محمد عبيد
"أبقى خنفس وأخون الحاجة الوحيدة اللي أمنت بيها في حياتي، خنفس اللي باع زمايله واتسبب في موتهم، أبقى خنفس اللي خان جيشنا واتسبب في هزيمتنا، أبقى خنفس وأقول عرابي خاين والثورة هوجة، والثوار خونة احرقوهم، ليه خنفس بن الكلب اللي اتسبب في أزمتنا يعيش، وعبيد اللي انصهر تحت مدفعه من سخونته يموت وهو بيدافع عن وطنه، ليه يا طلعت، ليه أمثال خنفس ده يعيشوا وعبيد هو اللي يموت". ده كان حوار في مشهد من مسلسل "واحة الغروب" للكاتب الكبير الراحل "بهاء طاهر"، علي لسان بطل المسلسل الظابط "محمود عبد الظاهر" اللي قام بدره الفنان " خالد النبوي"، والأحداث كانت بتدور بعد انهزام الجيش المصري في معركة التل الكبير، واحتلال مصر من الإنجليز سنة 1882م.
من يوم ما كون "محمد علي باشا" جيش مصر، وفرض علي الفلاحين المصريين التجنيد سنة 1820م، عشان يعمل أول جيش مصري، لا هو جيش عثماني ولا مملوكي، ده جيش مصر علي اسم البلد ومن أولاد البلد. وكان فيه عناصر قيادية غير مصرية، ماهو طبيعي في الفترة دي، لأن المصريين كانوا لسه ميعرفوش أي حاجة عن الحروب النظامية. واتطور الجيش عبر السنين، وفضل عبارة عن مصريين وألبان وشراكسة، بس الفلاح اللماح بذكائه الفطري وسرعة بديهته، قدر يشرب الحرفة بسرعة ويتفوق علي الضباط الشراكسة، وزاد عليهم بحسه الوطني، أن دي بلده وأرضه، وحمايتها واجبه وحقه هو مش الشركسي.
سنة 1880م، بيتولي نظارة الجهادية _ وزير الدفاع _ "عثمان رفقي باشا"، اللي كان ظابط شركسي وشديد الكره والعداوة للمصريين الفلاحين الرعاع اللي مينفعش يكونوا غير عبيد احسانهم. وكان علي طول بيكيد للظباط المصريين، فمنع عنهم الترقيات واستبدلهم بضباط شراكسة. وضع "رفقي باشا" مشروع قانون يمنع به ترقية الجنود المصريين من تحت السلاح وده عشان يبقى الشراكسة في الجيش هم العنصر السايد. أما عن كبار الضباط بدأ يعزلهم أو يقصيهم عن مواضعهم، وأما عن الجند كانت الحكومة تسخرهم في أعمال ملهاش علاقة بالعسكرية زي حفر الترع والزراعة في أرض الخديوي.
في الوقت ده، كانت الأحداث خارجة بتغلي علي صفيح ساخن، من يد "الخديو اسماعيل" الي يد ابنه "الخديو توفيق". والوعي بالوطنية وحق الشعب والاحتلال، زايد علي ايد "جمال الدين الافغاني" وتلاميذه، واللي كان منهم القائمقام "أحمد عرابي".
في يوم وصلت الأخبار أن "رفقي باشا" قرر استصدار قرار بنقل القائديْن المصرييْن" أحمد عبد الغفار" و"عبد العال حلمي" من أماكنهم، نقل تعسفي بلا سبب. راح الأميرالاي "عبد العال حلمي" و والبكباشي "خضر أفندي" و الاميرالاي "علي فهمي" والبكباشي "محمد عبيد" والبكباشي "ألفي يوسف" والقائمقام "أحمد عبد الغفار"، علي بيت "أحمد عرابي". وحكوله عن القرارات الجديدة، وغضب قيادات الجيش من المصريين، من الوضع اللي حاططهم فيه "رفقي باشا"، وبعد جدال ومناقشات، اتفقوا علي كتابة مذكرة يرفعوها لرئيس النظار "مصطفي رياض باشا"، يشكوله فيها من تعصب "عثمان رفقي باشا" للشراكة علي حساب المصريين. واتفقوا علي أن اللي يصيغ الشكوي ويقدمها هو "أحمد عرابي". وبالفعل كتب الشكوي، ووقعها "أحمد عرابي" و"علي بك فهمي" و"عبد العال بك حلمي"، اشتملت الشكوي على النقاط التالية:
-التظلم من انحياز عثمان رفقي للضباط الشركس.
-المطالبة بتعديل قوانين الجيش للمساواة بين جميع الأجناس في الجيش.
-تعيين ناظر للحربية من الوطنيين.
-المطالبة بقيام مجلس نواب وطني كما وعد الخديوي إبان توليه.
-زيادة عدد الجيش المصري إلى 18 ألفاً.
"مصطفي رياض باشا" رئيس النظار، كان موته وسمه تقديم الشكاوي، حتي لو الشكوي دي تعبير عن ظلم واقع. فلما دخل عليه بيها "أحمد عرابي"، قابله بتجهم وبأسلوب حاد في الكلام. قال "عرابي": أننا لم نطلب إلا حقا وعدلا، وليس في طلب الحق من خطر؛ وإنا لنعتبرك أباً للمصريين، فما هذا التلويح والتخويف؟" قال "رياض": "ليس في البلاد من هو أهل لأن يكون عضوا في مجلس النواب"، قال "عرابي": "إنك مصري وباقي النظار مصريون والخديو أيضا مصري، أتظن أن مصر ولدتكم ثم عقمت؟ كلا فإن فيها العلماء والحكماء والنبهاء، وعلى فرض أن ليس فيها من يليق لأن يكون عضوا في مجلس النواب، أفلا يمكن إنشاء مجلس يستمد من معارفكم ويكون كمدرسة ابتدائية تخرج لنا بعد خمسة أعوام رجالا يخدمون الوطن بصائب فكرهم، ويعضدون الحكومة في مشروعاتهم الوطنية؟" سكت "رياض" ومعرفش يرد عليه وبعدين قال: "سننظر بدقة في طلباتكم هذه".
طبعا "الخديو توفيق" لما وصلته عريضة الشكوي، هاج وماج وأرعد وأزبد، والشتايم طارت يمين وشمال. واتفق مع "مصطفي رياض باشا" أن العيال دي لازم يتعلقلهم الرمانة، زي ما عمل أبوه "الخديو اسماعيل" مع "اسماعيل صديق المفتش" قبل كده.
وصلت ل "أحمد عرابي" و "علي فهمي" و " عبد العال حلمي" دعوة من "رياض باشا" لحضور زفاف واحدة من الأميرات، في قصر النيل. الدعوة كانت غريبة ومريبة، وكل أصدقاء "عرابي" من الظباط، شكوا فيها، ونصحوهم ميروحوش. بس "عرابي" قدم حسن النية، وقال جايز الرد علي الشكوي هيكون فيها مع الخديو. وخد "عرابي" أصدقاؤه الاتنين وراحوا الحفلة، فطلبوهم في ديوان الجهادية اللي جنبها، وأول ما دخلوا، فوجئوا بصف علي الجانبين من الظباط الشراكسة جردوهم من أسلحتهم واحتجزوهم في غرفة في بدروم ثكنات قصر النيل، وسابوهم علي ما يوضبوا الرمانة، جو فيلم المولد وعادل امام مع نور الدمرداش.
بيقولوا قلب المؤمن دليله، والبكباشي "محمد عبيد" كان مؤمن، اللي كان قاعد بفرقته من ضمن حرس قصر عابدين. من قلقه علي أصدقاؤه وإحساسه أن فيه غدر في الموضوع، صاح صيحته العسكرية في جنوده ونظمهم، وأمرهم بالتحرك علي قصر النيل. اعتراضه الرتبة الأكبر منه وكان ظابط شركسي، وطلب منه الرجوع والا هيتحاكم بتهمة مخالفة الأوامر. فأمر "البكباشي محمد عبيد" جنوده بكل شجاعة البطل وجرأته، بالقبض علي الظابط الشركسي، وحبسه في غرفة في القشلاق. وبعتله الفريق "راشد باشا حسني" يؤمره بعد الخروج والرجوع، لكن البطل رمي كل التهديدات من ورا ضهره، وخرج بسرعة مع فرقته علي قصر النيل، لإنقاذ أصدقاؤه.
هجمت فرقة "محمد عبيد" علي ثكنات قصر النيل، ودخلوا بشدة وبسالة، حاربوا الجنود الشراكسة، لدرجة أن "رفقي باشا" من شدة فزعه، نط من الشباك. ودخلت الأسود المصرية بقيادة البطل "محمد عبيد" يدوروا في كل مكان، لحد ما لقوا التلاتة في البدروم وانقذوهم.
الحادث ده كانت الشرارة اللي جذبت كل المواطنين الشرفاء حوالين "عرابي"، واللي أجبرت "الخديو توفيق" يعزل "رفقي باشا" ويعين بداله رب السيف والقلم "محمود سامي البارودي" واللي اختاروه "عرابي" وصحبته ورضيوا بيه.
البكباشي "محمد عبيد" ابن كفر الزيات، بطل من أبطال مصر، وبطل من أبطال الثورة العرابية، رغم أنه كان صاحب نقطة تحول رهيبة في التاريخ، لكنه من الأبطال المنسية. تفتكر عطاء بطل زي ده، بجرأته دي، هيقف لحد كده. البطل "محمد عبيد" كان له موقف ختامي عظيم، في دفاعه عن مصر ضد الاحتلال الإنجليزي في موقعة التل الكبير 13 سبتمبر سنة 1882م.
الموقعة اللي كان عنوانها الخيانة، وعلي رأس الخونة كان "علي يوسف" اللي سموه المصريين ب "خنفس"، اللي كان قائد مقدمة الجيش. بعت ل "عرابي" وقاله أن الإنجليز مش هيتحركوا النهاردة. وطبعا بناء علي الأخبار دي، الجيش تحرر من وضع الاستعداد، وارتاح ونام. وهنا زحف الجيش الانجليزي في منتصف الليل وكان "خنفس" منسحب بفرقته وموسعلهم الطريق، لا وكمان حاططلهم فوانيس ينورلهم. وفجأة بيقوم الجيش مفزوع والانجليز في وسطهم، ومن هنا كانت الهزيمة.
في وسط ده كله، ظهر البطل "محمد عبيد" أسد جسور وسط جنوده علي المدفع، متمسك بمكانه بيقاتل باستماتة، وفضل واقف علي مدفوعه رغم الضرب والقذائف اللي نازلة حواليه يمين وشمال، واللي كان بيرد عليهم مع فرقته في تبادل الضرب والقذائف، وفضل واقف وهو شايف جنوده بيقعوا من حواليه شهداء واحد ورا التاني، كل ده كان بيزيده حماس وإصرار علي المواصلة والانتقام. فضل البطل "محمد عبيد" يقاتل لآخر لحظة، أيده مفارقتش المدفع حتي وهو وسط النار، لحد ما انصهر مدفعه وانصهر جسد البطل الشهيد معاه، واتناثرت أشلاؤه الطاهرة تحت سنابك الخيول.
المصريين وقتها منسيوش ل "محمد عبيد" بطولته وفداؤه. وتتحول لبطل شعبي كبير، لدرجة أن وجدانهم رفض استشهاده. طلع عليه قصص أن فيه ناس شافوه حي في الشام، واتحول في الوجدان الشعبي لولي من أولياء الله. استشهد البكباشي البطل "محمد عبيد"، وكان مثال للوطنية والتضحية، لكنه بالسنين اتنسي زي حاجات كتيرة اوي ما اتنست، زي اعرافنا وتقاليدنا ومبادئنا ما اتنست. لكن "فؤاد حداد" خلده في قصيدته وقال:
والأمهات بحري البلاد تناديه.. دهب الحريم عيط علشان يفديه
لأجل الولاد خلي البطل يضرب.. يكسر صفوف الإنجليز يضرب
يا بنايين نضرب معاه الطوب.. الفجر لمحمد عبيد مكتوب
في الجنة عرض السيف مع دراعه.. الملحمة أخلد من التماثيل
ان حى ما له فى الشجاعة مثيل.. كان جسم فى تراب الوطن مثواه
مروة طلعت
30 / 7 / 2023
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
المصادر:-
الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي _ عبد الرحمن الرافعي.
انتفاضات أم ثورات في تاريخ مصر الحديث _ محمد حافظ دياب.
مذكرات أحمد عرابي _ عبد المنعم الجميعي.
أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه _ محمود الخفيف.
تعليقات
إرسال تعليق