أبو الخير نجيب

الساعة 7 الصبح يوم 6 يناير سنة 1948م في قصر عابدين. قاعد الملك فاروق في مكتبه، بيقرا الجرائد اليومية كالعادة، جت في ايده جريدة "النداء" التابعة لحزب الوفد، وقلب فيها لحد ما وصل لصفحة فيها مقالة لرئيس التحرير، الصحفي "أبو الخير نجيب". المقالة كانت بعنوان (التيجان الهاوية)، كتب فيها "أبو الخير" وقال: (ما قصة الملك ميشيل الا قصة كل ملك مغامر لا يعرف لنفسه حدودا، ويقحم نفسه فيما ليس من اختصاصه، وبذلك يهوي بنفسه إلي مستوي المسؤولية، ومتي هبط ملك بنفسه إلي هذا المستوي فإنه يفقد الحصانة، ويصبح رجلا عاديا يجري عليه ما يجري علي رجال السياسة، ورجل الشارع سواء بسواء).

المقال كان عبارة عن تعليق "أبو الخير نجيب" علي خبر تنازل "الملك ميشيل"، ملك رومانيا عن العرش. بس "الملك فاروق" فهم اللي بين السطور، وهو أن "أبو الخير نجيب" بيلقح عليه. طبعا "الملك فاروق" قام من مكانه ثاير وغضبان وبعت لمستشاره "كريم ثابت" و رئيس الديوان الملكي "إبراهيم عبد الهادي"، وقالهم وهو في غاية الانفعال: ازاي الصحافة والقلم السياسي يسمح بنشر المقال ده اللي بيتكلم بمنتهي الفجاجة عن سقوط التيجان الملكية؟. وعلي الفور التليفونات رنت في القلم السياسي والداخلية وقال لهم أن "الملك فاروق" غاضب جدا من مقالة "أبو الخير نجيب" في جريدة النداء. ومن هنا الدنيا اتقلبت.

طب مين هو الصحفي الجرئ "أبو الخير نجيب". فاكر مسلسل "فارس بلا جواد" بتاع "محمد صبحي"، مش كان عامل شخصية "حافظ نجيب"، واللي كتبنا قصة حياته الحقيقية في الصفحة هنا _ هسيبلك رابط حكايته في الكومنتات _ واللي كان مشهور بإسم الأديب المحتال. أهو "أبو الخير نجيب" يبقي ابن "حافظ نجيب" الوحيد. تتولد "أبو الخير نجيب" سنة 1913م، وورث من أبوه "حافظ نجيب" _ زي ما هو واضح _ جرأته، وحبه للكتابة والعمل الصحفي. 

أول ما خلص دراسته أشتغل محرر في جريدة الأهرام، ومن أول ما ابتدي شغل في الصحافة، حط بصمته في حادثة مشهورة جدا ليه مع رئيس الوزراء "إسماعيل صدقي باشا"، اللي حكينا عنه في حكاية مصرع مأمور البداري هنا في الصفحة _ وبرده هسيبلك رابط الحكاية في الكومنتات _ والحادثة دي كانت دليل علي قوة تأثير وكرامة صاحبة الجلالة الصحافة في الوقت ده. في يوم طلب "أبو الخير نجيب" مقابلة "إسماعيل صدقي باشا" لإجراء حوار صحفي معاه للأهرام، وبالفعل بيتحددله ميعاد للمقابلة. بيروح "أبو الخير" في ميعاده لمكتب الوزارة، وفضل مستني الباشا فترة طويلة، والباشا مطنش ماهو محرر صغير بقي عادي ما يستني انشالله للصبح. "أبو الخير" حس بالإهانة وقام مشي، طلع علي جريدة الأهرام وقدم استقالته، فانعقد مجلس إدارة جريدة الأهرام لبحث سبل الاستقالة _ اللي اترفضت طبعا _ اللي اعتبروها إهانة للصحفيين والصحافة عموما مش بس ل "أبو الخير نجيب". وقرروا عدم نشر أي شئ أو أي خبر أو أي صورة أو أي تعليق أو أي مقال عن "إسماعيل صدقى"، لحد ما ينزل اعتذار رسمي عن اللي حصل. وبعد شهر من مكابرة "إسماعيل صدقي باشا" واستخدامه لأساليب الضغط بتاعته، واللي كلها فشلت. أضطر يروح لمقر جريدة الأهرام بنفسه بكل صلفه وعنجهيته، ويقف قصاد المحرر الصغير "أبو الخير نجيب" ويعتذرله.

فضل "أبو الخير نجيب" صحفي في جريدة الاهرام لحد سنة 1949م، وفي سنة 1948م كان رئيس تحرير جريدة "النداء" اللي كتب فيها مقالته اللي أغضبت "الملك فاروق". 

الساعة 4 ونص الفجر، باب بيت "أبو الخير نجيب" بيخبط بترزيع جامد، يقوم يفتح الصحفي وهو مخضوض، يلاقي واحد من عمال مطبعة الجريدة بيقوله أن البوليس هجم علي الجرنال والمطبعة والمخزن، جمعوا اعداد الجرنال كلها وخدوها من ايد الناس في الشوارع، وان النيابة طلبته بكرة في محكمة مصر في جلسة استثنائية للحصول علي حكم تثبيت المصادرة. الساعة ٨ الصبح، في الجلسة الاستثنائية، بعد بحث القضية، تم الحكم ببراءة "أبو الخير نجيب"، والإفراج عن نسخ الجريدة، لأنه مذكرش في مقالته أي حاجة تخص "الملك فاروق" لا من قريب ولا من بعيد. 
 
لما عرف "الملك فاروق" الحكم، اتعصب زيادة، وبعت المستشاره ورئيس الديوان وصاحب فيهم بغضب أنها مؤامرة عليه من حزب الوفد والنيابة والقضاء. وبناء علي طلب الملك، أتعادت محاكمة "أبو الخير نجيب" تاني بتهمة العيب في الذات الملكية. 

المرة دي في المحكمة طلب "أبو الخير" الكلمة والدفاع عن نفسه، ووافق القاضي، فقال: "لم أشأ الدفاع عن نفسي وإنما رأيت أن أثير مسألة أعتبرها لب الموضوع، المسألة تخلص في أنني أعترف بأن القضية المطروحة أمام عدالتكم تنطوي بالفعل علي جريمة العيب في ذات جلالة الملك وتنطوي علي تهكم خطير علي ذاته المصونة بطريقة مباشرة. أنني أستأذن عدالتكم في نقل تهمة العيب في الذات الملكية لكي أضعها بالحق والعدل فوق كاهل السيد الأستاذ رئيس النيابة ممثل الاتهام في هذه القضية، والدليل علي هذا الاتهام الخطير ماثل في أقوال سيادته، وفي قرار الاتهام نفسه الذي وجهته النيابة لي. إن مقالي لم ترد فيه كلمة واحدة عن ملك البلاد ولا عن نظام الحكم في مصر، والمقال كله يدور حول الملوك الفاسدين الظالمين الذين يتجاوزون حدود ما رسمته لهم الدساتير. والملوك الذين يعتدون علي اختصاصات حكوماتهم الدستورية، ولما نفيت في التحقيق أن يكون قد ورد في خاطري ملك البلاد صمم السيد المحقق علي رأيه في أنني ما قصدت من الصورة السيئة إلا صاحب الجلالة ملك مصر. لقد حكم رئيس المحكمة ببراءة مقالي من كل ما يعيبه من الناحية القانونية، ورفع عنه مظنة العيب في ذات جلالة الملك، والعجيب أن سيادة رئيس النيابة لم يحترم حرم قضائكم المقدس فعاود تصميمه علي إسناد العيب في ذات جلالة الملك، وصفة الطغيان الي جلالته بلا دليل في يده، في حين أن الدليل علي إدانته هو ماثل وواضح من أقواله هو نفسه وفي تقرير الاتهام الذي يوجهه لي".  

دفاع الحقيقة بيدل علي فيلسوف كبير، سقراط ذات نفسه حضر يا ولاد. شوف هو لف الاتهام ولواه ورده في وشهم ازاي، ابن "حافظ نجيب" مفيش كلام يعني. الراجل قالهم أنا متكلمتش عن فاروق بكلمة أنا اتكلمت عن الملوك الظلمة، ومعني اتهامكم ليا اني بقصد بكلامي فاروق، يبقي ده اعتراف منكم أن فاروق ظالم. لا وايه وقع النيابة والقضاء في بعض، الله عليك يابني ضربة حرة مباشرة. 

وقصاد القذفة النارية دي، كان لازم تحكم المحكمة للمرة التانية ببراءة "أبو الخير نجيب" من تهمة العيب في الذات الملكية. ورغم حكم المحكمة، إلا أن النيابة رفضت إخلاء سبيله، مراضاة للملك. وهنا أتدخل زملاؤه الصحفيين، وتواصلوا مع رئيس الوزراء "النقراشي باشا"، اللي تواصل مع وزير العدل وقاله ازاي واحد المحكمة حكمتله بالبراءة، النيابة تفضل متحفظه عليه، ده تعدي علي سلطة القضاء، فقاله أن دي أوامر القصر، هنا "النقراشي" قاله لو مأفرجتوش عنه أنا هقدم استقالتي. وعليه أمر وزير العدل النيابة انها تفرج عن "أبو الخير نجيب" فورا. وهو خارج قاله النائب العام: " مبروك لقد قررنا الإفراج عنك بلا ضمان، بشرط أن تعدني وعد شرف بوقف نشر مقالاتك الحادة". رد عليه "أبو الخير" بإبتسامة وقاله: "سيدي أنا لا أقبل المساومة علي حريتي".

خرج "أبو الخير نجيب" من السجن وساب جريدة الأهرام وأصدر جريدة جديدة خاصة بيه اسمها "الجمهور المصري"، وشغل فيها عدد من الصحفيين الشباب اللي لسه جداد زي " محمود السعدني" و "أحمد طوغان" و "كمال النجمي" و "عباس الأسواني" و "سعاد منسي" و " فتحي الرملي". 

في سنة 1952م لما قامت ثورة يوليو، كان "أبو الخير نجيب" من أوائل الصحفيين اللي باركوا الثورة، وجند قلمه لخدمة أهداف الثورة، والدعم عل تخليص البلد من الفساد. لكن مفتش وقت كبير، عشان يكتشف أنها مش ثورة، ده مقلب والشعب شربه. ساعتها كتب مقالة بعنوان "النسور الهاوية" علي وزن مقالته القديمة الشهيرة "التيجان الهاوية"، وطالب فيها بعودة الضباط لثكناتهم وترك الحكم للشعب، وكتب جملته الشهيرة وقال: "طردنا ملكًا واستبدلنا به عشرة ملوك". 

"أبو الخير نجيب" كان فاكر أن تأييده للثورة ومشاركته في كتابة دستور الثورة هيشفعله، ويعتبرونه الناصح الأمين، وأن فيه احترام حريات الصحافة لسه، ومراعاة البروتوكولات ومؤسسات الدولة. لكنه نسي مبدأه السقراطي، هو قال شلنا ملك وحطينا عشرة، يبقي شلنا ظلم وحطينا عشر ظلمات يا "أبو الخير".

اتحول "أبو الخير نجيب" لمحاكمة عسكرية فورية، والحكم كان جاهز من قبل ما يتقبض عليه، اللي هو الإعدام بتهمة الخيانة، واتهموه أنه ممول من جهات اجنبية. أيوه هو احنا هنهزر ولا ايه، هنا مفيش عيب في الذات هنا زمن الاتهام بالخيانة والعمالة الأجنبية علي طول. وبعد النقض وبعد ما دافع عنه المحامي "عبد الرحيم نافع"، تم تخفيف الحكم للأشغال الشاقة المؤبدة، وتجريده من شرف مواطن، ومصادرة جميع ممتلكاته. وبعد 19 سنة سجن أفرج عنه الرئيس "السادات" بعفو رئاسي، بسبب سوء صحته.

خرج "أبو الخير نجيب" المرة دي من السجن، ملقاش حياته خالص، لا جريدته ولا بيته ولا فلوسه ولا اسمه ولا صحته، متاخد منه حرفيا حقه في الحياة، لمجرد أنه قال كلمة حق. أصبح منبوذ، والصحبة القديمة خايفة تقرب منه. وفى سنة 1975م، قرر رفع قضية أمام القضاء يطالب فيها بإعادة اصدار صحيفته وتعويضه 200 ألف جنيه بسبب سجنه ومصادرة أملاكه من سنة 1954. وبعد ثورة التصحيح، أيام "السادات"، قدر أنه يصدر كتاب"الحكومات البوليسية". وبعد وفاة "السادات" سلمته السيدة "جيهان السادات" درع الاعلام بسبب جهوده في خدمة الصحافة الوطنية.

يوم 7 ابريل سنة 1983م، في نقابة الصحفيين، قاعد الصحفي السبعيني الكبير "أبو الخير نجيب" مع مجموعة من الصحفيين في لقاء اجترار الذكريات. وبعد ما خلص قعدته، خرج من النقابة عشان يلاقي في الجمعية اللي قصادها فراخ بتتباع، راح واشتري فرخة لزوم غداه، وحطها في كيس أسود، شبيهة لذكرياته في السجون الناصرية. وابتدا يعدي الشارع علي عصابته بخطواته البطيئة، وإذ فجأة بيظهر أتوبيس نقل عام جاي بسرعة وميقدرش يفرمل نفسه عشان ياخد "أبو الخير نجيب" تحت عجلاته، وتصعد روحه المعذبة الي بارئها.

في سنة 1986، بتنتج الفنانة "ماجدة الخطيب" فيلم "الهروب من الخانكة" بطولة الفنان "فريد شوقي" عن قصة حياة "أبو الخير نجيب". لكن الفيلم بيتوقف عرضه بعد نزوله السينمات، و"ماجدة الخطيب" بيتلفقلها تهمة تعاطي والاتجار في الهيروين وتدخل السجن.
مروة طلعت
29 / 7 / 2023
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
المصادر:-
الملك والكتابة 2 - محمد توفيق.
أبو الخير نجيب شهيد الحرية الذى مات فى يده فرخة! -جريدة الوفد الأربعاء 15 مايو 2019.
أبو الخير نجيب صحافة الاعتزاز بالنفس - أحمد طوغان - الأهرام 21 مايو 2015.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خماراويه

السلطانة شجر الدر 6

نشأة محمد علي باشا