حامد جوهر
سنة 1991م.
يوم الجمعة ده يوم مميز في كل تفاصيله، غير أنه يوم الأجازة الوحيد اللي كل بيوت مصر فيه لترتاح من دوشة الشغل والدراسة، كمان التليفزيون كان عنصر أساسي في حياتنا في اليوم ده. بالتأكيد برامج تليفزيون يوم الجمعة هي اللي شكلت الوعي الجمعي للأجيال اللي كانت عائشة في الفترة دي، وشكلت ذكريات جيل السبعينات والتمانينات وكأنها حفرية مسجلة.
- صباح الخير يا ماما.
- صباح الخير يا حبيبتي يلا خدي دشك بسرعة عشان تنزلي تجيبي الفطار والعيش قبل ما بابا يصحي.
-جيبت الفطار والعيش أهو، هروح افتح التليفزيون أشوف ماما سامية.
قاعدة قصاد التليفزيون بتفرج علي عرايس ماما سامية، والأطفال حواليها كل واحد يمسك منها المايك ويقول عارووووستي.
بابا بيجهز لصلاة الجمعة وماما ولعت البخور وحطت في كل أوضة عود. خطبة الجمعة وبعدها برنامج الشعراوي بموسيقته المميزة. نخش علي برنامج عالم الحيوان، أيوه عارفة أن موسيقاه شغالة في ودنك دلوقتي. الأرض نادت وقالت نادت وقااااالت، برنامج سر الأرض وصوت أنغام الشجي. موسيقي برنامج عالم البحار.
- قومي يا مروة اعملي كوباية شاي عشان نسمع الراجل الكوبارة ده.
سيداتي سادتي...مساء الخير.
واقفة بقلب كوباية الشاي قبل ما اديها لبابا، وشايفة قصادي راجل شبه حكيم قصص الأطفال اللي بقراها من المكتبة الخضرا، بشعره ودقنه البيضا ونظرة عينيه الطيبة وهدوئه، زايد عليه بس النضارة اللي مدياله وقار فوق وقاره، وصوته العميق الرحيم اللي يحسسك أنه فعلا راجل كوبارة زي ما قال عليه بابا، راجل عالم ببواطن الأمور. رغم أن الكلام اللي كان بيقوله كبير علي فهمي واستيعابي وقتها، بس كنت بحب مناظر الأسماك والقروش والحيتان والشعاب المرجانية اللي بيعرضها.
لما كنت في الكلية، كنت بحب أوي أروح سور الأزبكية، بعد ما أجمع غنيمتي من عديات العيد، وأجيب أحلي حاجة بتسعدني وهي الكتب. وقتها وقعت في ايدي مجلة كاتبة موضوع عن الحكيم بتاع عالم البحار، ولأول مرة أعرف أسمه ويفضل محفور في دماغي. دكتور حامد جوهر، ملك البحر الأحمر.
15 نوفمبر سنة 1907م، أتولد "حامد عبد الفتاح جوهر"، طفل عادي جدا من أسرة عادية جدا زي كل الأسر الموجودة في الوقت ده بالقاهرة. أتولد بعده في سنة 1924م أخوه الوحيد "علي جوهر"، اللي كان وجه مألوف بيطل علينا برده من شاشة التليفزيون في النشرة الإنجليزية، وكان له أسهامات في عالم السينما والدراما، أشهرهم كان فيلم عودة أخطر رجل في العالم مع فؤاد المهندس.
دخل "حامد جوهر" مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية الابتدائية، ومن بعدها المدرسة الملكية الثانوية واتخرج منها سنة 1925م. ولما جه قرار استكمال دراسته الجامعية، مكنش لسه محدد هدفه، أو صورة ميوله مكنتش واضحة ليه، فكان القرار الأسلم استثمار تفوقه ومجموعه ودخل كلية الطب. لكن الغريب أنه خلص سنته الإعدادية الأولي في كلية الطب بتفوق، ورغم كده قرر فجأة يسيب الطب ويحول علي كلية العلوم قسم علم الحيوان، تقريبا كان أكتشف شغفه راح فين وراح وراه. وفي سنة 1930م أتخرج من كلية العلوم بتقدير أمتياز مع مرتبة الشرف وأتعين معيد فيها.
في سنة 1931م، جامعة كامبريدج بإنجلترا بعتتله دعوة لزيارتها، ومنها لزيارة المواقع البحرية في إنجلترا وألمانيا وفرنسا والنمسا، لاحظ احنا بنتكلم في وقت كانت لسه الجامعة مفتوحة وكان "حامد جوهر" أول دفعة أتخرجت، وأول معيد للقسم، فكان بالطبع إسم بارز ومميز.
ومن حسن حظ "حامد جوهر"، وحظ الجامعة المصرية، وحظ مصر كلها، أن الدكاترة "علي مصطفى مشرفة" كان عميد كلية العلوم _ حكايته موجودة في كتابي أساطير حية بمكتبة أديب في شارع عباس العقاد _ وكان شغله الشاغل أكتشاف الكفاءات وتمصير كافة مراكز الكلية علي قدر الإمكان، بمعني أن قبل ما دفعات المصريين تتخرج كانت أغلب قيادات ومدرسين ودكاترة الجامعة أجانب وهو هنا بيحاول ينحي الأجانب دي ويحط بداخلهم مصريين أكفاء للمكان. وكان فيه وحدة من وحدات الكلية الخارجية التابعة لقسم علم الحيوان موجودة في الغردقة بإسم محطة الأحياء البحرية واللي كانت مهمتها جمع العينات البحرية اللي كانوا الطلبة بيستخدموها في الدراسة، وإجراء البحوث العلمية لهيئة التدريس. في سنة 1936م، كانت عند "مشرفة" رغبة قوية في تغيير مدير المحطة الدكتور "كروسلاند" بشخصية مصرية، ومكنش فيه حد أكثر كفاءة من "حامد جوهر" قصاده للمنصب ده.
أول ما أستلم "حامد جوهر" التكليف، سافر علي الغردقة، اللي كانت فاضية تماما، لا قري سياحية ولا سياح ولا مصطافين، مفيهاش حد ما عدا الفرق البحثية والقبائل. الهدوء والفضا ده كان الجو المناسب ل "حامد جوهر" اللي كان بيميل للوحدة وعدم تقبل الاجتماعيات والهدوء، لدرجة أنه فضل طول عمره رافض الزواج، ومفضل علي الأسرة جو الراحة والهدوء والتعمق في الأبحاث العلمية، حتي لما اتسأل فيما بعد عن سبب عدم زواجه قال أنا أتجوزت البحر. وفضل مقيم في استراحته على شاطئ البحر بمنطقة الأحياء شمال الغردقة.
في سنة 1940م، قدم "حامد جوهر" رسالة علمية عن المرجانيات اللينة الموجودة بالغردقة وأخد بيها درجة الدكتوراه، وكانت أول دكتوراة تمنح في قسم علم الحيوان بالجامعة. وفي سنة 1953م، أخد جائزة الدولة التقديرية.
في سنة 1956م، الأمم المتحدة أختارته مستشار علمي في علوم البحار لحد سنة 1958م. وفي سنة 1959م، كان ضمن وفد مصر لمؤتمر جنيف لقانون البحار، وعضو مراسل لمجمع الأحياء البحرية في الهند، وكان ممثل مصر في المؤتمر الدولي للتخلص من مخلفات المواد الذرية بموناكو. في سنة 1967م، أتعين مستشار لوزارة البحث العلمي في مصر لشئون البحار.
وفي الغردقة عمل متحف للأحياء المائية في البحر الأحمر ومكتبة تضم أغلب المراجع الأساسية لدراسة البحر الأحمر، وعمل معهد للأحياء المائية في عتاقة بالسويس. وأشترك في مؤتمرات دولية كتيرة جدا عن علوم البحار.
ده مش بس كان بارز في العلوم البحرية، ده كان ليه دور بارز في مجمع اللغة العربية وكان واحد من أعضاء المجمع ذات نفسه، والمشرف الأول عن الأبحاث العلمية فيه أبرزهم معجم البيولوجيا في علوم الأحياء والزراعة. اللي فضل إعداده 8 سنين من سنة 1976م لحد سنة 1984م، وشارك فيه بعض من كبار العلماء العرب.
في سنة 1973م، اتفق معاه التليفزيون لبث أول برنامج علمي بيتكلم عن الأحياء المائية بشكل مبسط العامة، وفضل البرنامج محقق نجاح كبير في عرضه الأسبوعي علي مدار 18 سنة، أختارته الجماهير كأفضل برنامج تليفزيوني في أستفتاء الجماهير اللي كانت ماسبيرو بتقيم بيه برامجها لمدة 3 سنين ورا بعض، وأستمر البرنامج حتي وفاته.
وفي سنة 1974م، أخد جائزة الدولة التقديرية للمرة التانية. وفي سنة 1975، أخد وسام الاستحقاق من الطبقة الأولي. وفي سنة 1980م، أخد وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي. في سنة 1984م، بدأ يكتب في مجلة عالم البحار الإيطالية.
وفي 18 يونيو سنة 1992م، ينتقل الدكتور "حامد جوهر" الي الرفيق الأعلي عن عمر 85 سنة بعد سنوات طويلة من البحث العلمي سايب علم ينتفع به الأجيال في العالم.
وفي يوم 15 نوفمبر 2022، تحتفل جوجل بعيد ميلاد العالم الجليل دكتور "حامد جوهر" ال 115.
ملحوظة بس أخيرة عشان نرجع بيها حق الدكتور العظيم ده. فيه حكاية مبتذلة انتشرت علي السوشيال ميديا من ضمن الفتي اللي بيطلع، أن الدكتور "حامد جوهر" كان واقف في طابور القبض في ماسبيرو وجت الراقصة "سهير زكي" تزاحم قصاد الخزنة وتتخانق مش عاجبها أجرها، ولما قالها الدكتور أنه بيقبض أقل بكتير منها قالته وانا مالي ما تروح ترقص يا أستاذ. الحكاية دي أولا محصلتش ومستحيل تحصل لعدة أسباب، من ناحية "سهير زكي" عمرها ما اشتغلت للتليفزيون، ولو اشتغلت كانت هتمضي عقد بالمبلغ اللي عاوزاه قبل ما تشتغل أصلا. من ناحية الدكتور فبشهادة مديرين ماسبيرو أن مفيش حد بيقدم برامج كان بيقف علي الخزنة عندهم، كانت المبالغ بتوصلهم علي البيت. ثانيا الحكاية دي فيها أهانة كبيرة لعالم جليل ضحي بعمره كله للعلم وعشان يقدملنا اللي تنتفع بيه بجد.
هو ده ملك البحر الأحمر، صاحب برنامج عالم البحار، وهو ده اللي أتريق علي طريقته "سعيد صالح" في مسرحية العيال كبرت لما قال "مصاء الخير" زي ما كان بيقولوا الدكتور مفخمة في بداية برنامجه.
مروة طلعت
1 / 9 / 2023
الحكاية دي نتيجة مجهود بحثي وذهني أقدمها للقراء بكل حب مجانا، فمتبخلش عليا بلايك وكومنت عشان الفيس يزود الريتش والحكاية توصل لغيرك ويبقي تقدير منك لمجهودي وطبعا لو الشير كمان يبقي ده تقدير كبير ❤️
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
المصادر:-
مصور أعلام الفكر العربي ج3 - سعيد جودة السحار.
حواديت أهل المحروسة - أحمد الصايغ.
تعليقات
إرسال تعليق