الراشد العمري 6
(6) في ربيع الأول سنة 87 هجري 705 ميلادي، بيوصل لأهل المدينة المنورة خبر سعيد جدا. أمير المؤمنين "الوليد بن عبد الملك"، عين الأمير "عمر بن عبد العزيز" والي علي المدينة. ومين في المدينة المنورة ميعرفش "عمر" الطفل اللي اتربي وعاش بينهم، ومين في المدينة المنورة ميحبش "عمر" الشاب التقي الورع صاحب الأخلاق النبيلة وصاحب العقل المتزن والفكر السليم. وبعد المعاناة والذل اللي شافوه علي ايد "هشام بن اسماعيل المخزومي"، أهل المدينة فرحوا جدا بالخبر واستبشروا خير بالأيام القادمة.
دخل "عمر بن عبد العزيز" المدينة المنورة، وأستقبله أهلها بالفرحة والتكبير، لأول مرة يجي عليهم والي منهم وراضيين عنه، حسن السيرة والسلوك. فرحة أهل المدينة كانت تعبير عن الأمل اللي ملا صدورهم في أن الجاي هيكون أحسن، بعيد عن الظلم والدم اللي عاشوا فيه سنين.
بعد ما سلم "عمر" علي الناس اللي جتله مرحبين ومهنيين، دخل المسجد النبوي وصلي بالناس. بعد الصلاة قعد وسط الناس اللي كانت مستنية كلمته يشوفوا فيها مستقبلهم هيكون ازاي. قعد "عمر" وطلب بالأسم عشر فقهاء من المدينة وهم "عروة بن الزبير" و "عبيد الله بن عبد الله بن عتبة" و "أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام" و "أبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة" و "سليمان بن يسار" و "القاسم بن محمد" و "سالم بن عبد الله بن عمر" و "عبد الله بن عبد الله بن عمر" و "عبد الله بن عامر بن ربيعة" و "خارجة بن زيد بن ثابت". وبعد ما الكل حضر وأتجمعوا، قال "عمر": (إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعواناً على الحق، إني لا أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى، أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرّج الله على من بلغه ذلك إلا أبلغني). بعد كلمته كل الحاضرين عليت أصواتهم بكلمة "جزاك الله خير" وبايعوه علي الشوري.
هنا بدأ "عمر بن عبد العزيز" ولايته لأمارة المدينة المنورة بتكوين مجلس شوري مكون من أفضل عشر فقهاء في الوقت ده في المدينة، وخلاهم مشاركين له في الحكم. وبكدة يكون "عمر بن عبد العزيز" تنازل عن اختصاصاته كوالي للمدينة لمجلس العشرة اللي أقره قصاد الناس كلها، خلا الفقهاء مفتشين علي العمال ويراقبوا تصرفاتهم ويبلغوه لو حصل أي فساد أو تجاوز لحدود الله أو ظلم.
كان طريقة حكم "عمر بن عبد العزيز" واضحة من أول لحظة، وهو الحكم بكتاب الله وسنته، يرضيه مايرضي الله ويغضبه ما يغضب الله، مبدأ حكم مختلف تماما عن اللي سبقوه من ولاة بني أمية اللي كانوا يرضيهم ما يرضي أمير المؤمنين وأهواءه ويغضبهم ما يغضب أمير المؤمنين وأهواءه برده. وعشان الدقة في حكمه بما يرضي الله مكتفاش باستشارة العشرة دول وبس، ده كان بيستشير غيرهم من علماء المدينة وفقهائها زي "سعيد بن المسيب" و "الزهري" وغيرهم كتير.
وعلي ذكر "سعيد بن المسيب"، كان العالم الفقيه معروف عنه اعتزازه بنفسه ومقدار علمه أنه لا يروح لحاكم ولا لأمير، واللي يحتاجه لازم هو اللي يجيله، والمعلومة دي كان عارفها كويس "عمر بن عبد العزيز" بحكم العشرة والجوار. ففي يوم بعت "عمر" رسول من عنده يسأل "سعيد بن المسيب" في مسألة، فالخادم بدل ما يقوله السؤال راح قاله تعالي الأمير "عمر" عاوزك. من غير تفكير جاب "سعيد بن المسيب" نعليه لبسهم، وقام طلع دوغري علي مجلس "عمر" اللي فوجئ بيه داخل عليه. قام "عمر" وراح ل "سعيد" قبل ما يوصله وقاله: "عزمت عليك يا أبا محمد إلا رجعت إلي مجلسكحتي يسألك رسولنا عن حاجتنا، فإنا لم نرسله ليدعوك، ولكنه أخطأ إنما أرسلناه ليسألك". يعني رغم مبدأ "سعيد بن المسيب" اللي عمره ما اتغير قصاد حتي أمير المؤمنين نفسه، إلا أنه متأخرش ل"عمر" اللي كانوا بيطلقوا عليه لقب "معلم العلماء" كأن لسان حاله بيقول يسلام كله إلا "عمر"، وفي نفس الوقت من شدة احترام "عمر بن عبد العزيز" للعلماء والفقهاء أصر أنه يعالج الخطأ اللي عمله الرسول ويرجع "سعيد بن المسيب" لمكانه ويحترم اعتزازه بمكانته.
بعد ما شرح نظامه وبرنامجه وعين مجلس العشرة وأدي أوامره أن المظالم اللي اتاخدت من غير وجه حق ترجع لبيت المال، ونفذ أول شرطين شرطهم علي أمير المؤمنين "الوليد بن عبد الملك"، جه وقت تنفيذ الشرط التالت وهو أنه يحج عشان مكنش حج قبل كده. وفعلا في نفس السنة 87 هجري خرج "عمر بن عبد العزيز" للحج، وهناك شافه "سهيل بن أبي صالح" علي عرفة، اللي كان بيحج مع أبوه، واللي كانوا من رواة الحديث. قال "سهيل" لأبوه: "يا أبتاه، والله إني لأري الله يحب عمر"، أبوه قال: "لم؟"، قال "سهيل": "لما أراه دخل له في قلوب الناس من المودة، وأنت سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أحب الله عبدا، نادي جبريل إن الله قد أحب فلانا فأحبوه".
ورغم سياسة حكم "عمر بن العزيز" المختلفة عن ما سبقه من الولاة الأمويين، إلا أنه فضل يحترم وينفذ قرارات إبن عمه أمير المؤمنين "الوليد بن عبد الملك"، يعني مكنش حكمه للمدينة حكم مطلق، والدليل علي كده تنفيذه أمر "الوليد" بتوسعه المسجد النبوي لحد ما وصل ل 200*200 ذراع وزخرفته علي الرغم من كره "عمر" لزخرفة المساجد. يعني برده غصب عنه كان ملزم يعدي بعض الأمور لأنه مكنش ولي الأمر الأكبر، وعليه طاعة ولي الأمر أمير المؤمنين. وفي سنة 91 هجري، حج أمير المؤمنين "الوليد بن عبد الملك" ومن بعدها راح المدينة، فأستقبله "عمر بن عبد العزيز" بترحيب وخده يفرجه علي تنفيذ التوسعات اللي طلبها بعينيه. وفي نفس السنة أمر أمير المؤمنين بضم ولاية الطائف لولاية المدينة تحت حكم "عمر بن عبد العزيز".
سمعت عن بيت الشعر اللي قتل صاحبه، لو متعرفوش فهو "الخيل والليل والبيداء تعرفني .. والسيف والرمح والقرطاس والقلم" وده بيت من شعر لل"المتنبي"، وبيت الشعر ده هو السبب في قتل "المتنبي". طب أنت عارف أن فيه حديث نبوي أتسبب في أن "عمر بن عبد العزيز" قتل راوي الحديث ده. استغربت صح، "عمر بن عبد العزيز" يقتل ومين أحد رواة الحديث، الحقيقة أن ده كان الحادث الأليم في حياة "عمر" وفضل طول عمره يذكره ويرجوا الله يغفر له.
في الحلقات السابقة احنا ذكرنا علاقة بني أمية بالفتنة الكبري، اللي ابتدت من ايام "عثمان بن عفان" رضي الله عنه. كان واحد من نافخي النار في الفتنة دي هو جد "عمر بن عبد العزيز" واللي أصبح أمير مؤمنين بعد كده في الدولة الأموية "مروان بن الحكم" عم "معاوية بن أبي سفيان". وعرفنا برده اللي حصد في كربلاء وقتل "الحسين" حفيد رسول الله، واللي بسببه قام "عبد الله بن الزبير" يقاتل الأمويين عشان ياخد بتار سيد الشهداء "الحسين". وكانت النتيجة قيام الثورات في كل حتة، وظهر "الحجاج بن يوسف الثقفي" يعيث فيها فسادا، ويقضي علي الثورات بمزيد من الدماء، حتي أنه قذف الكعبة بالمنجنيق، وقتل "عبد الله بن الزبير" وصلبه ومثل بجثته.
جه "الخبيب بن عبد الله بن الزبير" وده كان راوي من رواة الحديث، وروي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا كان دين الله دخلا، ومال الله نخلا، وعباد الله خولا" ومعني الحديث أن فرع أبناء العاص اللي هو جد "مروان بن الحكم" لما نسله وذريته يبقي فيه ٣٠ رجل هيعيثوا في الأرض فساد ويبقي الظلم والقهر وضياع الدين في أمور الدنيا أمر طبيعي، بس هو حديث ضعيف في العموم. طبعا الحديث ده "الخبيب" ذكره وأخرجه في الوقت ده بالذات بسبب الصراع اللي داير بينهم وبين بني أمية وبالتحديد أبناء "مروان" اللي أحفاده أمير المؤمنين "الوليد بن عبد الملك" و "عمر بن عبد العزيز".
أمير المؤمنين "الوليد بن عبد الملك" لما سمع الحديث اللي قاله "الخبيب بن عبد الله بن الزبير" جن جنونه، وكتب رساله ل"عمر بن عبد العزيز" بصفته والي المدينة المنورة اللي عايش فيها "الخبيب" يأمره فيها بجلده ١٠٠ سوط ويحبسه ويصب عليه ماية سقعة في عز برد الشتا. ونفذ "عمر" أمر أمير المؤمنين، وقبض علي "خبيب" وجلده ١٠٠ جلده وبعدها صب عليه جرة ماية ساعة، فلما اشتد وجعه في السجن أفرج عنه "عمر" وشالوه لحد بيت ابن عمه "عمر بن مصعب بن الزبير"، وهناك مات "الخبيب".
"عمر بن عبد العزيز" كان قاعد في مجلسه فدخل عليه الخادم بخبر موت "خبيب" ، فقام مفزوع ووقع في الأرض وهو بيصرخ وبيبكي ويقول:" مات الرجل، مات الرجل". يقال أن بسبب الحادث ده أعتزل "عمر" الولاية، لكن إبن الجوزي قال أنه معتزلش الولاية ده أقيل منها لسبب تاني. المهم أن "عمر" عاش طول عمره ضميره بيأنبه بذنب "الخبيب"، لدرجة أنه لما تولي الخلافة فيما بعد، كل ما يعمل اصلاح أو أمر فيه منفعة للناس ويثنوا عليه يرد بحزن: "فمن لي بخبيب".
في سنة 92 هجري، أعطي أمير المؤمنين "الوليد بن عبد الملك" لواء الحج في السنة دي لدراعه اليمين "الحجاج بن يوسف الثقفي"، يعني يبقي رئيس قوات تأمين الحجاج. وكان الحجاج طبيعي بيمروا علي المدينة في سكتهم، وبما أن "عمر بن عبد العزيز" مكنش بيطيق لا أسم ولا صفة ولا شكل "الحجاج"، فكتب رسالة لابن عمه أمير المؤمنين بيطلب منه تغيير خط سير بعثة الحجاج بعيد عن المدينة عشان ميقابلوش، ووافق "الوليد" وأمر "الحجاج" يغير خط سير القوافل عشان ميعدوش علي المدينة. وكان قبلها برده كتب لل"الوليد" شكوي من "الحجاج" وعمايله السودة في أهل العراق، خلت أهلها يهربوا عنده بالزوفة. فمن ساعة الشكوي دي و"الحجاج" حاطط "عمر" في دماغه، وزاد عليها كمان سحططته بعيد عن المدينة عشان خاطر "عمر" مش طايق يشوفه.
فضل "الحجاج" مرقدله لحد بعد انتهاء موسم الحج، ولما رجع بغداد كتب رسالة لأمير المؤمنين "الوليد بن عبد الملك" وقاله فيها: "أن من قبلي من مراق أهل العراق وأهل الثقاف قد جلوا عن العراق، ولجؤوا الي المدينة ومكة، وأن ذلك وهن". كان أستاذ في لي عنق الحقيقة والله، يعني بيقوله أن هجرة أهل العراق بسبب عمر وده بيضعف قوة العراق وبيفضيها من أهلها، يعني مش بسبب ظلمه لا سمح الله لا ده بسبب عمر أمال ايه. وراح مرشح "عثمان بن حيان" أو "خالد بن عبد الله القسري" لولاية المدينة. وفعلا بعت "الوليد" رسالة ل"عمر بن عبد العزيز" بعزله من إمارة المدينة والطائف.
خرج "عمر بن عبد العزيز" بأهله من المدينة متجه لدمشق عاصمة الخلافة الأموية. وعلي أبواب المدينة لف وشه ليها وبكي، فسأله وليه وصديقه "مزاحم بن أبي مزاحم" عن سبب بكاؤه، فقاله: "يا مزاحم أخشي أن نكون ممن نفته المدينة".
(يتبع)
مروة طلعت
8 / 10 / 2023
#الراشد_العمري
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
المصادر:-
* بدائع الزهور في وقائع الدهور ج1 - محمد بن اياس.
* المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ج1 - تقي الدين المقريزي.
* البداية والنهاية ج9 - ابن كثير.
* سيرة عمر بن عبد العزيز - أبي الفرج بن الجوزي.
* صفوة الصفوة - أبي الفرج بن الجوزي.
* سير أعلام النبلاء ج 4،5 - شمس الدين الذهبي.
* الكامل في التاريخ ج3 - ابن الأثير.
* مختصر تاريخ دمشق - ابن منظور.
* عمر بن عبد العزيز - د/ محمد عمارة.
* عمر بن عبد العزيز - د/ علي محمد الصلابي.
* عبد العزيز بن مروان - د/ سيدة إسماعيل كاشف.
تعليقات
إرسال تعليق