سليمان الجوسقي

يوم 14 ديسمبر سنة 2008م، فوجئ العالم بالصحفي العراقي "منتظر الزيدي"، وهو بيحدف الرئيس الأمريكي "جورج بوش" بالجزمة، في وسط مؤتمر صحفي كبير ذاعته كل وكلات الانباء العالمية. وأصبحت جزمة "الزيدي" ترند الموسم، وكل المواسم، اتحفرت كحادثة رفض للمحتل، وتعبير عن الغضب للدمار والمهانة اللي حصلت في العراق، في سجلات التاريخ، وفي أذهان كل اللي عاصروها.

الحقيقة مكنتش دي الحادثة الوحيدة من النوع ده ده، التاريخ مليان حوادث مشابهة، لناس عبروا عن غضبهم من حاكم ظالم أو محتل بالضرب، بأشكال مختلفة. بس كان "الزيدي" هو الأسعد حظ ما بينهم، أخره قضاله 9 شهور في السجن وخرج حي، أنما اللي كانوا قبله علي شاكلته، كانت حياتهم هي المقابل.

في سنة 1967م، قلب الكاتب الكبير "علي أحمد باكثير" في سجلات التاريخ، وخرج من قلبه شخصية ملهمة منسية، لكن وقتها كانت عاملة أثر كبير، لفترة طويلة، وقدمها في مسرحيته "الدودة والثعبان"، شخصية شيخ العميان "سليمان الجوسقي". 

في سنة 1798م، بتدخل الحملة الفرنسية مصر، بقيادة صاري عسكر الجنرال "نابليون بونابرت". داخل وفي دماغه خيالات صناعة المجد، متخيل نفسه "الاسكندر الأكبر" في زمانه لما دخل مصر. بلد غرقانة في الجهل والتخلف، لقمة سهلة، مش هتاخد في ايده غلوة، تكون نقطة البداية لامبراطوريته الجديدة. لكن الحقيقة أن مصر مكنتش لقمة سهلة، كانت شوكة وقفتله في الزور، وبالعرض.

حاول "نابليون" يضحك علي المصريين، ويدخلهم من أكتر منطقة بتجيب معاهم، ويلعب عليها، مشاعرهم الدينية. حاول يصدر للمصريين، انه بيحترم الدين الاسلامي وبيقدسه، ويطبطب علي الشيوخ وعلماء الدين، ويلبس زيهم وينزل الاحتفال بالمولد النبوي، ويقولهم أنه المخلص من قساوة وبشاعة المماليك. بس أسمع كلامك أصدقك، أشوف أمورك أستعجب، أخبار المذابح والفجور في القري والنجوع مالية البلد، اللي هو أبشع من المماليك نفسهم، وبعدين أمور الدروشة اللي عملها دي، مأقنعتش أصغر عيل صغير، أنت كداب يا ابو صلاح.

مقاومة الناس والأهالي، كانت في كل مكان، في القاهرة والبحري، وده لأن قوات مراد بك اللي هرب للصعيد، والصعايدة الجدعان، مخلوش جنس عسكري فرنساوي يخطي برجله للصعيد. ومن قرية الجوسق - بلبيس شرقية - جه "سليمان الجوسقي"، الكفيف منذ الولادة، علي الأزهر للدراسة، قبل زمن الحملة الفرنسية، وبمرور الأيام والسنين، قدر الشيخ "سليمان" يكون شيخ العميان، يعني حواليه عدد كبير جدا من المكفوفين، تحت لواءه وحمايته، وهم طائفة كان ليهم من الأزهر وقف خيري.

"سليمان" الجوسقي" كان واخد تركيبة "الشيخ حسني" كده، كان أعمي البصر ومفتح البصيرة، أخد لواء طائفة العميان، وحط التاتش بتاعه. بقي يستثمر في فلوس الوقف، ويتاجر في الحبوب والاغلال والعسل، فالأمور انتعشت وزادت خراج وفلوس العميان، لدرجة ان الخير شمل كمان فقراء العميان مش الأزهريين. وبالتالي زادت محبة وارتباط العميان ليه، وكون بيهم شبه جيش خاص بيه، رهن اشارته. واللي كان بيتأخر من التجار اللي بيتعامل معاهم في تحصيل الفلوس، كان بيبعتله جيش العميان، يطلعوا منه فلوسهم بمعرفتهم، يعني ما يغركش أنهم عميان.

لحد ما دخلت الحملة الفرنسية مصر، وغيرة الشيخ "سليمان الجوسقي" علي دينه، وشهامته ونخوته، مخلتوش يقبل أبدا وجود الفرنجة في أرضه. "نابليون" مكنش عنده معرفة بالطائفة دي، ما الغريب أعمي ولو كان بصير، هم بالنسباله مجموعة عميان، كويس اوي يعرفوا يتحسسوا طريقهم من غير إصابات. لكن الحقيقة أن مجموعة العميان دول، عملوا قلق أكتر من المفتحين، وخصوصا في ثورة القاهرة الاولي 20 أكتوبر 1798م.

الشيخ "سليمان الجوسقي" قسم فرقة العميان لمجموعات، مجموعة تمشي لمكان معسكرات الفرنسيين، وتتنصت عليهم، ماهم عميان بقي محدش شاكك فيهم، وينقلوا كلامهم وأوامرهم للمسنخدمين المصريين اللي تبعهم، لقيادات المقاومة والثورة. وفرقة تانية لمهمات الاغتيالات، الواحد منهم يمشي بهدوم متسخة متقطعة، يشحت جنب أماكن تجمعات الفرنسيين، وخصوصا المواخير والحانات، يخرج منهم العسكري سكران مدروخ، يعترض طريقه الاعمي ويروح ضاربه بالسكينة مخلص عليه، وبرده محدش هيشك في الأعمي. ده غير أن فلوس الوقفية، والخراج بتاعهم كله، كان مسخره لخدمة رجال المقاومة، للأسلحة والتحصينات.

استمرت سلسلة الاغتيالات والتجسس علي أكمل وجه، لحد ما "نابليون" بقي هيتجنن، ويلف حوالين نفسه، عاوز يعرف مصدر الحاجات اللي بتحصل دي فين. لحد ما قدر يحل اللغز، وعرف ان اللي بيعملوا فيهم ده كله هم العمين، ورئيسهم الشيخ "سليمان الجوسقي". أمر "نابليون" بالقبض علي "سليمان الجوسقي"، لكن الشيخ كان أزهري، وزي ما قولنا "نابليون" كان طريقته يحاول يهدي الأمور بالطبطبة علي الشيوخ وعلماء الدين - هو صحيح دنسوا الأزهر ذات نفسه بخيولهم وخمورهم وعربدتهم 3 أيام، بس أدام هنقول سوري يبقي سو وات - فحاول أنه ياخد الشيخ "سليمان" في صفه، ويطمعه بالامتيازات، والمناصب. ابتسم الشيخ "سليمان الجوسقي" وهو بيبصله بعينيه المطموسة، فاعتبر "نابليون" الابتسامة دي موافقة، فقام يسلم عليه تأكيد للأتفاق اللي بينهم. مد الشيخ "سليمان" ايده اليمين يسلم علي "نابليون"، وبايده الشمال راح نازل بيها كف فلاحي أصيل علي وش "نابليون" طرشه.

خيال الكاتب الكبير "علي أحمد باكثير"، خلاه يسجل اللحظة العظيمة دي في مسرحيته، ويعملها حوار، فقال علي لسان "سليمان الجوسقي": "معذرة يا بونابرت هذه ليست يدي، هذه يد الشعب". طبعا ده حوار في المسرحية لأن أصلا كلمة الشعب ومفهوم الوطنية مظهرش الا بظهور "جمال الدين الافغاني" والمتنورين من بعده، وقت الاحتلال الانجليزي، بعد الحدث ده ب 100 سنة يعني. 

لك أن تتخيل رد فعل "نابليون" كان عامل ايه؟، طبعا أمر بسجنه وتعذيبه، واتحكم عليه بالاعدام. لكن المؤرخين اختلفوا حوالين وفاته، فيه مصادر قالت انه إتعدم بالشنق مع علماء الأزهر الستة اللي أمر "نابليون" بإعدامهم معاه، ومصادر تانية قالت بأنهم رموه من فوق القلعة. وفيه مصادر تانية قالت ان بعد صدور حكم الإعدام، الحكم متنفذش عشان أعمي، واتسجن كام شهر وأتوفي.

فضلت سيرة كف الجوسقي، علي كل لسان في مصر، وفضلت الناس فاكرة الكف اللي شفت غليلهم، لكن مرت السنين، واتنست الكف، لكنها فضلت فكرة لا تموت.

مروة طلعت

1 / 7 / 2023

#عايمة_في_بحر_الكتب

#بتاعة_حواديت_تاريخ

المصادر:

عجائب الآثار في التراجم والأخبار ج2 - عبد الرحمن الجبرتي.

كتاب المقاومة الحضارية  دراسة فى عوامل البعث فى قرون الانحدار - هاني محمود.

مسرحية الدودة والثعبان - علي أحمد باكثير.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خماراويه

السلطانة شجر الدر 6

نشأة محمد علي باشا