الساحر ددي
من وقت ظهور السوشيال ميديا وجروبات القراءة والمثقفين، وفيه معركة دائمة دايرة حول علي مين اللي يستحق نطلق عليه لقب المثقف، وهل قارئ الرواية يعتبر مثقف ولا لا. وناس نصبت نفسها حكام علي منصة وهمية، تتهم قارئ القصص أو الروايات بالسطحية والسخافة وادعاء الثقافة. أفتكر في أول دخولي عالم الكتابة علي السوشيال ميديا، كنت بكتب تعليقي وتحليلي للروايات التي كنت بقرأها وأنزلها علي عدد من صفحات القراءة، وصادفت نزلت مرة المقالة علي جروب من نوعية الحكام اياهم دول، وقابلت كومة من التعليقات السلبية والهجومية وكلها قايمة علي فكرة يا مدعية الثقافة يا جاهلة يابتاعة الروايات، نادر لما لقيت تعليق أو اتنين أتكلم عن أسلوبي في الكتابة أو تحليلي للرواية. النهاردة جاية أقولك بشكل توضيحي كده صغير علي أدي، هي ايه فايدة القصص والروايات.
هوضحها وأدي مثال علي التاريخ، سامعاك بتقول ايه اللي جاب الروايات للتاريخ، ماهو التاريخ ياصديقي عبارة عن قصة أو حكايةـ هو أنت كنت عاصرت سليمان الحلبي وهو بيقتل كليبر ولا عاصرت محمد علي وهو بيخلص ع المماليك ولا عاصرت الملك تحتمس التالت في معركة مجدو، أنت بتسمع حكاياتهم وقصصهم، ايش عرفك بقي ان الحكاية مظبوطة وحصلت فعلا، سمعاك برده ان كان فيه مؤرخين كتير لكل عصر ودونوا ووصلنا كتبهم أ كتاباتهم علي المعابد. طب ما هو في كل عصر فيه مطبلاتية للنظام ايش ضمنك أن المؤرخ ده مش منهم وكاتب التاريخ من وجهة نظر الحاكم وبس. أيوه سامعة صوت بيقول ناخد من كذا مصدر، ده رأي سليم بس معظمهم بيبقوا ناقلين من بعض، يعني ايه انتي هتشككينا في المؤرخين وكتب التاريخ.
لا طبعا فيه زي المطبلاتية، موجود اللي حفيوا بجد عشان يجيبوا الخبر اليقين، طب جابوه منين وهم ممكن يكون الحدث مر عليه سنين. أسمع تصقيفة هنا للي قال نزلوا للناس وسمعوا الحكايات منهم. صديقكم هنا قال ايه "حكاياتهم" يعني حواديتهم يعني قصصهم يعني رواياتهم. الحكاية لما بيمر عليها وقت، كل فترة تيجي تسمعها هتلاقي الخيال ضاف عليها حتة، المؤرخ بيبقي فاهم كويس الطبيعة دي، عشان كده بيفضل يلف ويدور زي المحقق حوالين مسرح الجريمة - زي ما عمل الجبرتي علي سبيل المثال - يسمع ويكتب ويفضل سنين، وفي الآخر بيرجع ينقح كل ده لما بيلم كل الحكايات علي بعضها عشان يغربلهم ويصفي الحقيقة علي قدر الامكان.
طب ايه علاقة الكلام ده برده بالروايات اللي بنقراها دلوقتي، يبقي برده مفهمتش رسالتي، هوضحالك أكتر. عندك مثلا الروايات الاجتماعية أو السياسية أو حتي الكوميديا السودة. أنت تقدر تاخد معلومات عن عصر الرواية دي من بين سطور الرواية أصح وأكتر شفافية من كتابات المؤرخ. هتاخد خلفية عن الحالة النفسية والاجتماعية والصحية والتعليمية والفكرية - طبعا ده لو قريت روايات كتير في نفس المرحلة مش رواية ولا اتنين - أنت عارف أن فيه لجان مخصوصة بتحلل كل الروايات اللي بتتكتب عشان يفهموا حالة الناس. صحيح قراءة الكتب العلمية والنفسية والتاريخية والدينية مهمة، لكن مش عاوزة أفاجأك وأقولك أني قابلت ناس دودة روايات فقط بيفهموا ومثقفين أكتر من مثقفين تانيين، ودول برده أقلاء مش عموما.
رغيت أنا كتير وبرده مقتنعتش أو لسه رسالتي موصلتش، أخر مرة عشان البيه ولو مفهمش الحق عليا. توضيحي المرة دي عملي هحكيلك حدوتة من بردية وستكار من مصر القديمة، حدوتة فاهمني يعني قصة يعني الشكل البدائي للرواية.
في يوم كان الملك "خوفو" قاعد وعاوز يرفه عن نفسه شوية، ويخرج من ضغوطات الحكم وترتيبات بناء العرم اللي بيحلم بيه. وكأي أب لذوذ قعد مع ولاده التلاتة، وطلب منهم كل واحد يسمعه حكاية، أهو يتسلي معاهم ويغرف أخبارهم ويشاركهم أهتماماتهم. لحد ما جه دور ابنه التالت الأمير "حردادف" اللي قام وقاله أنا أعرف يا بابا حتة ساحر محدش زيه قبل كده، عنده 110 سنة وبياكل 550 رغيف عليهم فخدة تور ويبلع ب 100 ابريق - مش كوباية - من الجعة كل يوم. الملك "خوفو" فتح بقه كده مش مصدق، وقاله ساحر ايه المفجوع ده، جاب الصحة دي كلها منين. كمل "حردادف" كلامه وقاله الساحر ده بيعرف يقطع الراس ويركبها تاني وبيجر أسد وراه بحبل، وعارف عدد وسر أقفال معبد تحوت. هنا الملك "خوفو" أتعدل في قعدته، موضوع أقفال معبد تحوت ده شد انتباهه، كان بيتمني يعرف مكانهم وسرهم عشان ياخدهم أو يعمل زيهم للهرم بتاعه. الملك "خوفو" سأل ابنه، الساحر ده اسمه ايه وعايش فين. الأمير "حردادف" قاله الساحر اسمه "ددي" وعايش في "دد - سنفرو" - مدينة شمال الفيوم حاليا - طبعا الملك مكدبش خبر وأمر حراسه ومعاهم الأمير ابنه يجيبوله الساحر "ددي" فورا.
خد الأمير مركبه وحراسه وطلع علي "دد - سنفرو" ولما وصلوا الحراس شالوا الأمير علي محفة من الأبنوس ورجليها من الخشب الطعم بالدهب. لحد ما وصل لبيت الساحر "ددي"، اللي كان قاعد علي حصيرة بيتهوي قصاد بيته، وواحد من تلاميذه بيدلكله رجله والتاني بيمسد راسه. نزل الأمير من علي المحفة وسلم علي الساحر وقاله: "تحياتي أيها المحترم لقد أتيت الي هنا في طلبك برسالة من والدي خوفو حتي تأكل أطيب الأشياء التي يعطيها الملك وهي مأكولات من في خدمته، وحتي يوصلك بعد عمر طويل إلي آبائك الذين في عالم الأموات". بصله "ددي" بترحاب وقاله: "في سلام في سلام يا حردادف أنت يا ابن الملك الذي يعزه والده. ليت والدك خوفو يكافئك وليته يرفع مكانتك بين الكبار وليت روحك تحارب قرنك وليت روحك تعرف الطريق الي باب من يخبئ الضعف مرحبا يا ابن الملك".
وقبل الساحر "ددي" الدعوة وقام جايب كتبه ولم تلاميذه وطلع مع الأمير "حردادف" علي مركبه، لحد قصر "خوفو" في الجيزة. الملك "خوفو" قال ل "ددي" أول ما شافه، ازاي أنا مشوفتكش قبل كده. رد عليه "ددي" وقاله، أول ما طلبتني جيتلك أهو. الملك "خوفو" سأله بشك وقاله هو أنت صحيح بتعرف تفصل الراس وترجعها تاني. الساحر قاله أيوه بعرف، وفورا أمر الملك بإحضار واحد من السجن يعملوا عليه التجربة، لكن الساحر "ددي" رفض وقاله: " ولكن ليس علي رجل أيها الملك. يا مولاي أنظر أليس من الخير أن يجرب شئ مثل هذا علي الماشية السامية". فأمر الملك يجيبوا وزة ويقطعوا راسها، ويحطوا الراس في زاوية من القاعة وباقي الجسم في الزاوية التانية. قال الساحر "ددي" تعويذة سحرية وفجأة الراس والجسم طاروا ورجعوا لبعض وقامت الوزة ماشية عادي ولا كأن حصل حاجة. ووسط ذهول الحاضرين أصر الملك يكرر التجربة علي بطة وثور، وكل مرة التجربة كانت بتنجح، وأثبت الساحر كفاءة كفاءة يعني مفيش كلام.
هنا سأله الملك السؤال المهم اللي جابه عشانه فقاله أنت صحيح تعرف عدد أقفال معبد تحوت، رد عليه الساحر وقاله معرفش عددهم لكن أعرف مكانهم، وقاله فعلا علي مكانهم، بس صدم الملك وقاله محدش يقدر يجيبهم من مكانهم، والوحيد اللي هيجيبهم واحد من 3 توائم لسه في بطن أمهم، لا وخد الكبيرة بقي التلاتة دول هيحكموا ملكك يا سيدنا. "خوفو" تعبيرات وشه كلها أتقلبت وصاح في غضب مين أمهم ومكانها فين، رد الساحر بهدوء وقاله متقلقش دول هيحكموا من بعد ابنك وحفيدك. الملك "خوفو" أصر برده يعرف مين أمهم اللي لسه حامل فيهم، فقاله الساحر أنها زوجة كاهن في سخبو - منطقة في عين شمس حاليا - واسمها "رد - ددت".
البردية الحكاية فيها مكتملتش بسبب ان كان فيها قطع، لكن من الواضح أن الملك "خوفو" موصلش لأم الأولاد، أو أنه مأذهاش بطريقة أو بأخري، وده بسبب أن الأسرة الخامسة بدأت فعلا في الحكم من بعد "منكاورع" حفيد "خوفو" وأتحققت النبوءة.
دي حكاية زي ملايين الحكايات والقصص وعرضتها أولا عشان نعرفها ثانيا عشان تكون مثال أوضح بيه فكرتي. البردية دي أتكتب بعد 400 سنة تقريبا من حكم الملك "خوفو"يعني لا في الأسرة الرابعة ولا الخامسة. وكاتب الحكاية نقلنا بعض الأفكار اللي ممكن من خلالها نشوف الحياة في مصر القديمة ما بين السطور، يمكن الكاتب نفسه مكنش قاصد يوصلها، لكن غصب عنه الحياة الاجتماعية والعادات والتقاليد بتظهر.
يعني شوفنا الملك وهو أنسان عادي زيه زي أي أب بيقعد يحكي ويسمع حكايات من أولاده ويعتم ويتفاعل، يعني مش ملك بقي ومشغول ويخلف ويرمي للمربيين وخلاص، كان ملك وأب في نفس الوقت. شوفنا أدب الأمير ابن الملك، رغم أنه جاي في مأمورية ملكية واستدعاء للساحر "ددي" راح بنفسه ومجروش من قفاه، ده رغم هيلمانه والحفة الأبنوس المطعمة بالدهب المتشال عليها، الا أنه نزل ل "ددي" وكلمه علي الأرض وقاله بكل أدب وأخلاق "تحياتي أيها المحترم"، يعني مكنش فيه عنجهية وتكبر وكان فيه معاملة حسنة للرعية. شوفنا كمان رفض الساحر للتضحية بالبشر، رغم أنه ساحر يعني بس الكفر موصلش للتضحية بالبشر تقريبا أو علي الأقل في الفترة دي من مصر القديمة. شفنا حوار الملك مع الساحر "ددي" اللي كان فيه احترام متبادل، رغم شك الملك في الأول وعدم تصديقه بدليل أنه طلب منه يجري تجربة أرجاع الرأس، لكنه لا أتريق عليه ولا هزقه مثلا لا قبل التجربة ولا بعدها. الأهم من ده كله أن البردية ومافيها من قصص كانت بتدرس في المدارس، ودي قصة من ضمن 3 قصص تانيين فيهم أفكار تانية صالحة، وده دليل علي أن الدولة وقتها كانت مهتمة بتعليم أحترام الانسان حتي ولو علي حساب الملك ذات نفسه.
من قصة صغيرة شفنا تفاصيل مهمة لطباع وأخلاقيات المصري القديم، ممكن متظهرش بالوضوح ده في نقوشات المؤرخين. ياتري لسه شايف الأدب والقصة والرواية ليس تثقيفا.
مروة طلعت
12 / 9 / 2023
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
المصادر:-
موسوعة مصر القديمة ج17 - د/ سليم حسن.
معجزة الهرم الأكبر - د/ زاهي حواس.
إعادة قراءة التاريخ - د/ ياسر شحاتة.
تاريخ مصر القديمة - نيقولا جريمال.
تعليقات
إرسال تعليق