الملك الناصر محمد بن قلاوون 4
هذا الشبل من ذاك الأسد، المقولة دي تنطبق جدا علي "الناصر محمد بن قلاوون". ذكرنا في الجزء الأول، أن "المنصور قلاوون" الأب، كان سياسي عقر، وحريف في التعامل مع المماليك، وعارف ثغراتهم، وفاهم كويس اللي بيفكروا فيه واللي بيخططوله من قبل ما يحصل، وقدر في خلال فترة حكمه يملي مركزه وحط المماليك خاتم في صباعه، بأسلوبهم وطريقتهم، وفي نفس الوقت قدر يحتل قلوب المصريين بكرمه وجوده والاهتمام بشئون رعيته. الملك "المنصور قلاوون" كان ليه ولدين اتنين بس _ غير البنات بس الحكم أكيد للذكور _ "الخليل و محمد"، وزي ما حكينا برده في الجزء الاول، "الخليل" علي الرغم من عشرته لوالده، باعتباره ابنه البكر، مقدرش ياخد منه فن التعامل الخاص مع المماليك، وكان عكس أبوه تماما، فكانت النتيجة تآمر المماليك عليه وقتله. ابنه التاني "محمد" كان عنده ٦ سنين، وقت وفاة والده، يعني ذكرياته مع أبوه كانت ضئيلة أو منعدمة، لكن جينات "قلاوون" في ذكاءه وحكمته وبصيرته وقدرته علي فهم وتحليل الأمور، كانت ملكة تملكها "محمد"، ونمي الجينات دي عنده، حياته الغريبة اللي عاشها، والتجارب المحبطة والمخذلة اللي مر بيها، وكمية الصراعات اللي شافها من وهو ٩ سنين، كل ده صنع منه الشبل شبيه الأسد الأب، لكن في الضل، ومحدش كان حاسس بده ولا شايفه.
بعد تنازل السلطان "الناصر محمد بن قلاوون" عن السلطنة والحكم، اتفق مجلس المماليك علي تعيين "بيبرس الجاشنكير" سلطان، ويكون نائبه "سلار"، وذكرنا في الجزء التاني أد ايه العامة كانوا يطيقوا العما ولا يطيقوهم.
رغم رجوع "الناصر محمد بن قلاوون" لحصن الكرك لتالت مرة، وتنازله بكيفه ومزاجه المرة دي عن السلطنة. الا أن "بيبرس الجاشنكير" و"سلار" كانوا برده مقلقين منه، ومش مرتاحين لبعده عن أيديهم، خصوصا أنه بقي وسط مماليك أبوه "المنصور قلاوون"، وكمان معاه فلوسه وخيوله، والدنيا زبادي خلاط معاه.
بعت السلطان "بيبرس الجاشنكير" رسالة تهديد ل "الناصر محمد بن قلاوون"، قاله فيها أنه لو لعب بديله، وكان ليه أي نوايا لعمل مؤامرات لاسترداد الحكم، العواقب هتبقي وخيمة، واكيد مش هيتردد في قتله. رد عليه "الناصر محمد بن قلاوون" برسالة ودودة ولطيفة، وقاله أنه أتنازل عن العرش عن طيب خاطر، وأنه مش في نيته يدخل في أي صراعات تانية. يسكت بقي "الجاشنكير" علي كده، ده حتي ميصحش. بعتلي رسل يطالبونه بفلوسه وخيوله ومماليكه يسلمها لمصر، عشان محتاجينهم في بيت المال، ورغم أن الطلب مستفز جدا، لكن "الناصر محمد" بيوافق ويبعتله نص أمواله وخيوله.
للدرجة دي "الناصر محمد" كان من الضعف أنه يوافق علي حاجة زي كده، الحقيقة أن الإجابة أن ده مكنش ضعف، ده كان حكمة وتكتيك. كان في فترة لا سلم لا حرب زي بتاعة "أنور السادات"، بمعني أنه كان بيبعت رسله ويتواصل مع أمراء المماليك في كل البلاد، اللي كانوا من مماليك أبوه، عشان يكون جبهة تسنده ويبقوا في ضهره، وكل ده في السر، في صمت من غير أي حركة تعمل بلبلة، فهو سكت علي رسالة ورزالة "الجاشنكير" مش ضعف، هو بس كان بيتقل علي الرز، ومش عاوز يعمل أي حركة يخلي "الجاشنكير" يشك فيه، عاوزه يشوفه أنه فعلا ضعيف مكسور الجناح، عشان لما يقوم عليه، تبقي القاضية.
الظروف كمان خدمت "الناصر محمد بن قلاوون" جدا. بعد تولي "بيبرس الجاشنكير" السلطنة وأصبح "سلار" نائبه، سنة ١٣١٠م، فجأة النيل جف، والنيل بالنسبة للمصريين هو الروح والحياة، فالناس اتشاءموا منهم، وزاد كرههم ل"بيبرس" و"سلار" أضعاف مضاعفة. وبقت الناس علي شعرة، والأحداث في مصر علي صفيح ساخن.
ومع ضغط المماليك، علي العامة في فترة الجفاف والوباء والبلاء، وإصرارهم علي تحصيل الضرائب والاتاوات، والناس بتموت من الجوع. المصريين جضوا وانفجروا، وكانت ثورة عظيمة وشديدة، ثورة الحرافيش، أو زي ما بيسموها ثورة الجياع، ألعن أنواع الثورات، ناس أصلا مبقاش عندها حاجة تخاف عليها، حتي العمر ما هو كده كده بيخلص، واهي موتة ولا أكتر.
طلع الناس علي المماليك كلوهم بأيديهم وسنانهم، وطلعوا علي بيوتهم دغدغوها ونعبوها وسرقوها، والخانات والمحلات كذلك. وبقوا يهتفوويتفاجئا بإسم السلطان اللي بيحبوه "الناصر محمد" ويقولوا يا ناصر يامنصور. ويقولوا جملتهم المشهورة اللي سجلها التاريخ (سلطانا ركين ونائبه دقين تجينا الميا من فين، هاتولنا الأعرج تيجي الميا تدحرج). ومعني سلطانا ركين هو تصغير وتحقير لأسم "ركن الدين بيبرس الجاشنكير"، ونائبه دقين اللي هو "سلار" عشان كانت دقنه منبتة بيتريقوا علي شكله يعني، هاتولنا الأعرج اللي هو "الناصر محمد بن قلاوون" عشان كان بيعرج لأن عنده رجل أطول من التانية زي ما ذكرنا في الجزء الأول، شعب بيتعاطي التنمر في عروقه 😂😂.
ويتفاجئ "بيبرس الجاشنكير" و " سلار" بالعامة بيقتحموا القلعة ومفيش أي قوة قادرة توقفهم. بيلموا فلوسهم وأهل بيتهم ويطلعوا يجروا، ينجوا بحياتهم من طوفان البشر الغاضبة، لكن الناس بتاخد علم بهروبهم ويفضلوا يجروا وراهم ويطاردوهم، رايحين علي فين ده انتوا شربتونا الذل والقهر في كاسات. فضل "بيبرس" و "سلار" بحريمهم وأولادهم ومماليكهم، يجروا، والناس تجري وراهم، والمسافة بينهم بتقل، ومن رعبهم وخوفهم من الناس، بقوا يرشوا فلوسهم ودهبهم علي الناس، عشان يوقفوهم ويتلهوا في الدهب المرمي علي الارض، لكن الناس مبصوش حتي للدهب وفضلوا يطاردوهم، مكنوش شايفين قدامهم غير رغبتهم في أخد تارهم من بيبرس وسلار.
في نفس ذات الوقت كان "الناصر محمد بن قلاوون" قدر يكونله جيش من المؤيدين، اللي جمعهم من أمراء المماليك الموالين لأبوه "المنصور قلاوون"، وداخل علي مصر بغرض استرداد عرشه تاني. فوجئ وهو علي أبواب مصر، بأخبار الثورة وهروب الجاشنكير وسلار، ومطاردة الناس ليهم، وان العامة بيستنجدوا بيه، وبينادوا بيه سلطان.
دخل "الناصر محمد بن قلاوون" مصر، وهو عنده ٢٣ سنة. الناس هللت وكبرت أول ما شافوه داخل عليهم من أسوار القاهرة. والستات تزغرد، والناس تهتف يا ناصر يا منصور. وكانت مظاهرة حب عظيمة وفرحة كبيرة بالملك اللي كان عاوز يسترد عرشه بالقوة، لكنه لقي حب الرعية مقدمهوله علي طبق من دهب.
مماليك "الناصر محمد" بيقدروا يطاردوا "الجاشنكير" و "سلار" ويقبضوا عليهم، ويجيبوهم مكبلين بالأغلال علي القلعة، مرمين تحت رجلين "الناصر محمد"، اللي أول مابشوفهم، بينى في خياله شريط ذكرياته السودة معاهم. يأمر "الناصر محمد" بقطع رقبة "الجاشنكير" في التو واللحظة قصاده في قاعة الحكم، وبالنسبة ل"سلار" اللي ركبه كانت بتخبط في بعضها، بيأمر بحبسه من غير أكل، لحد ما أكل جزمته ومات من الجوع.
وابتعدي عهد جديد شبيه لعهد الأب "المنصور قلاوون"، فأتعامل "الناصر محمد" بالشدة والحسم، وكمان القسوة، علي المماليك الشاكك في ولاءهم، فلم الفيران في جحورها. واللين والرحمة وسعة الصدر مع الرعية.
فيه بعض من مماليك الجاشنكير وسلار هربوا عند خان المغول، وبقوا يحرضوه علي غزو الشام ومحاربة "الناصر محمد"، لحد ما هيأله شيطانه أنه يقدر يعملها. وقبل ما يجهز خان المغول جيشه، كانت عيون "الناصر محمد" موصلاله نية الخان في الغزو. ولما جهز خان المغول الجيش وأول ماعدي نهر الفرات فوجئ بجيش "الناصر محمد" واقف مستنيه. فاترعب من منظره، وعرف أنه قصاد ملك قوي جبار مش سهل أبدا، وقام لافف وراجع تاني من غير ما يخطي خطوة واحدة في أرض الشام.
خبرة "الناصر محمد" الطويلة مع المماليك، وتجارب الطفولة معاهم، خلته دايماً مصحصح ومترقب وشاكك في كل صغيرة وكبيرة تصدر عنهم أو عن غيرهم، فلو شاف أو حس بأي بادرة خروج أو تمرد قضى عليها في الحال، لدرجة أنه في سنة 738 هجرية/ 1338م نفى الخليفة العباسي "المستكفي با لله" ذات نفسه _ الخلافة العباسية كانت مقيمة في مصر من بعد خراب بغداد علي إيد المغول، من أيام بيبرس البندقداري _ إلى قوص بحجة استخدامه، يعني بقي ميال للمماليك المتمردين.
وبالنسبة لحكم الرعية، كان محارب للفساد، ولغي فكرة المعلوم _ الرشاوي _ بإيد من حديد، والناس كانت بتدعيله ليل نهار. وكان "الناصر" بيروح بنفسه في كل يوم اثنين، دار العدل عشان يسمع شكاوي الرعية، اللي جايين يشتكوا المسؤولين أوالأمراء أو الموظفين، وكانت أحكامه في المسائل دي رادعة، تخلي أي مسؤول يفكر ألف مرة قبل ما يظلم الناس، ويخاف لحد من الرعية يشتكيه للسلطان. وأصدر "الناصر" قرار يمنع النواب من معاقبة المتهمين والإساءة إليهم بدون تصريح منه. ومنع ضرب الناس بالمقارع، وقفل جب القلعة اللي كان مستخدم كسجن، وكانت له سمعة وحشة من التعذيب والموت، ومعششة فيه الخفافيش. وبلغ النظام الإداري في عهد "الناصر محمد" درجة عظيمة من الدقة والتنسيق.
في عهد "الناصر محمد" ارتفعت مكانة مصر في العالم، وسعت البلاد الإسلامية والغربية لتحسين العلاقات مع مصر، وأصبحت القاهرة قبلة للمتوددين والزوار من كل مكان في العالم. وخطب باسم "الناصر محمد بن قلاوون" على منابر بغداد التي كانت في ايد مغول فارس، ومش بس كده ده كمان اتنقش اسمه على نقودها. وخطب ملوك بني رسول في اليمن "للناصر محمد" وأرسلوا له الهدايا. وخطب "للناصر محمد" في دولة بني قرمان في آسيا الصغرى، وعلى منابر تونس وطرابلس الغرب وماردين، وقامت علاقات ودية بينه وبين ملوك الهند والصين وملوك غرب أفريقيا. وكان "الناصر محمد"، خادم الحرمين الشريفين، يشرف على الحجاز وتهامة، وينصب أمراء المدينة ومكة. وفي سنة 1322م، عقد الملك "الناصر محمد بن قلاوون" اتفاقية سلام مع خان مغول فارس.
يوم عيد الاضحي سنة ١٣٤١م، حس الملك "الناصر محمد" بتعب وهذال وهو بيلبس عشان يروح يصلي صلاة العيد. لكنه اتحامل علي نفسه وراح ساحة الصلاة، لكنه طلب من قاضي القضاة أنه يوجز في خطبته، لأنه حاسس بالتعب ومش قادر يقعد كتير. وروح فعلا الملك "الناصر محمد" ورقد مريض طريح الفراش، ومن قلق الأطباء وحيرتهم فهم أن خلاص الأجل آن ميعاده. فجمع أمراء المماليك، وبلغهم وصيته بتعيين إبنه "أبو بكر" سلطان من بعده. ومن رحمة ربنا بيه، مطولش في مرضه، وسلم الروح الي بارئها بعد ١٠ أيام، وهو عنده ٥٨ سنة. ويعتبر من سلاطين المماليك القلائل جدا جدا اللي ماتوا علي سرير المرض عادي في سلام، من غير ما يتقتل.
قال المقريزي عنه : «كان الناصر أطول ملوك زمانه عمراً وأعظمهم مهابة». ويصفه الجبرتي بأنه : «كان ملكاً عظيماً جليلا كفؤا للسلطنة ذا دهاء محباً للعدل والعمارة، وطابت مدته وشاع ذكره وطار صيته في الأفاق وهابته الأسود وخطب له في بلاد بعيدة». ويقول ابن إياس عنه : «لم يل من أبناء الملوك قاطبة مُلك مصر أعظم من الملك الناصر محمد».
مات الملك "الناصر محمد بن قلاوون" وله ١٤ ولد و ٧ بنات، حكم منهم ٨ ولاد من أولاده. واندفن جنب أبوه "المنصور قلاوون" في القبة المنصورية في شارع المعز. وحزن عليه الناس في البلاد الإسلامية كلها شرقا وغربا، حزن شديد، لأنهم فقدوا رجل من أعدل الناس وأقوي الحكام.
السؤال هنا ازاي حاكم بالقوة والعدل ده، ومندرسوش في كتاب التاريخ، عجبت لك يا زمن.
مروة طلعت
22 / 7 /2023
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
المصادر:_
عصر سلاطين المماليك - أ. د. قاسم عبده قاسم
تاريخ المماليك - أ. د. محمد سهيل طقوش
العصر المماليكي - أ. د. سعيد عبد الفتاح عاشور
فرسان الإسلام وحروب المماليك - جيمس واترسون
مصر في العصور الوسطى - د. حسن علي إبراهيم
تاريخ مصر في العصور الوسطى - ستانلي لين بول
مصر المملوكية - د. هاني حمزة
تعليقات
إرسال تعليق