الراشد العمري 7
(7) قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "ألا وان المدينة كالكير يخرج الخبث، لا تقوم الساعة حتي تنفي المدينة شرارها، كما ينفي الكير خبث الحديد". لما خرج "عمر بن عبد العزيز" من المدينة المنورة بعد ما عزله أمير المؤمنين "الوليد بن عبد الملك" من أمارتها بسبب وشاية ومكيدة ظالمة من "الحجاج بن يوسف الثقفي"، بكي "عمر" لفراق المدينة وأهلها، وأفتكر حديث رسول الله وقال لخادمه "مزاحم": "يا مزاحم أخشي أن نكون ممن نفت المدينة". "مزاحم" كمان مكنش مبسوط ومتشاءم، بسبب أنه وهو خارج رفع راسه للسما فشاف القمر واقع في مجموعة نجمية معروفة بالدبران مابين الثور والجوزاء، وكان العرب زمان بارعين في قراءة النجوم عشان حياتهم كلها في طرق الصحرا وكانت النجوم دليلهم، ووجود القمر بين الدبران لحظة كان العرب زمان بيتشاؤموا منها. فحب "مزاحم" يلفت نظر "عمر" أن السبب في اللي حصل هو وجود القمر في الدبران مش أن المدينة نفتهم ولا حاجة محاولة منه أنه يخفف عنه، فقال "مزاحم": "أل تنظر الي القمر ما أحسن أستواءه في هذه الليلة!". فبص "عمر" للقمر وفهم قصد "مزاحم" ايه فقاله: "كأنك أردت أن تعلمني أن القمر بالدبران، يا مزاحم، أننا لا نخرج بشمس ولا بقمر ولكن نخرج بالله الواحد القهار".
لما خرج "عمر" من المدينة، مكنش قادر يرجع دمشق، عاصمة الخلافة الاموية، بسبب زعله من "الوليد". وراح قعد في بيته له في السويداء جنوب شرق دمشق. لكن بعد فترة من مراقبة الأحداث واللي طبعا كانت مليانة بالمظالم والجور والقتل والنهب، مقدرش "عمر" يقف عاجز صامت، وقرر أنه يرجع دمشق ويكون جنب أمير المؤمنين يحاول بالنصيحة أنه يخليه يقلل المفاسد. "الوليد بن عبد الملك" كان حكمه يعتد علي ولاة للمدن قساة قلوب كل اللي يهمهم يخضعوا الناس ليهم ولأمير المؤمنين بالقوة والظلم، و"عمر بن عبد العزيز" كان شايف ان اقامة العدل بين الناس لوحده كفاية لاستقرار الحكم وخضوع الناس للحاكم بالمودة والمحبة والرحمة.
فضل "عمر" في دمشق جنب مجلس حكم ابن عمه أمير المؤمنين "الوليد بن عبد الملك" رغم توتر العلاقة بينهم، لكن "الوليد" كان بيسمع لرأي "عمر" أحيانا عشان من جواه عارف أنه علي حق، وبالتدريج تحول "عمر" لواحد من مستشاري "الولي" في الحكم. كان من ضمن الحاجات اللي مدايقة "عمر" هو كتر القتل وسهولته، كان الولاه أي حد معارض ولا مش عاجبهم ولا مصقفش علي طول بيطيروا راسه بمنتهي البساطة، وكان أعظمهم تجبر كان "الحجاج" طبعا. في يوم "عمر" نصح أمير المؤمنين "الوليد بن عبد الملك" وقاله: "ان ليس بعد الشرك اثم أعظم من الدم، وأن عمالك يقتلون، ويكتبون ان ذنب فلان المقتول كذا وكذا، وأنت المسؤول عنه والمأخوذ به، فأكتب اليهم ألا يقتل أحد منهم أحدا حتي يكتب بذنبه ثم يشهد عليه، ثم تأمر بأمرك علي أمر قد وضح لك". الولاة بعد ما ينفذوا حكم الاعدامم ويطيروا راس البني آدم ويضيعوا عمره، كانوا بيعملوا اللي عليهم ويبعتوا رسالة لأمير المؤمنين يبرروا فيها سبب قتله، كلام صح بقي أو تلفيق مش مهم هو مجرد تبرير مش أكتر واللي حصل حصل خلاص. ف "عمر" نبه أمير المؤمنين أن اللي بيحصل ده كله في رقبته ويتحاسب عليه، فلازم رسالة التبرير دي توصل لأمير المؤمنين الأول قبل الاعدام وأمير المؤمنين هو اللي يقرر يتعدم ولا يتسجن ولا يعفو عنه.
رد أمير المؤمنين "الوليد بن عبد الملك" وقال: "بارك الله فيك يا أبا حفص ومنع فقدك". "الوليد" عجبته الفكرة وتقبل نصيحة "عمر" - أبا حفص دي كنية عمر بن عبد العزيز - وأمر بكتابة رسالة لكل الولاة في كل البلاد، أن لازم قبل أي اعدام يستأذنوه فيه الأول وهو اللي يبت في أمره.
لما رسالة "الوليد" وصلت ل"الحجاج بن يوسف الثقفي" أتغاظ وأفتكر أنه هو المقصود بالذات من الرسالة دي - اللي علي راسه بطحة - ما هو سفاح محقق أعلي سكور في القتل في العصر الأموي كله، بحجة تثبيت ركئن الخلافة والقضاء علي الخصوم. وراح باعت بصاصينه يعرفوله مين اللي ورا القرار ده. ولما عرف أن نصيحة "عمر بن عبد العزيز" هي السبب في وضع أمير المؤمنين القرار ده، قال عمر تاني هو أنا مواريش غيره، وقعد لوحده كده يفكر في مغرز تاني يوقع "عمر" فيه مع "الوليد".
في يوم كان "الحجاج" ماشي، قابل واحد من خوارج حوراء - مدينة جنب بغداد - من قبيلة "بكر بن وائل"، وهو عارف ومتأكد من كره الخوارج للأمويين، فوقفه وسأله: "ما تقول في معاوية؟"، فالخوارجي شتمه، فرجع "الحجاج" يسأله: "ما تقول في يزيد؟"، فالخوارجي برده شتمه، فسأله "الحجاج": "فما تقول في عبد الملك؟"، برده شتمه، رجع سأله "الحجاج": "فما تقول في الوليد؟"، الخوارجي قال: "أجورهم حين ولاك وهو يعلم عداءك وظلمك". راح كتب "الحجا" رسالة ثعبانية ل "الوليد" حكاله فيها اللي قاله الخوارجي وقال: "أنا أحوط لديني، وأرعي لما استرعيتني وأحفظ له من أن أقتل أحدا لم يستوجب ذلك، وقد بعثت اليك ببعض من كنت أقتل علي هذا الرأي فشأنك واياه؟".
"الحجاج" أختلق الأزمة وقلب الآية كالعادة، وعمل أنه الوفي الأمين المخلص وأن دي عينة من اللي كان بيقتلهم عشان مستحملش كلمة وحشة علي خلفاء المسلمين، ورغم ياعيني الظلومة اللي هو فيها الا أنه برده أطاع الأمر وبعت الرسالة والخوارجي ذات نفسه لدمشق لأمير المؤمنين عشان يبت في أمره. وبذكاء "الحجاج" الشيطاني كان عارف أن الشتايم دي كلها هتثير غضب "الوليد" ومش هيبقي شايف قدامه غير انه يقتل الخوارجي، وكان عارف برده أنه هيخبط في "عمر" ومن هنا هيتم الشتات بينهم، وهو ده اللي "الحجاج" عاوزه عشان يخلص من "عمر" خالص.
وفي ظهر يوم فوجئ "عمر بن عبد العزيز" برسول من عند أمير المؤمنين "الوليد بن عبد الملك" بيدعوه لأمر عاجل،وأول ما بيدخل "عمر" قاعة الحكم بيلاقي "الولي" قاعد قاطب حاجبيه بغضب وجنبه "الريان" ماسك سيفه - زي مسرور السياف بتاع شهريار كده - وأول ما قعد "عمر" قاله "الولي" بصوت عالي وحاد: "ما تقول فيمن يسب الخلفاء؟ أتري أن يقتل؟" فسكت "عمر" متكلمش، رجع "الوليد" يقول بغضب: "مالك؟" وبرده فضل "عمر" ساكت، فكررها تاني "الوليد" بغضب أكتر وقال: "أيقتل؟"، رد "عمر" وقاله بهدوء: "أقتل يا أمير المؤمنين؟"، قال "الوليد": "لا، ولكنه سب الخلفاء"، قال "عمر"فأني أري أن تسجنه حتي يراجع الله أو تدركه منيته"، قال "الوليد" بغضب: "شتمني وشتم عبد الملك وهو حروري أفستحل ذلك؟"، قال "عمر": "لعمري ما استحله، لو كنت سجنته ان بدا لك أو تعفو عنه". فقام "الوليد" من مجلسه وهو في قمة غضبه وساب "عمر" ومشي. بص "الريان" ل"عمر" وقاله: "يغفر الله لك يا أبا حفص، لقد راددت أمير المؤمنين حتي ظننت أنه سيأمرني بضرب عنقك".
ومن بعد الموقف ده بدأ البرود والجفاء بين "الوليد" و "عمر" وقل استدعاء "الوليد ل"عمر" أو الأخد برأيه، وأنتصر ملعوب "الحجاج". علاقة "عمر بن عبد العزيز" و "الوليد بن عبد الملك" الأسرية مكنتش بس أنهم ولاد عم، ده كل واحد فيهم كان متجوز أخت التاني. "عمر بن عبد العزيز" كان متجوز "فاطمة بنت عبد الملك" أخت "الوليد". و "الوليد بن عبد الملك" كان متجوز "أم البنين بنت عبد العزيز" أخت "عمر". فمهما كان فيه جفاء، كان لازم رأ "عمر" وموافقته تكون حاضرة في قرار "الوليد" حب ياخده بوسوسه من "الحجاج" برده"، وهو أنه يخلع أخوه "سليمان بن عبد الملك" من ولاية العهد، ويديها لأبنه "عبد العزيز بن الوليد". ووسط موافقات مطبلاتية "الولي"، وقف "عمر" زي الشوكة في الحلق، ورفض رفض قاطع وحازم المبايعة وانتقال الولاية، ووقف في صف ابن عمه "سليمان بن عبد الملك". ساعتها غضب "الوليد" عماه، وحاول يهدد "عمر" ويخوفه بس مفيش فايدة، وفي الآخر قرر استخدام الشدة وحبس "عمر بن عبد العزيز" في بيته وحدد اقامته ومش بس كده ده مسد عليه الباب بالطين عشان ميتفتحش، كأنه قبر. لولا أخت عمر ومرات "الوليد، "أم البنين بنت عبد العزيز" اللي فضلت تترجي "الوليد" وتنوح علي أخوها، فلولاها أدي أوامره يفتحوله الباب بعد 3 أيام، فخرج "عمر" دبلان وشاحب ومال عنقه وأنقذوه في الرمق الأخير.
بعدها بفترة بسيطة في جمادي الآخر سنة 96 هجرية 715 ميلادية توفي أمير المؤمنين "الوليد بن عبد الملك بن مروان" وهو عنده 48 سنة، وملحقش ينقل الولاية زي ما كان عاوز. واللي كان واقف علي غسله وتكفينه هو "عمر بن عبد العزيز" عشسان ولي العهد "سليمان" مكنش في دمشق، وهو برده اللي أم الصلاة عليه ونزله قبره بايديه. فلما كفنوه وجم يشيلوه من علي سريره ، اضطرب في أكفانه، فصرخ ابنه وقال: "أبي، أبي". قاله "عمر": قلت: "ويحك إن أباك ليس بحي، ولكنهم يلقون ما ترى". يعني هو اتنفض من اللي شايفه والعياذ بالله. ولما نزل بيه "عمر" في مدفنه فوجئ ان ركبتيه ارتفعوا لعنقه في وضع الجنين، فقال ابنه: "أعاش أبي؟" فقاله "عمر بن عبد العزيز": "عوجل والله أبوك!!" يعني ابتدي حسابه وعذابه بسرعة والعياذ بالله. وفضلت اللحظة دي في ذاكرة "عمر بن عبد العزيز" يتعظ بيها.
(يتبع)
مروة طلعت
13 / 10 / 2023
#الراشد_العمري
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
المصادر:-
* بدائع الزهور في وقائع الدهور ج1 - محمد بن اياس.
* المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ج1 - تقي الدين المقريزي.
* البداية والنهاية ج9 - ابن كثير.
* سيرة عمر بن عبد العزيز - أبي الفرج بن الجوزي.
* صفوة الصفوة - أبي الفرج بن الجوزي.
* سير أعلام النبلاء ج 4،5 - شمس الدين الذهبي.
* الكامل في التاريخ ج3 - ابن الأثير.
* مختصر تاريخ دمشق - ابن منظور.
* عمر بن عبد العزيز - د/ محمد عمارة.
* عمر بن عبد العزيز - د/ علي محمد الصلابي.
* عبد العزيز بن مروان - د/ سيدة إسماعيل كاشف.
تعليقات
إرسال تعليق