مذبحة القلعة

فضلت القاهرة لعدة أيام، وخصوصا قلعة الجبل، تتزين وتتهيأ لمناسبة وحدث مهم جدا. وهو خروج جيش "محمد علي باشا" بقيادة أحب أبنائه لقلبه، الأمير "أحمد طوسون باشا"، من مصر الي بلاد الحجاز. وده من بعد طلب السلطان العثماني، من "محمد علي"، انه يقضيله علي الثورة الوهابية في الحجاز. وفي الوقت ده كان "محمد علي" لسه في بداية بناء امبراطوريته، ومحاط بالأعداء في كل اتجاه، وبالتالي مكنش يقدر يرفض للسلطان العثماني طلبه، ماهي المشرحة مش ناقصة قتلي. 

قوة "محمد علي باشا" الفعلية وكلمة السر، كانت جيشه، واللي كان كل يوم بيكبر ويقوي، كل ما يزودله خبرات عسكرية، بيستدها من بعثاته لبرا، والاسلحة اللي بنالها مصانع تصنعها محليا. جيش "محمد علي" كان هو الحصن المنيع اللي محاوطه من رشقات الأعداء، وأصبح مخيف في نفس الوقت للأصدقاء قبل الأعداء. عشان كده السلطان العثماني قالك أضرب عصفورين بحجر، أطلع جيش "محمد علي" للحجاز، منها يقضولي علي الوهابيين، ومنها أهد الجيش شويه في صراعات وألهيه عن "محمد علي"، وأدي فرصة للماليك ياكلوه جوا، ويخلصوني منه.

"محمد علي باشا" مكنش عبيط، ده يعتبر هو اللي اخترع السياسة والتكتيكات أصلا. ده فهم كل الألاعيب اللي بتدور في دماغ السلطان العثماني، من أول سطر قراه في رسالته، مبروم علي مبروم ميرولش. وفي نفس الوقت ميقدرش يرفض طلب السلطان، علي الأقل في الوقت الحالي. قعد "محمد علي باشا" لوحده، وفي ايده مبسم الشيشة، يفكر بهدوء وبراحة كده، يقلبها يمين وشمال. بس دايما كانت النتيجة واحدة، لو رفض جيشه الفرحان بيه مش هيصد قصاد جيش السلطنة العثمانية، او ان السلطان هيرزعه فرمان عزل يحيب أجله. ولو وافق والجيش خرج، هو كده بقي عريان، وسط المماليك - عارف انت مشهد سكار لما حاوطوه الضباع في اخر الفيلم - هياكلوا لحمه قبل عضامه. أول ما تفكيره وصله للنتيجه دي، نده علي رفيق الدسائس "صالح كوش"، اللي جه مصر معاه من ألبانيا. قاله يا "كوش" انت هتخرج مع "طوسون" في حملته بالحجاز - بصفته واحد من قيادات الفرق الألبانية في الجيش -  بس قبل ما تخرج عاوزك في مصلحة. واتقفلت الأبواب عليهم، في اجتماع ثنائي مغلق لا ثالث لهم، شديد السرية والخطورة.

لف المنادي في الاسواق - اذاعة الأخبار وقتها - ينادي ويعلم الناس أن الوالي "محمد علي باشا"، أمر بخروج الجيش بقيادة "أحمد طوسون باشا"، للحجاز في مهمة خاصة بالسلطان العثماني. وفي نفس الوقت، لفت الرسل علي أماكن تجمعات أمراء المماليك، وبيوتهم، يدولهم دعوة أنيقة من الوالي "محمد علي باشا"، لحضور احتفالية كبيرة عاملها في قلعة الجبل، بمناسبة توديع الجيش المتجه للحجاز. في الوقت ده كان بين "محمد علي" والمماليك، حرب باردة، اللي هو ود وابتسامات ومجاملات وهدايا ومسح كوخ وبوس كتاف في العلن، وفي الخفا خوازيق ودسائس متبادلة، رايح جاي. عشان كده كل المماليك قبلت الدعوة، زيها زي المجاملات الصفرا، وكلهم بصوا لبعض نظرات مع ابتسامات جانبية خبيثة، وده عشان جه في بالهم نفس الخاطر، يومها ناكل عند "محمد علي"، وتاني يوم ناكل "محمد علي" ذات نفسه.

 الجمعة 1 من مارس سنة 1811م.

دخل المماليك قلعة الجبل في كامل أناقتهم، مع جنودهم وكشافيهم - السكرتارية - وسابوا أسلحتهم علي الباب، تنفيذ لبروتوكول الدخول لقاعة العرش. واستقبلهم "محمد علي باشا" في صدر قاعة عرشه، بحفاوة - ولا استقبال ملك الأردن لضيوف فرح ابنه - بالأحضان والقبلات والابتسامات والضحكات، الليلة ليلة هنا وسرور. والكوبايات فعلا كانت في صواني بتدور، نزل الساقع والسخن، ومن بعده المحمر والمشمر، وكل ما تشتهي الأنفس من طيبات الطعام. و"محمد علي باشا" كان أول واحد بيشرب وبياكل من كل الأطباق، عشان يطمنهم أن الدنيا أمان، مفيش سم يا ولاد، احنا جايين ننبسط. ونزل المماليك علي الأكل والشرب زي الجراد، والراقصات والمغنيات شغالين جنبهم، عشان يزودوا جو الصهللة والفرفشة.

الساعة 5، كان الأمير "أحمد طوسون" - كان عنده 17 سنة -  لبس فرو السمور، وخنجره المزين بالجواهر، وسيفه الفولاذي،  وطربوشه العثماني الأحمر. وخرج من غرفته، اتجه للحرملك، وبالتحديد لغرفة أمه "أمينة هانم" - زوجة محمد علي الأولي وأحب زوجاته لقلبه وأم ابراهيم وطوسون واسماعيل - باس علي ايديها، وضمته في حضنها، ودعتله بالتوفيق والسلامة.    

اتكلمنا عن حروب "أحمد طوسون باشا" في الحجاز هنا 👇

https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=pfbid02MiGJX1LGLHzLPw2vsKbgLMi8SVXnugT4yFKVvRNhVoXgYGeQzpezMBroVLQMz5KXl&id=100070872365801&mibextid=Nif5oz 

وبعد حفلة السمر والأكل والشرب حتي الامتلاء. نزل الأمير "أحمد طوسون"، واستقبله والده "محمد علي باشا" بالحضن، وبعدها بدأت المراسم الرسمية، قلده الباشا لواء القيادة، واعطاه الباشاوية، ولقب "سر عسكر" - قائد القواد - وبدأ العرض العسكري. قرعت الطبول وعزفت الموسيقي العسكرية، وأصطف الجنود، صفوف وراء القائد العام "أحمد طوسون باشا" علي حصانه. والغريب ان الوالي "محمد علي" اختار خروج الجيش من ممر باب العزب بالتحديد، اللي هو اديق ممرات ابواب القلعة. ووقف "محمد علي" يراقب خروج الجيش من علي الأسوار، وملامح وشه متوترة وحادة، وايده بتترعش علي السور. 

بعد خروج "أحمد طوسون باشا"، وراه "أوزون علي" بفرقة الدلاه، ووراهم طوائف المشاه والفرسان، ووراهم الوزراء والامراء وأصحاب المناصب. كان مفروض وراهم أمراء المماليك وجنودهم وكشافيهم، الا انهم فوجئوا بعد خروج أخر صف من صفوف أصحاب المناصب ب "ابراهيم أغا" بيأمر بقفل الابواب في وشهم، بعد ما شاورله "صالح كوش". ويرفع "صالح كوش" راسه لفوق، للوالي "محمد علي" اللي جسمه كله بقي يترعش، ورغم رعشته، الا انه هز راسه. وهنا أطلق "صالح كوش" أول رصاصة من بندقيته، ودي كانت اشارة البدء. ظهر جنود فرقته الألبانية من كل خرم في الاسوار اللي حوالين ممر باب العزب، والبنادق بقت تتسابق في حصد أرواح المماليك، بقت الطلقات جاية من كل مكان، المماليك بقت تجري زي الفيران المذعورة يمين وشمال، يجيلهم الموت علي غفلة، لا مفر ولا ملجأ. 

من بشاعة المنظر "محمد علي" نفسه مستحملش، وجري جوا القصر، وهو بيتنفض. أصوات الرصاص، فزعت الحريم في الحرملك، وبقوا يصوتوا، مش فاهمين ايه اللي بيحصل، أقرب توقع كان، انه اعتداء عليهم، مجاش في بالهم انها مدبحة، عملها الوالي، جوا القلعة. في عز هلعهم وصريخهم، فوجئت "أمينة هانم" ب "سليمان بك البواب" - كان واحد من مماليك "الالفي بك" - بيحاول يتسلق برج الحرملك، وبيصرخ "في عرض الحريم، في عرض الحريم". جريت "أمينة هان" علي الشباك تبصله، لكن شافت الجنود الألبان، ضربوه بالنار فوقع، وراحول وجزوا رقبته بالسكين. المنظر ده عملها صدمة شديدة، وفهمت بيه اللي بيحصل، ده مش اعتداء علينا، ده خسه وخيانة منا. ومن يومها لحد وفاه "محمد علي باشا"، يعني 38 سنة، و "أمينه هانم" اعتزلته تماما، وحرمت نفسها عليه. 

الصدمة الكبيرة بقي كانت من نصيب الأمير "أحمد طوسون"، في عز زهوته ومركبه، وقف الموكب في ميدان الرميلة - ميدان القلعة - بعد ما سمعوا صوت طلقات الرصاص والصريخ. وقف وهو مش فاهم ايه اللي بيحصل، وصدمته شلته، بقي مش عارف يرجع ولا يعمل ايه، خصوصا ان باب العزب مقفول وراهم. وفجأة الدم بقي يجري أنهار تحت رجليهم ببشاعة. الدم ملا ميدان القلعة كله وملا كل الشوارع والروب - عشان كده اتسمي الدرب الاحمر - وفجأة سمع الاهالي بتصرخ، الوالي بيقتل المماليك جوا القلعة. فضل "أحمد طوسون" علي حصانه، وعلي وشه أبلغ معاني الصدمة والرفض للي بيحصل. لكن "محمد علي" قرر يتغدي بالمماليك قبل ما يتعشوا بيه.

المماليك حاولوا يهربوا، او يستخبوا في الشقوق، لكن اللي مكنش بتطوله رصاصة، كان سيف حرس الباب بيطول رقبته. "شاهين بك الألفي" عمل حاجة عبقرية الحقيقة، رص جثث المماليك اللي حواليه، وطلع علي ضهورهم عشان يوصل لقاعة الاعمدة، لكن جنود الارناؤوط شافوه وضربوه بالنار، ومن بعدها جزوا رقبته.

الجبرتي قال ان "أمين بك" كان المملوك الناجي الوحيد من المدبحة، بعد ما قدر يوصل لحصانه ونط بيه من أسوار القلعة. لكن جيلبرت سيبنويه قال ان "أمين بك" وهو بيشرب القهوة لسه في الحفلة اتدلقت عليه، فاعتبرها فال سئ، فخد بعضه ومشي قبل المدبحة، ولما سمع باللي حصل، خد بعضه وعيلته وهرب للشام.

وبعد المدبحة، دخل علي "محمد علي باشا" جنوده برؤوس أشهر أمراء المماليك، عشان ياخدوا الحلاوة، ورموهم تحت رجليه. لكن "محمد علي" كان لسه بيرتعش من الخوف ومن هول اللي حصل، فدخل عليه طبيبه الايطالي "ماندريشي" وقاله (قضي الأمر هذا عيد لسموك). لما سمع منه بوقين التطبيل دول، بدأ يهدي، وطلب كوباية ماية، وبدأ يحس بالانتصار.

بعد ما تم القضاء علي المماليك في القلعة - 400 مملوك و 600 من جنودهم والكشافة - تفتكر الموضوع خلص علي كده، ابدا. ده الجنود الالبان والارناؤوط، منظر الدم هايجهم وحولهم لحيوانات متعطشة لمزيد من الدم، ومزيد من المكافأت الثمينة. ونزلوا زي الجراد من القلعة علي بيوت الناس والدكاكين، واقتحموها وسرقوا كل حاجة، وهتكوا الاعراض، ودبحوا الرقاب. واستمر السرقة والدبح، وصريخ الناس الغلابة مالي الفضا. جري "أحمد طوسون باشا" علي القلعة بعد ما دبح بايده واحد من جنود الارناؤوط وهو بيسرق، ومسك راسه في ايده، ودخل بيها علي ابوه وقاله يوقف الجرايم اللي في الشارع، ويلم كلابه. وفعلا خرج "محمد علي باشا" بنفسه، مع "أحمد طوسون باشا" للشارع، فلما الجنود عرفت بوجوده اتلموا قصاده. فأمر بقطع راس 20 من الجنود السارقين قصاد كل الناس، منهم اتنين من حرسه الخاص. ولولا كده كانت الناس كلها ماتت.

تاني يوم، أمر "محمد علي باشا"، الكتخدا "لاظوغلي" انه يقضي علي باقي المماليك اللي موجودين في بر مصر كله من الشمال للجنوب، ومن الشرق للغرب. وده لأنه كان عارف اد ايه "لاظوغلي" بيكره المماليك. وفي ظرف سنة كان "لاظغلي" أتم مهمته، واي مللوكي بيظهر، كان بيجز رقبته في الحال، فقضي علي 2000 مملوك تانيين غير ال 1000 بتوع القلعة. ومن يومها ومصرأصبحت حرفيا في قبضة يد "محمد علي باشا"، شكلها زي ما هو بيحلم.

مروة طلعت

22 / 6 / 2023

#عايمة_في_بحر_الكتب

#الحكاواتية

#بتاعة_حواديت_تاريخ

المصادر:

عجائب الآثار في التراجم والاخبار ج3 - عبد الرحمن الجبرتي.

الفرعون الاخير - جيلبرت سينويه.

محمد علي الكبير - شفيق غبريال.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خماراويه

السلطانة شجر الدر 6

نشأة محمد علي باشا