الراشد العمري 3

من أحب الناس الي قلب الطفل الصغير "عمر بن عبد العزيز" من وقت ما فتحت عينيه علي الدنيا كان خاله "عبد الله بن عمر بن الخطاب" رضي الله عنه وعن أبيه - هو يبقي عم أمه بس عشان هو من فرع الأم فيتقاله خال - و"عبد الله بن عمر" كان من صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم، لأنه أسلم مع أبوه "عمر بن الخطاب" وكان لسه صغير، فتربي وكبر حوالين الرسول صلي الله عليه وسلم، حتي أنه هاجر مع المسلمين الأوائل، وحارب مع الرسول صلي الله عليه وسلم في غزوة الخندق وهو ابن 15 سنة، وعاصر كل الأحداث المصيرية المهمة في حياة رسول الله صلي الله عليه وسلم زي بيعة الشجرة وفتح مكة وغزوة مؤتة. فوق ده كله كان من الجيل الأول اللي سمعوا الأحاديث من فم رسول الله صلي الله عليه وسلم مباشرة، فكان هو مصدر أساسي وأصلي  لطلاب علم الأحاديث وجامعي الحديث، وفقيه ومفتي لأهل المدينة وطلاب العلم لعشرته الكبيرة لرسول الله صلي الله عليه وسلم، وحرصه علي تقليد كل تصرفاته وأفعاله، وكمان كان مشهور عنه الكرم والسخاء في الصدقات والزهد في الدنيا وما عليها. تخيل بقي أن الراجل ده هو اللي ربي "عمر بن عبد العزيز" وأتعلم ودرس علي ايده وشرب كل صفاته وسلوكه وتوجهاته، وفضل معاه لحد ما مات "عبد الله بن عمر" رضي الله عنه سنة 73 هجرية، و"عمر بن عبد العزيز" كان عنده 12 سنة.

لما كان "عمر بن عبد العزيز" لسه أربع أو خمس سنين وأمه معاه في المدينة المنورة، قبل ما تسيبه في المدينة وتسافر بأخواته لأبوه في مصر، كان يروح يقعد مع خاله "عبد الله بن عمر بن الخطاب" رضي الله عنه فترة طويلة وبعدين يرجع لأمه "أم عاصم" يقولها: "يا أمه، أنا أحب أن أكون مثل خالي"، وكانت أمه تفرح أوي لما يقولها كده.

كان مشهور عن "أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب" أنها من شدة خشيتها لله لما تقرأ آيات العذاب في القرآن كانت تبكي، والصفة دي ورثها منها ابنها "عمر بن عبد العزيز" فكان سيد البكائين. في مرة من المرات اللي كان فيها "عمر" في زيارة لأهله في مصر، دخلت عليه أمه "أم عاصم" حجرته لقته فاتح المصحف قصاده وعمال يعيط، راحتله وضمته وسألته وهي بتمسح دموعه: " ما يبكيك؟" قال لها "عمر": "ذكرت الموت"، فبكت معاه أمه. والبكاء هنا ده مش بسبب خشية الله وبس، ده كمان دليل علي لين القلب وطهارته والرحمة.

فترة وجود "عمر بن عبد العزيز" في المدينة المنورة كانت من أعظم فترات حياته، لأنها هي اللي كونت وشكلت شخصية "عمر بن عبد العزيز". عاش وسط الصحابة والتابعين، الرعيل الأول للأسلام. عاش في مجتمع ساد فيه التقوي والصلاح، في عز أقبال الناس علي طلب العلم والرغبة في تعلم مبادئ وسنن الاسلام، وطبعا قبلة طلاب العلم كانت المدينة المنورة اللي فيها أصحاب رسول الله اللي كان لسه منهم عايشين، علي سبيل المثال الي جانب "عبد الله بن عمر بن الخطاب" كان فيه "عبد الله بن جعفر بن أبي طالب" و "السائب بن يزيد" و"سهل بن سعد" و "أنس بن مالك" رضي الله عنهم جميعا.

لما مات "عبد الله بن عمر"، بعت "عبد العزيز بن مروان" رسالة ل "صالح بن كيسان" يطلب منه يتولي تعليم وتأديب "عمر بن عبد العزيز" في المدينة. و"صالح بن كيسان" مولود سنة 40 هجرية - يعني أكبر من عمر ب 21 سنة - وهو واحد من التابعين أتربي وأتعلم علي ايد صحابة رسول الله، وكان فقيه وجامع للأحاديث، وكانت وظيفته مؤدب - بكسر الدال - يعني مدرس بيعلم أبناء الأمراء والملوك صحيح الدين.

"عمر بن عبد العزيز" كان محب جدا وشغوف للعلم، كان بيروح للصحابة والتابعين ومداوم في  كل مجلس ليهم، وكان جامع للأحاديث الشريفة زي أبوه "عبد العزيز بن مروان" قبل ما مسؤوليات الحكم تاخده، وليه أحاديث كتير في الأسانيد مرواه عنه. بس عاوزة ألفت نظرك لحاجة مهمة، "عمر بن عبد العزيز" في الفترة دي كان صحيح طالب علم لصحابة الرسول صلي الله عليه وسلم والتابعين، وعايش وسطهم وبيقلد أفعالهم وتصرفاتهم ومسارع لتلقي الدين والأحاديث وتنفيذها وتطبيق شرع الله، لكنه مكنش في الوقت ده زاهد في الدنيا، كان نزيه جدا في لبسه وشكله وهدومه وأكله، تشوفه جاي من بعيد تعرف أنه ابن أمراء، هدوم غالية ووش مورد وريحة عطور مفحفحة وماشية كلها ثقة، متنساش ال 1000 دينار اللي كان بيبعتهاله عمه أمير المؤمنين "عبد الملك بن مروان" غير اللي بيبعته أبوه، وكان له خدم وعبيد. 

فيه حكاية مشهورة بتدل علي الكلام ده، هحكيهالك. "عمر بن عبد العزيز" من صغره معروف عنه أنه من أوائل الناس اللي بيدخلوا الجامع وقت الصلاة، وفي يوم أتأخر "عمر" عن صلاة الجماعة في الجامع، وبعد الصلاة أستناه "صالح بن كيسان" وقاله: "ما يشغلك؟" رد عليه "عمر" وكان لسه غلام صغير وقاله: "كانت مرجلتي تسكن شعري". يعني اللي أخره عن صلاة الجماعة في المسجد أنه كان بيظبط ويهندم في شعره ويسرحه. قاله "صالح": "بلغ من حبك تسكين شعرك أن تؤثره علي الصلاة؟" يعني للدرجة دي تسريح شعرك وهندمته أهم من الصلاة، وراح باعت "صالح" رسالة فورية ل "عبد العزيز بن مروان" بيحكيله فيها اللي حصل. فبعت "عبد العزيز" لأبنه رسول مش مجرد رسالة، عشان يحلقله شعره ع الزيرو. وده كان درس مهم جدا ل"عمر بن عبد العزيز" علمه أن أي حاجة في الدميا تهون الا صلاة الجماعة بالجامع في أوقاتها.

عموما التطيب (الروايح الحلوة) والأناقة واللبس الجميل والاهتمام بالنظافة وتسكين الشعر (تسريحه وميخلوش شوشة وهايش)، دي مفروض من صفات المسلم الشكلية اللي وصي عليها الرسول صلي الله عليه وسلم، يعني هو كان طبيعي ومرتكبش نواهي، زائد أنه أمير وابن خلفاء فطبيعي لبسه يكون أغلي من غيره. ومن شدة حبه للتطيب والنضافة، كان لما بيودي هدومه تتغسل في مغسلة المدينة كان فيه ناس بتدفع فلوس أكتر للي بيغسل الهدوم عشان يغسل هدومهم بعد هدوم "عمر بن عبد العزيز" عشان ينوب هدومهم ريحة من مية غسيل هدومه المعطرة، وده لحد ما كبر وبقي شاب ورجل.

مرة كان "أنس بن مالك" رضي الله عنه - كان خادم لرسول الله صلي الله عليه وسلم من وهو طفل وأكتر واحد سمع الأحاديث الشريفة وراوي ليها -  حاضر المسجد، وصادفت أن اللي أم بيهم كان "عمر بن عبد العزيز"، وبعد ما خلصت الصلاة قال "أنس" رضي الله عنه: "ما رأيت أحدا أشبه صلاة  برسول الله صلي الله عليه وسلم من هذا الفتي". يعني الراجل اللي كان معاشر رسول الله صلي الله عليه وسلم صبح وليل وحافظه زي ما هو حافظ كف ايده، عمره ماشاف حد بيصلي زي ما كان النبي بيصلي بالظبط غير "عمر بن عبد العزيز". كان بيصلي ازاي؟! كان بيدي الركوع والسجود حقهم ويطول - وفي رواية بتقول أنه كان بيسبح في الركوع والسجود عشرة وعشرة - ويخفف في القيام. 

وفي سنة من السنين سافر "عبد العزيز بن مروان" للحج، وبعد ما خلص مر علي المدينة عشان يطمن ويشوف أبنه. وبعد ما شاف "عمر" وسلم عليه، راح ل"صالح بن كيسان" يسأله عن أخبار وأحوال "عمر" بما أنه معلمه ومربيه فقاله "صالح": "ماخبرت أحدا الله أعظم في صدره من هذا الغلام". دليل علي شدة تقواه وخشيته وحبه لله عز وجل.

وفي المدينة المنورة أتعلم ودرس "عمر بن عبد العزيز" علي ايد 33 من العلماء والفقهاء، 8 منهم من الصحابة و 25 من التابعين لحد ما كبر وأصبح شاب. حتي قال فيه العلماء والفقهاء كلام كتير، علي سبيل المثال قال "مجاهد": "أتيناه نعلمه فما برحنا حتي تعلمنا منه". وقال "ميمون بن مهران": "كان عمر بن عبد العزيز معلم العلماء". قال "الذهبي": "كان إماما فقيها مجتهدا عارفا بالسنن كبير الشأن حافظا قانتا لله أواها منيبا يعد في حسن السيرة والقيام بالقسط مع جده لأمه عمر وفي الزهد مع الحسن البصري وفي العلم مع الزهري". حتي أن الإمامين "مالك" و "سفيان بن عيينة" لقبوا "عمر بن عبد العزيز" بلقب إمام.

تركيبة شخصية "عمر بن عبد العزيز" اجتمع فيها الوراثة من أبوه "عبد العزيز بن مروان" رواي الاحاديث، وأمه التقية الجوادة الصالحة، وأسرتها كلها بقي من أبوها "عاصم" لأمها التقية بنت بائعة اللبن، لعمها "عبد الله بن عمر" صحابي رسول الله صلي الله عليه وسلم، وصولا لجدها "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه، ومعاه كمان الجانب البيئي والاجتماعي اللي عاش فيه والتربوي اللي أتربي عليه.

في سنة من السنين ماتت "أم عاصم" الست التقية اللي غرست بتقواها أول لبنه في تشكيل "عمر بن عبد العزيز"، ولما ماتت كانت أختها "حفصة" ترملت، فبعت "عبد العزيز بن مروان" يخطبها عشان ميقطعش النسب المبارك. ولما جت علي مصر في قافلة وهودج شبيه باللي جت فيها أختها "أم عاصم" من سنين، صادف وقابلها نفس الدرويش "شرشرين" وطلب منها برده الحسنة، لكن "حفصة" مبصتلوش حتي ولا ردت عليه، فوقف "شرشرين" وقال بحزن: "أين حفصة من أم عاصم؟!".

 (يتبع)

مروة طلعت

18 / 9 / 2023

الحكاية دي نتيجة مجهود بحثي وذهني أقدمها للقراء بكل حب مجانا، فمتبخلش عليا بلايك وكومنت عشان الفيس يزود الريتش والحكاية توصل لغيرك ويبقي تقدير منك لمجهودي وطبعا لو الشير كمان يبقي ده تقدير كبير ❤️

#الراشد_العمري

#عايمة_في_بحر_الكتب

#الحكاواتية

#بتاعة_حواديت_تاريخ

المصادر:-

* بدائع الزهور في وقائع الدهور ج1 - محمد بن اياس.

* المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ج1 - تقي الدين المقريزي.

* البداية والنهاية ج9 - ابن كثير.

* سيرة عمر بن عبد العزيز - أبي الفرج بن الجوزي.

* سير أعلام النبلاء ج 4،5 - شمس الدين الذهبي.

* الكامل في التاريخ ج3 - ابن الأثير.

* مختصر تاريخ دمشق - ابن منظور.

* عمر بن عبد العزيز - د/ محمد عمارة.

* عمر بن عبد العزيز - د/ علي محمد الصلابي.

عبد العزيز بن مروان - د/  سيدة إسماعيل كاشف.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خماراويه

السلطانة شجر الدر 6

نشأة محمد علي باشا