاله: "لسليمان في أعناقنا بيعة"، ووقف في صف "سليمان" لأنه كان علي حق. ومن شدة المواجهة اللي كانت بينه وبين "الوليد"، فالأخير غضب بشدة واتعصب لدرجة انه مد ايده علي "عمر" وبقي يخنق فيه بمنديل، لولا "فاطمة بنت عبد الملك" زوجة "عمر" وأخت "الوليط" سمعت صوتهم العالي في الخناقة فدخلت عليهم جري وبقت تصوت لحد ما فكت مابينهم. ومن شدة غضب "الوليد" راح أمر الحراس يخرجوا أهل بيت "عمر" كلهم من البيت، وسجن "عمر" فيه لوحده من غير أكل ولا شرب، وكمان سد الأبواب والشبابيك بالطين، يعني عمله من بيته قبر، زي ما حكينا في الجزء اللي فات.
احنا ممكن نحلل شخصية "الوليد" بأنه رجل دنيا، غراه متع الحياة وسلطته ومركزه، شايف أنه صاحب الكلمة العليا ولا صوت بعد صوته، كله أوامره لازم تجاب حتي لو غلط أو ظلم. وشخصية زي دي بتبقي من جواها عارفة أنها علي خطأ، لكن التطبيل والتهليل اللي حواليها بيدوها الثقة في السعي في الخطأ من غير أي شعور باللوم. وواحد زي "عمر" بالنسبة له هو المنبة أو صوت ضميره، فلازم يسكت الصوت ده عشان ميحسش باللوم أو الندم لأي فعل بيعمله. ومع تكرار كشف "عمر" لل"الوليد" عن حقيقته الظالمة الفاسدة، اللي هو أصلا عارفها من جواه، كان كره ورفض "الوليد" ل "عمر" كل يوم بيكبر. عشان كده دايما صوت الحق مكروة، عشان بيوجع الضمير، فالأسهل اسكاته.
لكن فيه الحي الديان، ولكل شئ نهاية الا وجهه. "الحجاج بن يوسف الثقفي" و "الوليد بن عبد الملك" ماتوا في نفس السنة 95 هجرية و 96 هجرية، ولكل واحد فيهم في موته ساب أمارة وعبرة لسوء الخاتمة والعياذ بالله.
وبعد 7 أيام من وفاة "الوليد" وصل الخبر لأخوه "سليمان" في عاصمته الرملة. كان "سليمان" رجل قوي القرار، لكنه كان عكس أخوه "الوليد"، مكنش معجب بنفسه ولا شايف أن رأيه هو الأوحد، ومكنش من النوع اللي بيدي ودنه لحد، كان راجل عقلاني بيعرف يوزن الأمور. وده اللي كان مخلي "الحجاج" خايف منه وعاوزه ميمسكش الخلافة، كان فاكر نفسه هيعمر و"سليمان" هيجي عليه خليفة وساعتها احتمال يحاكمه ويعدمه علي جرايمه، بس ربنا كان رايدله المحاكمة العلوية وقبض روحه قبلها. أنا أريد وأنت تريد والله يفعل ما يريد.
لما دخل "سليمان بن عبد الملك" دمشق وجدد البيعة علي الخلافة، صعد المنبر بعد الصلاة وخطب في الناس اللي كانوا مستنين خطبته عشان يشوفوا شكل حياتهم الجاية هيبقي عامل ازاي، فقال:
"أيها الناس، أين الوليد وأبو الوليد وجد الوليد وخلفاء الله، وأمراء المؤمنين، وساسة الرعية؟ وأسمعهم الداعي، وقبض العارية معيرها، فاضمحل ما كان كأن لم يكن، وأتى ما كأنه لم يزل، وبلغوا الأمد، وانقضت بهم المدة، ورفضتهم الأيام وشمرتهم الحادثات فسلبوا عن السلطنة، ونفضوا لدة الملك، وذهب عنهم طيب الحياة، فارقوا والله القصور وسكنوا القبور، واستبدلوا بلينة الوطاء خشونة الثرى، فهم رهائن التراب إلى يوم الحساب، فرحم الله عبداً مهد لنفسه، واجتهد لدينه، وأخذ بحظه، وعمل في حياته، وسعى لصلاحه، وعمل ليوم، ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ ... فعلى رسلكم بني الوليد، فإني شبل عبد الملك، وناب مروان، لا تظلعني حمل النائبة، ولا يفزعني صريف الأجرف، وقد وليت من أمركم ما كنت له مكفيا، وأصبحت خليفة وأميرا، وما هو إلا العدل أو النار، ليجدني الممارس لي أخشن من مضرس الكذاب، فمن سلك المحجة حذي نعل السلامة، ومن عدل عن الطريق وقع في وادي الهلكة والضلالة. ألا فإن الله سائل كلا عن كل، فمن صحت نيته ولزم طاعته كان الله له بصراط التوفيق، وبرصد المعونة، وكتب له بسيل الشكر والمكافأة، فاقبلوا العافية فقد رزقتموها، والزموا السلامة فقد وجدتموها، فمن سلمنا منه سلم منا، ومن تاركنا تاركناه، ومن نازعنا نازعناه. فارغبوا إلى الله في صلاح نياتكم وقبول أعمالكم، وطاعة سلطانكم، فإني والله غير مبطل حدا، ولا تارك له حقا حتى أنكثها عثمانية عمرية، وقد عزلت كل أمير كرهته رعيته، ووليت أهل كل بلد من أجمع عليه خيارهم، واتفقت عليه كلمتهم، وقد جعلت الغزو أربعة أشهر، وفرضت لذرية الغازين سهم المقيمين، وأمرت بقسمة صدقة كل مِصرٍ في أهله إلا سهم العامل عليها، وفي سبيل الله وابن السبيل، فإن ذلك لي وأنا أولى بالنظر فيه، فرحم الله امرءاً عرف منا سهو المفعل عن مفروض حق وأوجب فأعان برأي، وأنا أسأل الله العون على صلاحكم فإنه مجيب السائلين، جعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بموعظته، ويوفي بعهده، فإنه سميع الدعاء، واستغفر الله لي ولكم". وبعدها أستدعي "عمر بن عبد العزيز" وقاله: "يا أبا حفص إنا ولينا ما قد تري، ولم يكن بتدبير علم، فما رأيت من مصلحة العامة فمر به". أمير المؤمنين "سليمان بن عبد الملك" قرر يقرب منه "عمر بن عبد العزيز" وخلاه المستشار الأول والرسمي له، وعزل كل الولاه في كل البلاد، وبدأ يعين ولاة جديدة بمشورة "عمر". أمير المؤمنين "سليمان عبد الملك" أدي مساحة كبيرة ومجال واسع ل "عمر بن عبد العزيز" في التدخل في شئون الحكم عن قناعة تامة منه أن "عمر" له نظرات وآراء سليمة وصحيحة، ده غير أنه شاله الجميل في أنه يعتبر الوحيد اللي وقف في وش "الوليد" عشانه. وكان "عمر" حرفيا ملازم ل "سليمان" في كل صغيرة وكبيرة، حتي أن "سليمان" قال: "ما هو الا أن يغيب عني هذا الرجل فما أجد أحدا يفقه عني". ومره قال "سليمان" ل "عمر": "يا أبا حفص ما أغتنمت بأمر ولا أكربني أمر الا خطرت فيه علي بالي". بدأ أمير المؤمنين "سليمان بن عبد الملك" يغير حاجات كتير عملها قبله أخوه "الوليد" ومكنتش عاجبة "عمر. يعني مثلا "الوليد" كان بيأخر صلاة الضهر والعصر، ف"عمر" قاله: "الصلاة كانت قد أميتت فأحيوها"، فأمر "سليمان" بوجوب كل الصلوات في وقتها. خرج أمير المؤمنين "سليمان بن عبد الملك" للحج مع "عمر بن عبد العزيز"، وهم واقفين علي جبل عرفات شاف عدد كبير جدا من المسلمين بيحجوا عينه متجيبش أخرهم، قال "سليمان" ل "عمر": "أما تري هذا الخلق الذي لا يحصي عددهم الا الله؟"، رد عليه "عمر" وقاله: "هؤلاء اليوم رعيتك، وهم غدا خصماؤك". "سليمان" سمع كده وتخيل يوم حسابه علي كل دول فبكي بكاء شديد. فلما خلصوا مراسم الحج، طلع أمير المؤمنين "سليمان بن عبد الملك" مع "عمر بن عبد العزيز" علي المدينة في سكتهم وبالمرة يشوف بنفسه أحوال رعيته فيها. فخرج "سليمان" فيها فلوس كتير، وبعدها سأل "عمر" وقاله: "كيف رأيت فعلنا يا أبا حفص؟"، قاله "عمر": "رأيتك زدت أهل الغني غني وتركت أهل الفقر بفقرهم". وهنا فهم "سليمان" أن من المهم التفريق بين بذل الخير وصرفه للي يستحقوه فعلا. وبعد ما خلصوا حجهم ورحلتهم وراجع أمير المؤمنين "سليمان بن عبد الملك" مع "عمر بن عبد العزيز" لدمشق، وهم ماشيين ضرب الرعد وظهر البرق في السما، فالصوت لما جه علي غفلة أتفزع منه "سليمان" والحرس اللي معاه فقاله "عمر": "انما هذا صوت نعمة فكيف لو سمعت صوت العذاب؟". فطلع "سليمان" صرة فلوس وقاله: "خذ هذة المائة ألف درهم وتصدق بها"، رد عليه "عمر" وقاله: "أو خير من ذلك يا أمير المؤمنين؟"، ف"سليمان" سأله وقاله: "وما هو؟"، قاله "عمر": "قوم صحبوك في مظالم لم يصلوا اليك". ومن بعدها بدأ "سليمان" يرد كل فلوس المظالم والفلوس اللي اتاخدت من الناس من غير وجه حق علي هيئة ضرايب ملهاش لازمة أو بيع في أصول الدولة. كان نظرة "عمر" أن رد المظالم لها الأولوية عن الصدقات لأنها بتخدم العدل. |
مروة طلعت
13 / 10 / 2023
#الراشد_العمري
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
المصادر:-
* بدائع الزهور في وقائع الدهور ج1 - محمد بن اياس.
* المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ج1 - تقي الدين المقريزي.
* البداية والنهاية ج9 - ابن كثير.
* سيرة عمر بن عبد العزيز - أبي الفرج بن الجوزي.
* صفوة الصفوة - أبي الفرج بن الجوزي.
* سير أعلام النبلاء ج 4،5 - شمس الدين الذهبي.
* الكامل في التاريخ ج3 - ابن الأثير.
* مختصر تاريخ دمشق - ابن منظور.
* عمر بن عبد العزيز - د/ محمد عمارة.
* عمر بن عبد العزيز - د/ علي محمد الصلابي.
* عبد العزيز بن مروان - د/ سيدة إسماعيل كاشف.
تعليقات
إرسال تعليق