الراشد العمري

  دمشق سنة 101 هجري - 720 ميلادي. واحد من عبيد "عمر بن العزيز" ماشي بصينية علي كوبين من شراب رايح  بيهم للغرفة اللي قاعد فيها سيده مع ضيفه. اللي يشوفه وهو ماشي هيحس أنه ماشي مضطرب، مقدم رجل وبيأخر رجل، جواه صراع كبير مابين أنه يدخل الغرفة أو يرجع تاني، لكن كان عارف كويس أنه لو رجع مش هيطلع عليه نهار، هيخسر حياته وفوقيها فرصة بالعتق و1000 دينار. 

بعد فترة كبيرة من التردد ما بين الخوف والأسي، بيدخل الغلام يقدم الشراب لسيده أمير المؤمنين "عمر بن عبد العزيز"، وبحركة سريعة بخفة يد بيرمي حاجة في كاس الشراب كان مخبيها تحت ضفره. ياخد أمير المؤمنين كاس الشراب من غلامه ويسمي الله ويشرب ومكمل كلامه مع ضيفه، وبعد كام رشفة يسكت فجأة ويبص لغلامه بصة عميقة. يضطرب بسببها الغلام أكتر ويتحجج ويخرج بسرعة من الغرفة.

  فجأة في نفس الليلة بيمرض أمير المؤمنين "عمر بن عبد العزيز" وحرارته بتعلا، وبيحضر الطبيب، لكن دواه مبيجيبش مفعول. فسأل "عمر بن عبد العزيز" واحد من المقربين ليه: "ما يقول الناس في"؟ الناس يعني لما عرفت بمرضي قال ايه، قاله : "يقولون إنك مسحور"، قال "عمر بن عبد العزيز": "ما أنا بمسحور". وأمر بأحضار الغلام له، فقال له "عمر بن عبد العزيز": "ويحك ما حملك على أن تسقيني السم؟"، قاله الغلام وهو مكسوف وخجلان من اللي عمله: "ألف دينار أعطيتها وعلى أن أعتق"، قال "عمر بن عبد العزيز": "هات الألف"، فطلعها الغلام من جيبه، فرماها "عمر بن عبد العزيز" لمسئول بيت المال يحطها فيه وقال "عمر" للغلام: "اذهب حيث لا يراك أحد". يعني يادوب خد منه الفلوس عشان يرجعها لبيت مال المسلمين، وسامحه وعفي عنه وكمان خاف عليه من الأذية وقاله يهرب. 

أمر أمير المؤمنين "عمر بن عبد العزيز" بحضور أهل بيته كلهم حواليه وهو علي سرير المرض والموت، فحضرت زوجاته التلاتة وأولاده ال 11 ذكر و ال 6 أناث. وكان قاعد معاه "مسلمة بن عبد الملك" ابن عمه وأخو زوجته "فاطمة بنت عبد الملك". بصلهم "عمر بن عبد العزيز" نظرة الوداع وعيونه دمعت وقال: "بأبي وأمي من خلفتهم بعدي فقراء"، جت عليه لحظة صعب عليه ولاده فيها أنه سايبهم محيلتهمش حاجة بعد ما حط كل أمواله ومجوهرات زوجاته وورثه ورثهم من بيت الخلافة كله في بيت مال المسلمين. رد عليه "مسلمة" وقاله: "يا أمير المؤمنين تعقب فعلك، وأغنهم. فما يمنعك أحد في حياتك، لا يرتجعه الوالي بعدك". بينصحه يلحق قبل ما يموت ويطلب من بيت المال يرجعله ماله عشان مايسيبش عياله فقرا. بصله "عمر" وقال: "يا مسلمة، منعتهم إياه في حياتي وأشقي به بعد وفاتي؟!". ورفض "عمر بن عبد العزيز" يرجع عن الحق حتي ولو عاشوا ولاده من بعده فقرا.

وبعت لكاتب رسائلهـ وجاله بسرعة عشان يكتب أخر وصاياه، فكتب رسالة ل"يزيد بن عبد الملك" ابن عمه وولي عهده والخليفة من بعده رسالة قال فيها: 


بسم الله الرحمن الرحيم،
من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى يزيد بن عبد الملك،
السلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإني كتبت إليك وأنا دنف من وجعي، وقد علمت أني مسؤول عما وليت، يحاسبني عليه مليك الدنيا والآخرة، ولست أستطيع أن أخفي عليه من عملي شيئاً، يقول تعالى فيما يقول: «فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ»
فإن يرضى عني الرحيم فقد أفلحت ونجوت من الهول الطويل، وإن سخط علي فيا ويح نفسي إلى ما أصير، أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجيرني من النار برحمته، وأن يمن علي برضوانه والجنة. وعليك بتقوى الله والرعية الرعية، فإنك لن تبقى بعدي إلا قليلاً حتى تلحق باللطيف الخبير.

وبعد ما أنتهي من وصيته ورسالته ل "يزيد بن عبد الملك" فضل يردد ويقول: "لو كان لي من الأمر شئ ما عدوت بها القاسم بن محمد بن أبي بكر وصاحب الأعوص إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص". يعني كانت أمنيته يغير الخلافة من بعده وولاية العهد لواحد من الاتنين دول اللي كان شايف فيهم الصلاح والريادة، لكنه كان خايف من بحور الدم اللي كانت ممكن تحصل من بني أمية.

ومن بعدها سلم خامس الخلفاء الراشدين "عمر بن عبد العزيز" الروح الي خالقه، وهو عنده 40 سنة، بعد خلافة سنتين خمس شهور وأربع أيام، كانوا من أصلح وأعدل وأتقي فترات الحكم الاسلامي من بعد "عمر بن الخطاب". كان نبتة خير وصلاح وسط ظلم وجور بني أمية، نسمة عدل وحرية مرت علي الرعايا ولكنها عدت بسرعة وكأنها حلم. مات "همر بن عبد العزيز" فبكاه القاصي والداني، بكته المسلمين في الشرق والغرب، بكاه السنة والشيعة والقريشيين والعلويين والخوارج، حتي أهل الذمة بكته. عن "الأوزعي" قال:  شهدت جنازة عمر بن عبد العزيز، ثم خرجت أريد مدينة قنسرين - مدينة بالشام - فمررت على راهب فقال: «يا هذا، أحسبك شهدت وفاة هذا الرجل» أي عمر بن عبد العزيز، فقلت له: «نعم»، فأرخى عينيه فبكى سجاماً، فقلت له: «ما يبكيك ولست من أهل دينه؟»، فقال: «إني لست أبكي عليه، ولكن أبكي على نور كان في الأرض فطفئ».

بعد كده بسنين طويلة يقعد الخليفة العباسي "أبو جعفر المنصور" مع "عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق" وقال له: "عظني". رد عليه "عبد الرحمن" رضي الله عنه و قال: "مات عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وخلف أحد عشر ابناً، وبلغت تركته سبعة عشر ديناراً كفن منها بخمسة دنانير، وثمن موضع قبره ديناران، وقسم الباقي على بنيه، وأصاب كل واحد من ولده تسعة عشر درهماً. ومات هشام بن عبد الملك وخلف أحد عشر ابناً، فقسمت تركته، وأصاب كل واحد من تركته ألف ألف، ورأيت رجلاً من ولد عمر بن عبد العزيز قد حَمَلَ في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله عز وجل، ورأيت رجلاً من ولد هشام يُتصدق عليه". 

قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يصحح لهذه الأمة أمر دينها"، وأتفق كل العلماء والباحثين والمؤرخين علي أن "عمر بن عبد العزيز" كان هو المجدد الأول في الاسلام، ظهر في القرن الأول الهجري، وينطبق عليه صفات المجدد كلها ليس لغيره في أول 100 سنة اسلامية. 

ويقول الامام "ابن حجر العسقلاني": "إن إجماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يدعى ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها، ومن ثم أطلق أحمد  - يقصد الامام أحمد بن حنبل - أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعي، وإن كان متصفاً بالصفات الجميلة إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل".

هذا الفتى العمري في تقواه

نور التقى والطهر في شيماه

غصن من الفاروق في أخلاقه

شهد الرعية عدله و تقاه

(يتبع)

مروة طلعت

15 / 9 / 2023

#الراشد_العمري

#عايمة_في_بحر_الكتب

#الحكاواتية

#بتاعة_حواديت_تاريخ

المصادر:-

* بدائع الزهور في وقائع الدهور ج1 - محمد بن اياس.

* المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ج1 - تقي الدين المقريزي.

* البداية والنهاية ج9 - ابن كثير.

* سيرة عمر بن عبد العزيز - أبي الفرج بن الجوزي.

* سير أعلام النبلاء ج 4،5 - شمس الدين الذهبي.

* الكامل في التاريخ ج3 - ابن الأثير.

* عمر بن عبد العزيز - د/ محمد عمارة.

* عمر بن عبد العزيز - د/ علي محمد الصلابي.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خماراويه

السلطانة شجر الدر 6

نشأة محمد علي باشا