الملك الناصر محمد بن قلاوون

شفنا وسمعنا كتير في التاريخ، مليان ثورات وانتفاضات شعبية، علي الحكام والملوك والسلاطين، بغرض خلعه من السلطة، لما كيل الناس بيطفح، ويجيبوا أخرهم، من الظلم والفساد والطغيان. لكن عمرك سمعت عن ناس بيثوروا عشان يرجعوا حاكم مكانه تاني علي العرش. ايه مستغرب، طيب أزود استغرابك وأقولك أن الحاكم ده كان من المماليك. ده لدرجة أنهم فضلوه علي الفلوس والدهب، اللي كانت بتترمي عليهم.

أنا جاية النهاردة أحكيلكم عن أعظم سلاطين المماليك، واللي للأسف سيرته وانجازاته، مش واخدة حقها خالص. يعني لو سألتك وقولتلك تعرف مين من سلاطين المماليك، هتقولي قظز وبيبرس وقنصوه الغوري وطومان باي، الناس اللي درسناهم في كتب التاريخ دول. انما محدش هيذكر "السلطان الناصر محمد بن قلاوون" سلطان العصر الذهبي للدولة المملوكية.

حكايتنا النهاردة استكمال للحلقتين اللي عملتهم في سلسلة "حدوتة في رحلة مع مروة طلعت"، عن جامع "محمد بن قلاوون" في القلعة، واللي شفنا فيه لمحة عن قوة وتميز العصر ده (الحلقتين علي قناة عايمة في بحر الكتب ع اليوتيوب وهسيب الروابط في الكومنتات لو حابب تاخد فكرة يعني). السلطان "الناصر محمد بن قلاوون" حكايته كلها عجب في عجب ولا حكايات ألف ليلة وليلة، واللي عاوز يفهم طبيعة المماليك بجد، لازم يسمع الحكاية دي كويس.

كان يا ماكان، كان فيه زمان، سلطان علي مصر والشام أسمه "المنصور قلاوون"، الراجل ده من حكام المماليك اللي نقدر نقول عليهم كويسين، وكلمة حاكم كويس في العصر المملوكي، تعني حاكم قوي عينه في وسط راسه، بيعرف يعمل ملاعيب شيحة مع زمايله من المماليك، وطول الوقت كده مصحصح ومذاكر اللي حواليه، ودايما في المؤامرات سابق الكل. عنده ايد بتضرب العاصي والمتآمر بلا هوادة، والايد التانية بتطبطب وتعطي وتراضي، أصل المماليك كانوا عاملين زي السمك، القوي فيهم بياكل الضعيف. وعشان تكمل صفة الكويس عليه، فكان مراعي رعيته، أي نعم هو عمل معاهم حتة نقص كده في أول حكمه، لكنه كفر عنها باقي حياته كلها وراضي الناس وبنالهم أول بيراميستان خمس نجوم وعمل حاجات كتير حلوة - هنتكلم عن كل ده بالتفصيل لما نحكي حكايته - المهم ان الناس مش بس غفروله دول دابوا فيه دوب، وكان محبوب جدا، حتي المماليك قدروه.

بعد ما مات "المنصور قلاوون"، اجتمع مجلس المماليك، ونظرا لتقديرهم وتبجيلهم  لسيرة "قلاوون"، ومراضاة للرعية كمان. اختاروا خليفته يكون ابنه "الأشرف خليل بن قلاون"، ومع أن حكم المماليك مكنش في الأصل وراثة، لكن أسرة "قلاوون" توارثت الحكم 100 سنة من أصل 267 سنة. 

اتولي "الأشرف خليل بن قلاوون" الحكم، لكنه مكنش زي أبوه. كان حاد الطباع، وعصبي، ومكنش عنده الحنكة والفراسة والذكاء الاجتماعي. مكنش معاه شفرة المماليك زي ما كان مع أبوه يعني. هو الحسنة الوحيدة اللي عملها انه قدر يفتح طرابلس وعكا وقدر يطرد منهم الصليبيين، وينتهي من الصليبيين تماما. وبسبب صراعاته مع المماليك وتحديه ليهم المستمر، في سنة 1293م، و"الخليل بن قلاوون" بيتمشي في جنينة القصر، طلع عليه مجموعة من المماليك اللي تآمروا عليه، وكان منهم "بيدرا" وحسام الدين لاجين"، وقتلوه بسيوفهم، ومات "الاشرف خليل بن قلاوون" بعد 3 سنين حكم، وهو عنده 27 سنة.

وبعد مقتله عين "بيدرا" نفسه السلطان، لكن المماليك الموالين لأسرة "قلاوون" هجموا عليه تاني يوم وقتلوه، وقبضوا علي كل المماليك اللي تآمروا علي "الأشرف خليل"، ما عدا "لاجين" اللي قدر يهرب ويستخبي في مئذنة جامع "أحمد بن طولون" اللي كان مهجور في الوقت ده، ومحدش يتوقع ان حد يعيش فيه.

اجتمع كبار الأمراء المماليك، وعلي راسهم الأمير "كتبغا" والأمير "سنجر الشجاعي"، يتناقشوا مين اللي هيتولي العرش، كلهم اتفقوا نه لازم يكون حد من بيت السلطان "قلاوون". هنا كانت المشكلة، لأن "الخليل بن قلاوون" كان عنده بنتين من غير ولد، ومفضلش من أسرة "قلاوون"، ذكور غير أخو "الخليل" الصغير، "محمد بن قلاوون" اللي كان عنده 9 سنين.بس المماليك قالولك لا مشكلة ولاحاجة، دي حتة مصلحة، احنا نجيب الكتكوت الصغير نقعده علي العرش، ويبقي الورق ورقنا والدفاتر دفاترنا يا عمدة.

وفعلا بعتوا للخليفة العباسي، يبلغوه باختيارهم ل "محمد بن قلاوون" سلطان علي مصر والشام، علي أن يكون الوصي عليه ونائبه هو الأمير "كتبغا"، ووزيره الأمير "سنجر". وراحوا باعتين الرسل ل "محمد بن قلاوون" وأمه، اللي كانوا عايشين في حصن "الكرك" - في الأردن حاليا - بعيد عن السلطة، لا بيهم ولا عليهم، كافيين غيرهم شرهم، يبلغوه بضرورة الحضور لتنصيبه علي العرش.

فعلا بيحضر "محمد" من الكرك، ماسك في ايد أمه وهو بيعرج - كان عنده رجل أطول من التانية - يدخل القاهرة، ويتنصب سلطان مصر والشام، ويدوله لقب "الملك الناصر ناصر الدين محمد بن قلاوون"، الاسم أكبر منه أساسا. "الناصر محمد بن قلاوون" قعد علي العرش صوريا، لكن السلطان الفعلي كان "كتبغا" - أصله ماغولي، أتأسر وهو طفل في واحدة من حروب "الظاهر بيبرس" مع المغول، ودخل الاسلام، واتربي وسطهم، وخدم في جيش المماليك - وبعد سنة من استقرار الأوضاع، "كتبغا" بيجمع مجلس قيادة المماليك، ويقولهم ان المرحلة الحرجة اللي احنا فيها دي - كان المغول ابتدوا يعملوا قلق علي حدود الشام تاني - مينفعش يكون السلطان طفل صغير، لازم يكون سلطان قوي زيي. 

وبعد موافقة المماليك، بيروح "كتبغا" لحجرة "محمد بن قلاوون" وقاله شوف يا حبيبي احنا خلعناك من السلطنة. وبعدها بينصب "كتبغا" نفسه سلطان مصر والشام، ويسمي نفسه "الملك العادل زين الدين كتبغا". مين بقي بيرجع ويظهر في المشهد، فاكرين اللي كان متشعلق في مئذنة جامع أحمد بن طولون. أيوه كده برافو، هو "لاجين". قالك أن فات وقت كفاية علي هروبي، وأسرة "قلاوون" كلها بقت برة الصورة، والحال اتغير، والمصالح اتغيرت، يبقي مفيش خوف. 

"لاجين" ده بيفكرني ب "توفيق الدقن" لما كان بيقول ( أنا راجل لعين يا أخي)، كان أنسان بيعمل كل الموبقات اللي في الدنيا، وعايش حياته بالطول والعرض، مش همه حد غير مصلحته، لأ وبجح. "لاجين" نزل من المئذنة، طلع علي القلعة، يطلب أذن السلطان "كتبغا"، وباس الأرض وبايعه وطلب منه الأمان والسماح، مع وعد أنه هيكون الخادم المخلص الأمين. الغريب بقي، أن راجل محنك جايب السكة من تحت أوي زي "كتبغا" دخلت عليه تذللات "لاجين" وصدقه، لا وكمان عينه نائب للسلطنة. جايز "كتبغا" كان عاوز مملوك قوي زي "لاجين" جنبه وموالي ليه، بس "لاجين" كان موالي لنفسه وبس. 

سنة 1296م، بيحصل انخفاض للنيل، والحركة دي لما بتحصل، الناس بتتبهدل حرفيا. المحاصيل بتقل أوي، والتجارة بتتوقف، والناس عيشها بيتقطع، والمماليك مبترحمش الناس. السلطان عشان يضمن ولاء مماليكه - لأنهم في الأصل مرتزقة - لازم يطعم فمهم، ولما الخزنة بتفضي في مواسم الجفاف، بيتحول علي عامة الناس، وبالكرابيج بيقطع من لحم الحي الضرايب، اللي عادة بتزيد، عشان تكفي الايدين الممدودة من المماليك. ودي كانت فرصة "لاجين" أنه يصطاد في المية العكرة كعادته. ولف ودار علي المماليك لحد مكونله جبهة قوية من الموالين له، ودبر مكيدة من مكايده، لقتل السلطان "كتبغا".

السلطان "كتبغا" في الوقت ده كان في رحلة للشام، وأول ما رجع القاهرة، ودخل القصر، فوجئ بالمماليك بيهجموا عليه في دهليز القصر بغرض قتله. لكنه بيقدر يراوغ ويهرب، مش بس من القصر، ده من مصر كلها، وهرب علي دمشق. ومن دمشق بعت رسالة ل "لاجين"، بيقوله خد السلطنة بس سيبني أعيش. وبالفعل نصب ل"لاجين" نفسه، سلطان مصر والشام، وسمي نفسه، "المنصور حسام الدين لاجين"، وراضي برده "كتبغا" وعينه والي علي مدينة "حماه"، اللي في سوريا حاليا. ودخل علي "الناصر محمد بن قلاوون" اللي بقي عنده 12 سنة، وقاعد بيتفرج علي اغتصاب العرش منه، ومؤامرات وصراعات المماليك، وقاله: "لو علمت أنهم يخلوك سلطاناً والله تركت الملك لك، لكنهم لا يخلونه لك. أنا مملوكك ومملوك والدك، أحفظ لك الملك، وأنت الآن تروح إلى الكرك إلى أن تترعرع وترتجل (يعني تكبر وتبقي راجل) وتتخرج وتجرب الأمور وتعود إلى ملكك". طبعا "محمد بن قلاوون" كان لسه  جلده طري، ومتربي أغلب الوقت في خدور النساء بسبب حبسته، مكنش يقدر يقول لأ، وخصوصا ل "لاجين" اللي دم أخوه "الخليل" لسه مغرق ايديه. "محمد بن قلاوون" خدها من قاصرها، وخد أمه، ورجع تاني علي حصن الكرك، ولسان حاله بيقول أنا ايه اللي جابني، منا كنت قاعد، بصوت سعيد صالح.

الغريب بقي ان "لاجين" أول ما مسك السلطنة، اتبدل وبقي واحد تاني، عكس "لاجين" اللي نعرفه. بقي واجد تقي، وبيخاف ربنا، وبيراعي الناس، وخفف الضرايب، وبيسمع شكواهم، ويصلح الأمور،لحد ما الناس حبوه. وكثير التعبد، ومجالسة العلماء، بعد ما كانت مجالسه كلها عربدة وفجور. وجاله حالة ندم كبيرة عن كل اللي عمله في حياته، وخصوصا قتله لل "الخليل"، وكان دايما بيردد أنه عارف انه هيموت مقتول، لأن من قتل يقتل ولو بعد حين، بس نفسه ربنا يغفرله. واللي كان حاسس بيه "لاجين" حصل فعلا، المماليك تآمروا عليه، من ناحية لانه لما خفف ضرايب، حصتهم في الفلوس مكنتش مرضية، ومن ناحية تانية "لاجين" كان متحيز ل "منكوتمر"، وده واحد من المماليك، وكان "لاجين" معتبره ابنه، ومديله صلاحيات في التصرف مفتوحة.

وفي سنة 1299م، بيدخل "لاجين" ومعاه "منكوتمر" يصلوا العشاء في الجامع، فيقوم المماليك المتآمرة داخلين وراهم، وقاتلينهم هم الاتنين و"لاجين " بيصلي - سبحان الله - علي ايد الأمير "سيف الدين كرجي" اللي كان من موالين أسرة "قلاوون"، واعتبر قتله ل "لاجين" انتقام للسلطان "الخليل بن قلاوون".
    
بعد مقتل "لاجين" اجتمع أمراء المماليك، وابتدوا ياكلوا في بعض، ويتخانقوا، ويدخلوا في صراعات، مين اللي ياخد الحكم. وفي الوقت ده بعت أمراء من مؤيدين حكم اسرة "قلاوون" رسالة ل "الناصر محمد بن قلاوون"، ان أحضر فورا لاستعادة عرشك المسلوب. وفعلا بيطير "الناصر محمد بن قلاوون" مع أمه، ويدخلوا القاهرة تاني، بس المرة دي عنده 14 سنة، ويحط باقي أمراء المماليك قصاد الأمر الواقع، لأنه صاحب العرش الأصلي. ومن حب عامة الناس لأبوه "المنصور قلاوون"، فرحوا جدا لرجوعه، والناس استقبلوه باحتفال كبير، رقص وطبل وزغاريد.

في وقت صراعات المماليك، كان فيه اتنين فارضين سيطرتهم وقوتهم علي المجلس، وبيصارعوا علي العرش، وهم أمير مملوكي من أصل شركسي، اسمه "بيبرس الجاشنكير" - ده مش الظاهر بيبرس بتاع قطز ده واحد تاني، الاولاني كان اسمه بيبرس البندقداري - والتاني أمير مملوكي من اصل مغولي اسمه "سلار". ولما فوجئوا برجوع "الناصر محمد بن قلاوون" اضطروا يتراجعوا خطوة، ويبايعوه. لكن الاتنين بقوتهم جوا المجلس أصبحوا الأوصياء علي "محمد بن قلاوون" لأنه برده كان لسه صغير.

ونفس اللي حصل مع "محمد بن قلاوون" في سلطنته الاولي، اتكرر في سلطنته التانية، وكان مجرد شكل، لكن الحكم في ايد "بيبرس الجاشنكير" وسلار"، اللي دوقوا الناس صنوف من الذل والمهانة، ورجعت الكرابيج تاني تسلخ لحم الناس، تطلع منهم الضرايب والمكوس. 

زاد الطين بلة، ان الفترة دي حصلت فيها اضطرابات عظيمة ومدوية خارجيا وداخليا، وكله مع بعض. في سنة 1299م، نفس السنة الل اتقتل فيها "لاجين" ورجع فيها السلطان "محمد بن قلاوون"، ظهر قلق من ناحية المغول علي حدود الشام. المغول في الوقت ده أغلبهم دخل في الاسلام، لكن الحوار مكنش علي الدين، كان علي السيطرة وفرض العرق المغولي. 
خان مغول فارس "محمود غازان"، حضر جيش ب 100 ألف مقاتل لغزو الشام. أول الأخبار ما وصلت ل "الناصر محمد بن قلاوون"، ساب "بيبرس" و "سلار" ياكلوا في بعض، وبدأ يجهز جيشه. لكن بسبب التمزق والخناقات بين المماليك، مقدرش يجمع غير 20 ألف مقاتل بس. ورغم الخطر والمصيبة اللي حالة عليهم، بيتآمر مجموعة من المماليك علي قتل السلطان "الناصر محمد بن قلاوون"، أثناء ما كان بيجهز الجيش عشان ينقذهم من خطر المغول أصلا. لكن المؤامرة بتتكشف وبيتقبض عليهم ويأمر "الناصر محمد" باعدامهم، قبل ما يخرج بجيشه لمواجهة المغول، لكن المؤامرة دي أثرت في نفسية الجنود بالسلب، اللي هو احنا طالعين نحارب عشانكوا وانتوا مفيش دم خالص.

خرج "الناصر محمد بن قلاوون" اللي عنده 15 سنة، علي رأس جيشه لحد حمص - في سوريا حاليا - وألتقي بجيش المغول في وادي الخازندار، وكانت معركة غير متكافئة بالمرة، في العدد والعتاد ونفسية الجنود كمان. وكانت النتيجة أن "الناصر محمد" أنهزم قصاد المغول، اللي قدروا يسيطروا علي دمشق ذات نفسها. وانسحب جيش "الناصر محمد"، وكانت هزيمة قاسية علي قلبه الصغير خلته يبكي، ورجع بجيشه علي مصر ومعاه الدمشقيين العوام، اللي هربوا من هول المغول، فاتحاموا في "المنصور محمد"، ورجع معاه كمان "كتبغا".

تفتكر "الناصر محمد بن قلاوون" هيعمل ايه بعد كده مع المفول ومع المماليك المتآمرين ومع "بيبرس وسلار" ومع الاضطرابات اللي هتواجهه جوا مصر. ده اللي هنعرفه بأذن الله في الجزء التاني. 

مروة طلعت
13 / 7 / 2023
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
المصادر:
عصر سلاطين المماليك - أ. د. قاسم عبده قاسم تاريخ المماليك - أ. د. محمد سهيل طقوش العصر المماليكي - أ. د. سعيد عبد الفتاح عاشور فرسان الإسلام وحروب المماليك - جيمس واترسون مصر في العصور الوسطى - د. حسن علي إبراهيم تاريخ مصر في العصور الوسطى - ستانلي لين بول مصر المملوكية - د. هاني حمزة



 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خماراويه

السلطانة شجر الدر 6

نشأة محمد علي باشا