عبد العزيز جاويش

 في صباح أحد الأيام، دخل مدرس الترجمة، مدرسته، اللي عينته فيها وزارة المعارف، بسبب حاجتهم الشديدة لمدرسين ترجمة، لندرتهم في الوقت ده، بالمقارنة بعدد المدارس. ورغم أنه كان غير كفء للتدريس، بسبب عدم جديته في الدراسة، ولامبالاته اللي مخلياه مش مهتم بثقافته والاطلاع، الا أن حظه خدمته، وحاجة المدارس للمدرسين، خلتهم يعينوه من غير اختبار أوتدقيق. وفي اليوم ده، دخل المدرس حصته عادي زي كل يوم، وبدأ الشرح، وتلقين الطلبة مهارات الترجمة - اللي هو علي الله حكايته فيها -  من الانجليزية للعربية. واذ فجأة الباب بيخبط، ويدخل ناظر المدرسة، ويبلغ المدرس، ان فيه تفتيش من وزارة المعارف. هنا المدرس وشه بيصفر وقلبه بيقع في رجليه، لكنه بيهدي ويطمن لما بيشوف المفتش اللي داخل عليه، لابس عمامة. من خلال العمامة اللي علي راس المفتش، بيفهم المدرس، ان المفتش شيخ ازهري، ملوش في الانجليزي. ويقعد المفتش وسط الطلبة في الفصل بمنتهي الهدوء، ويستمر المدرس في شرحه، وهو هادي وواثق ان مفيش قلق. وبعد لحظات، المفتش بيقاطع المدرس وهو بيشرح، ويسأله، أنت بترجم ايه؟. رد عليه المدرس بثقة وقاله: قطعة انجليزية من الكتاب المقرر. قام المفتش من مكانه وقاله وريهاني. مسك المدرس كتاب "مرشد المترجم" المقرر في دراسة علم الترجمة، وفتحه وقلب فيه، لحد قطعة معينة، وراح مشاورله بثقة علي جملة فيها - ماهو فاهم انه اجراء روتيني عادي والمفتش مش فاهم حاجة - راح المفتش مسك منه الكتاب، ولصدمة المدرس الشديدة، يقرأ المفتش القطعة بمنتهي الاحترافية والاتقان للانجليزية، وبعد ما خلص قراءة، بص للمدرس وقاله: ايه علاقة القطعة بالترجمة اللي انت قلتها. لسه المدرس بيفوق من صدمته، راح المفتش مديله الصدمة القاضية وقاله: أنا "عبد العزيز جاويش" مؤلف كتاب "مرشد المترجم" ده.

اسكندرية، 31 أكتوبر سنة 1876م، "خليل جاويش"،  المصري تونسي الأصل، أكبر تجار الواردات الليبية في اسكندرية، بيتبشر بولاده ابنه "عبد العزيز"، من زوجته المصرية تركية الأصل. كبر "عبد العزيز"، وزي أي أسرة مصرية في الوقت ده، دخل الكتاب يحفظ القرآن الكريم، ويتعلم القراءة والكتابة والحساب. حفظ "عبد العزيز" القرآن الكريم كله في سن صغيرة، وكانت أحلي لحظات حياته في الكتاب، وظهر نبوغه في الدراسة وحب العلم. ولما وصل لسن 16 سنة، من الطبيعي أنه يقف مع والده في محلاته، ويتعلم منه فنون التجارة، لكن "عبد العزيز" بيرفض يسيب دراسته، ويطلب من والده أنه يكمل تعليمه. وأمام أصرار "عبد العزيز" بيوافق الأب، ويسافر "عبد العزيز" الي القاهرة، سنة 1892م، لاستكمال دراسته في الأزهر الشريف.

في الأزهر، لفت "عبد العزيز جاويش" نظر معلميه وزملاؤه، بتفوقه ونبوغه وذكائه، بس مكملش كتير في الازهر، وسابه وانتقل لكلية دار العلوم. هناك برز نبوغه الأدبي، وكان كاتب فصيح، وخطيب مفوه، في كل الندوات والتجمعات الثقافية ، الخاصة بالكلية أو خارجها، وفوق ده كمان كان حلو الحديث، لطيف الروح، شديد الحياء، جرئ في الدفاع عن دينه ومبادئه، قوي الحجة والاقناع، متواضع رغم تفوقه. وأهم صفه فيه انه كان وطني محب لبلده، وشجاع في التعبير عن رفضه لأوضاع الاحتلال. والصفات دي هي اللي خلته يتقرب اوي من أستاذه في الكلية الامام "محمد عبده"، وكان حريص جدا أنه يحضر كل دروسه في التفسير، وكان واضح تأثره العميق بيه، فيما بعد، في تفكيره ووأسلوبه الخطابي والكتابي، واتخرج من دار العلوم سنة 1897م.

 بعد ما اتخرج، اشتغل مدرس لغة عربية في مدرسة - كلية - الزراعة. لكن بسبب تفوقه، ودوه البارز الفعال في المجتمع، أختاروه ضمن البعثة التعليمية اللي رايحة تدرس في انجلترا،  وهناك ألتحق بجامعة “برورود”، ودرس فيها علوم التربية والطرق الحديثة في التدريس. رجع مصر سنة 1901م، واشتغل مفتش في وزارة المعارف - التربية والتعليم - وبعد سنة ونص بيرجع انجلترا تاني بعد ما طلبوه في جامعة أكسفورد، يشتغل فيها مدرس للغة العربية. وفي فترة وجوده في انجلترا المرة دي، اختاروه عضو في مؤتمر المستشرقين اللي اتعمل في الجزائر سنة 1905م، وفي المؤتمر رد على محاولات بعض المستشرقين في الطعن في القرآن، بلغة بليغة وبرهان قوي - ماهو تلميذ الإمام "محمد عبده" بقي - أثارت إعجاب الحاضرين، ونالت تقديرهم وإجلالهم له. وألف كتاب "مرشد المترجم" اللي اعتمدته وزارة المعارف في كتبها الدراسية، لتعليم الطلبة فنون الترجمة، من والي اللغة الإنجليزية. 

  في سنة 1906م، بيرجع "جاويش" علي مصر، ويرجع علي شغله اللي كان فيه قبل ما يسافر، كمفتش في وزارة المعارف. في سنة ١٩٠٨م، بيتواصل معاه الزعيم "محمد فريد" ويطلب منه رئاسة تحرير جريدة اللواء، واللي أسسها سابقا الزعيم "مصطفي كامل"، وكان ليها تاريخ من الصولات والجولات السياسية ضد الاحتلال الإنجليزي. بيوافق "عبد العزيز جاويش" فورا، وده لأن الحزب الوطني التابعة ليه الجريدة، كان علي هواه. وفي نفس السنة بيتفاجئ "سعد زغلول" اللي كان وزير المعارف وقتها، بإستقالة "جاويش" قصاده، فبيحاول يقنعه _ بما انهم كانوا تلاميذ حلقات الامام "محمد عبده" سوا _ أنه يتراجع عن استقالته، لكن "جاويش" بيصر، وهنا بتنتهي علاقته بالتعليم، وابتدي حياته كصحفي.

3 مايو 1908، كان تاريخ أول عدد يصدر من جريدة اللواء، وفيه أول مقالة لرئيس التحرير الجديد "عبد العزيز جاويش". واللي بانت اتجاهاته فيها بوضوح _من أولها كده عشان نبقي علي نور _ أنه راجل يقدر يستخدم قلمه ببراعة للدفاع عن قضية الوطن، وشن الهجوم الحاد واللاذع علي الاحتلال الإنجليزي والقصر في وقت واحد. ده غير دفاعه المستميت عن الأمة الإسلامية، لأنه كان شايف حق الأمة المصرية في الحرية والجلاء والدستور، وشايف كمان حق العالم الإسلامي، وكان يؤمن بوحدته تحت راية الدولة العثمانية.

مقالاته عملت صدي كبير في الشارع المصري، وبدأت الناس تستني مقالاته بشغف، وكلامه الحاد أشعل حماس الشباب، وعمل قلق وبلبلة لمعسكرات الإنجليز. لدرجة أن انجلترا أصدرت أمر بمنع خريجين اللغة العربية أنهم يجوا يدرسوا في انجلترا تاني بسبب "عبد العزيز جاويش" وقلمة اللي زي الكرباج. ووصفته صحيفة "الإجيبشان غازيت" بأنه أحد "شديدي العداوة والكراهية ومن ألد خصوم الإنكليز". وبسبب قلم "عبد العزيز جاويش" الحر والذي لا يخشي في الحق لومة لائم، وحملاته الصحفية النارية، تم أصدار قانون للمطبوعات سنة ١٩٠٩م ، غرضه الرقابة علي الصحافة وتقييد حريتها. وبناء علي القانون ده، اتقدم "عبد العزيز جاويش" للمحاكمة ثلاث مرات، واتحقق معاه غيرهم أربع مرات، واتسجن مرتين.

"عبد العزيز جاويش" مكنش مجرد صحفي، لكنه كان مصلح اجتماعي. موقفش عند المطالبة بالجلاء والدستور وإطلاق الحريات، لكنه وسع قاعدة أهدافه، بأنه يشتغل علي احتياجات المصريين في مقاومة الانجليز، فكان تلميذ مخلص لأفكار ومشروع "جمال الدين الأفغاني" في معالجته لقضايا العالم الإسلامي، ووريث أصيل لأمام "محمد عبده" في حلوله لمسائل الإصلاح الاجتماعي والتربية. كان هدف "عبد العزيز جاويش" الأساسي كشف مؤامرات بريطانيا، ورد هجماتها، وفضح أكاذيبها، وإثارة النفوس عليها، ويوضح للناس أن مستحيل الثقة فيها.

أنشأ جمعية المواساة الإسلامية التي كانت تعول 200 أسرة.وعمل على توسيع مشروعات نقابات العمال والنقابات الزراعية، ومجال التعليم والإصلاح الاجتماعي، وبسبب مشاريعه دي طاف البلاد والمحافظات يلقي فيها المحاضرات التوعوية. وكان مهتم أوي في محاضراته أنه يتكلم عن الأسرة والبيت، وكان من دعاة تخفيف القيود المفروضة على المرأة، ونادى في خطبه ومحادثاته بضرورة إنشاء فرق في المعاهد الدينية لتعليم المرأة الدين واللغة العربية، ومن أقواله: "المرأة لم تخلق لتكون متاعاً في يد الرجل يتناوله متى شاء وينبذه كيفما شاء، إنما هي سلوان الرجل ومعوانه على الدهر". وده يدينا فكرة يعني إيه مكنش مجرد صحفي بيكتب في مكتبه وخلاص، ده كان مصلح اجتماعي حقيقي، أيده وسط الناس، مش من برج عاجي.

في يونيو سنة 1912، كتب مقالة نارية في ذكري مذبحة دنشواي،  وبسببها تم استدعاء "عبد العزيز جاويش" للمحاكمة. وكان وقتها رئيس محكمة دنشواي "بطرس باشا غالي" بقي رئيس الحكومة _ رئيس الوزراء يعني _ وعضو محكمة دنشواي  "أحمد فتحي زغلول" _ أخو "سعد زغلول" _ أصبح وكيل الحقانية _وزير العدل يعني _وطبعا عملوا معاه الصح _ ماهم اتكافؤا علي جريمتهم واعتبروها أكبر إنجازاتهم فمتجيش انت وتشتمنا _ واتحكم عليه بالسجن ٣ شهور. لكن الناس برا السجن منسوش الراجل الحر اللي قدر يضربهم في وشهم بكلامه من غير خوف. ناس كتير عملت دعاوي شعبية للمواطنين، أنهم يتبرعوا ويشتركوا في إقامة حفل تكريم "عبد العزيز جاويش" بعد خروجه من السجن. وفعلا الدعاوي بتنجح والمواطنين من العامة المصريين بيتبرعوا، ولموا من بعض وعملوله وسام من 3 قطع ذهبية، وسموه "وسام الشعب". وأول ما خرج اتفاجئ باحتفال الشعب بيه، وتقديمهم الوسام ليه. 

طبعا انجلترا اتغاظت من اللي حصل، "عبد العزيز جاويش" عدوها اللدود، أصبح بطل شعبي. في يونيو 1910م، كتب "عبد العزيز جاويش" مقدمة لديوان شعر "وطنيتي" للشاعر "علي الغاياتي"، فمصدقوا يلاقوله حاجة يتلككوا عليها، واتحاكم بسبب المقدمة دي واتسجن 3 شهور، بتهمة التحريض على العنف وإهانة هيئات الحكومة. 

سنة 1912م، لما الدنيا داقت عليه أوي، والانجليز حطوه تحت عينيهم بشكل مخلوش يقدر يتنفس أو يتحرك، اضطر أنه يسيب مصر ويهاجر علي الآستانة _عاصمة الخلافة العثمانية، اللي كانت وقتها لسة موجودة _ بتركيا.ومن هناك أعاد إصدار مجلة الهداية، والهلال العثماني، والحق يعلو. لما الإنجليز شافوا أن مفيش فايدة فيه حتي لما بعد عن مصر، قلمه برده طايلهم ومبهدلهم في العالم كله. راحوا ملفقينله تهمة، أنه له علاقة بمنشورات سياسية، مسكوا طالب بيهم وهو راجع من تركيا، وطالبوا الآستانة بضرورة تسليمهم "عبد العزيز جاويش" لمحاكمته. وبالفعل سلموه لمصر، واتحقق معاه، ولما اتثبت أنه ملوش علاقة، تم الإفراج عنه، ورجع علي تركيا تاني سنة 1917م.

سنة 1918م انهزمت الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وسقطت بانهزامها. فسافر "عبد العزيز جاويش" علي ألمانيا. وفي سنة 1922م، بيبعتله "كمال أتاتورك" _ أول حاكم لتركيا بعد سقوط الخلافة _ يطلب منه التعاون في إنشاء دولته الجديدة. بيوافق "جاويش" ويرجع تركيا، ويتعين رئيس للجنة الشؤون التأليفية بأنقرة، لكنه في سنة 1923م بيناطح مع "أتاتورك" بسبب سياسته العلمانية، وبيضطر يهرب في السر علي مصر. بعد رجوع "جاويش" مصر ب 10 أيام، بيتوافقله علي الإقامة في مصر، والرجوع مرة تانية. لكن مسمحوش ليه يرجع للصحافة تاني.

اتعين سنة 1925م، مراقب للتعليم الأولي في وزارة المعارف العمومي، وقدم في وظيفته إصلاحات هامة وجذرية في نظام التعليم. منها إنشاء المدارس في القري والبلاد اللي مكنش فيها مدارس، وإرسال البعثات التعليمية لطلاب الأزهر اللي مكنش مسموح لهم في الأول.وكمل مسيرة أستاذه الامام "محمد عبده" ودخل العلوم العصرية في دراسة الأزهر جنب العلوم التشريعية والفقهية. وقام بعمل صندوق للتبرعات عشان يدفع مصاريف الأولاد اللي مش قادرة تدفع رسوم الدراسة ويعلمهم _ الاحتلال الإنجليزي كان بيصر علي عدم مجانية التعليم عشان يزود نسبة الجهل في البلد _ وانشأ رياض الأطفال، والمدارس الإعدادية عشان تكون حلقة وصل بين الابتدائية والتوجيهية. وغيرها كتير من الإصلاحات اللي محدش عارف مين اللي عملها وتطورها.

فيه بعض الانتقادات اللي اتوجهت "عبد العزيز جاويش" في خلال مسيرته. أول حاجة ميله وانحيازه للخلافة العثمانية، لكن اللي شايفاه أنه مكنش منحاز للعثمانيين بقدر أنه كان يتمني الوحدة الإسلامية زي زمان، فمرحلة قوة الشعوب الإسلامية كان وقت اتحادها وبمجرد ما انفرطت دب الضعف فيها واصبحنا ملطشة للاحتلال، فهو كان بيدافع عن الفكرة وليس عن العثمانيين اللي يعتبروا برده احتلال من نوع اخر. 

تاني انتقاد أنه اختلف مع الزعيم "سعد زغلول" وكان بيهاجمه، علي الرغم أنهم تلاميذ الأمام "محمد عبده" مع بعض. وانا من رأيي أن "سعد زغلول" في ترأسه للحكومة عمل فعلا أخطاء جانبت الهدف الأساسي لحركة حزب الوفد في كثير من الأحيان. 

تالت انتقاد، كان هجومه علي "طه حسين" اللي يعتبر من تلاميذ "جاويش" أصلا، وده عشان "طه حسين" كان بيدعي لخلع الحجاب، ومن رأيي برده أن "جاويش" عنده حق طبعا، لأن الحجاب فرض كالصلاة والصوم، مهما تشكك المتشككون.

رابع انتقاد وجهه له "عباس العقاد" وقال:"أعجب لرجل يفهم الوطنية المصرية في نهضة المطالبة بالاستقلال، حين قدم للمحاكمة، كان دفاعه الأول أنه غير مصري، لأنه ينتمي إلى أسرة تونسية، وتونس خاضعة للحماية الفرنسية". ودي كانت محاولة للهروب من "جاويش" من حكم المحكمة عليه في واحدة من المحاكمات اللي اتسجن فيها، والانتقاد ده الوحيد اللي اتفق فيه مع العقاد. 

وكان "عبد العزيز جاويش" في سنواته الأخيرة يرعى أسرة زميل جهاده الزعيم "محمد فريد" اللي توفي في برلين سنة 1920، ورعاية أسرة الصحفي المجاهد "أمين الرافعي" اللي توفي قبله، لحد فجر الجمعة 25 يناير 1929م، يتوفي "عبد العزيز جاويش" بعد حياة حافلة من العطاء، عن عمر 53 سنة، وهو سايب ذكرى عطرة وسيرة طيبة لأجيال أمته.

مروة طلعت

24/7/2023

#عايمة_في_بحر_الكتب

#الحكاواتية

#بتاعة_حواديت_تاريخ

المصادر:

رجال عرفتهم -عباس محمود العقاد.

عبد العزيز جاويش: من رواد التربية والصحافة والاجتماع - أنور الجندي.

محمد فريد رمز الاخلاص والتضحية - عبد الرحمن الرافعي.

موسوعة تراث مصري _ أيمن عثمان.

عبد العزيز جاويش الأديب والصحفي والمصلح الاجتماعي _ حسن الشيخة.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خماراويه

السلطانة شجر الدر 6

نشأة محمد علي باشا