سليمان خاطر

 8 ابريل سنة 1970م، قرية إكياد البحرية مركز فاقوس محافظة الشرقية. صبح هادي جميل، والجو صافي، والفلاحين في غيطانهم، والأمهات في بيوتهم بيجهزوا الغدا لعيالهم لما يرجعوا من مدارسهم، والاولاد صبيان وبنات في المدرسة، بيسمعوا شرح مدرسينهم، وبيحلوا تمارينهم في كتبهم وكشاكيلهم. وفجأة الساعة 9 و تلت، الولاد بيتفزعوا وبيصوتوا من الرعب علي صوت طيارات الفانتوم الحربية، قريبة أوي من سطوح مدرستهم، والفزع الأكبر لما سمعوا صوت القنابل والانفجارات وكأنها فيهم. وهنا اتحول اليوم لكابوس، والولاد والبنات بيصرخوا من الفزع وبيجروا مش عارفين ايه اللي بيحصل ولا يجروا علي فين. الكل بيجري وحاسس يوم القيامة، الطلاب والمدرسين والاهالي، كله بقي في الشوارع بيجري ناحية النار والدخان. الفزع الأكبر والنار كانوا في قرية جنبهم، كل أهالي البلد والبلاد المجاورة، جريوا عليها بعد انتهاء الضرب واختفاء الطيارات. كان قصادهم جريمة من أبشع وأقسي الجرائم في حق الانسانية.

محافظتى الشرقية
ومدرستى
بحر البقر الابتدائية
وكراستى
مكتوب عليها تاريخ اليوم
مكتوب على الكراس اسمى
شايل عليه عرقى و دمى
من الجراح اللى فى جسمى
ومن شفايف بتنادى
يا بلادى يا بلادى
انا بحبك يا بلادى

أصوات صريخ وعويل أهالي قرية بحر البقر، طالع من حرقة قلب أمهات وآباء علي فلذات أكبادهم، اللي لسه في عمر الزهور. وفي وسط كل ده، واقف طفل 9 سنين، من قرية إكياد البحرية، في نفس عمر ال 30 طفل اللي استشهدوا، وال 36 المصابين، علي ايد القوات الجوية الاسرائيلية. واقف شايف أجساد الأطفال البريئة المبعترة علي الأرض، ودمهم الطاهر السايل علي ركام المدرسة والكراريس والشنط. مذهول وجواه 100 سؤال، هم عملوا ايه، وذنبهم ايه، وليه هم، مش جايز كان ممكن أبقي مكانهم.

سنة 1961م، أسرة ريفية بسيطة، في قرية إكياد في محافظة الشرقية، ربنا رزقهم بخامس مولود ليهم، من بعد ولدين وبنتين. الأسرة والعيلة فرحوا بيه، ما هم بيحبوا العزوة، ووش جديد برزق جديد، وسموه "سليمان"... "سليمان محمد عبد الحميد خاطر"، واللي العالم كله عرفه ب "سليمان خاطر".

بيكبر "سليمان" زي أي طفل عادي في قرية ريفية، جدرهم ماسك في الأرض، وبتربي جواهم الغريزة بالانتماء، وبتشد عودهم، وبيشيلوا مسؤولية، فتلاقيهم أطفال رجال قبل الأوان. كل يوم ينام فيه "سليمان"، يشوف في المنام، أطفال مذبحة بحر البقر، ويشوف نفسه واحد منهم وسطيهم. الحادثة دي عرفته وفهمته - بشكل عملي قاسي جدا - مين هم الأعداء اللي بجد.

في سنة 1973م، قامت معركة النصر والتحرير، و"سليمان" عنده 12 سنة، سمع الخبر واترحم علي الشهداء. سنة 1978م، فوجئ "سليمان" بمعاهدة السلام في كامب ديفيد، وعقله الصغير الكبير، بقي في حيرة، لكنه قال يعني هنفهم أكتر من الحكومة، اكيد المصلحة عاوزة كده. بس اللي في القلب فضل وهيفضل دايما في القلب.

لا تصالحْ!
..ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..:

كبر "سليمان" وأصبح شاب عارف ربنا كويس، ملتزم دينيا وأخلاقيا، محبوب من أهله وأهل بلده، وكان بيحفظ أولاد قريته القرآن. خلص "سليمان" ثانوي، وكان لازم عليه التجنيد، وتجنيده كان في وزارة الداخلية تبع قوات الأمن المركزي، وكانت خدمته حراسة في منطقة رأس برقة (جنوب سيناء) في النقطة "46"، والنفطة دي بالذات كانت نقطة شديدة السرية، ومن أول يوم فيها والتنبيهات مستمرة، ممنوع الدخول لأي مخلوق الا بالتصريح، حتي ولو كان عسكري، ومخالفة الأوامر دي، معناها الجزاء والمحاكمة العسكرية. وده اللي مع مجند النقطة "36" اللي سمح لمجموعة أشخاص يعدوا، فأتحول للمحاكمة والسجن.

الأيام كانت طويلة علي "سليمان" في خدمته، بس اللي كان مهونها عليه، احساسه انه بيأدي واجبه وبيحمي بلده علي الحدود، وده شجعه انه يكمل دراسته، ويدخل كلية الحقوق جامعة مفتوحة.
عدت سنين التجنيد علي خير، اللي كانت عبارة عن أيام زي بعضها، اللي مجريها بس، دراسته اللي كان مجتهد فيها. ومكنش فاضل ل"سليمان" في خدمته غير يوم واحد، ويسلم سلاحه وعهدته، ويرجع لبلده وأهله وناسه، وحياته المدنية، يكمل فيها دراسته بعد ما وصل لسنة تانية حقوق.

يوم 5 أكتوبر سنة 1985م، واقف "سليمان" في خدمته ونقطه مراقبته، في نوبة حراسته الليلية، مستني الشمس تطلع، عشان يسلم ويرجع لحبايبه، وبيحلم ببيته وأمه وفرشته وقريته. وفي عز تفكيره وأحلامه، بيلمح في الضلمة خيالات طالعة الهضبة اللي واقف عليها حراسة. فجأة الادرينالين بيضرب في جسمه، ويخطف بندقيته في ايده، علي وض الاستعداد، ويصرخ بعلو صوته ( اثبت مكانك )، لكنهم موقفوش ومعملوش أي رد فعل أنهم سمعوه أصلا - مع أن المسافة بينهم مكنتش بعيدة - استنتج "سليمان" أنهم مش عارفين عربي، فردد نفس الجملة تاني بصوت أعلي بالانجليزي. برده لا حياة لمن تنادي، وهنا كان لازم علي "سليمان" يتخذ الخطوة التانية اللي اتعلمها في تدريباته العسكرية، وهو أنه يضرب طلقات تحذيرية في الهوا. وبرده المتسللين كانوا مصرين يعدوا، ومش مدين للتحذيرات أي أهمية، وهنا وصلوا بالنسبة ل"سليمان" لمرحلة التسلل الخطر، وده علي حسب التدريبات العسكرية، ملهاش غير حل واحد، الضرب في المليان. وده اللي نفذه "سليمان" بالحرف، وكانت النتيجة 7 جثث مرميين علي الأرض قصاده. بعد دقايق خد فيها "سليمان" نفسه، واستوعب فيها اللي حصل، خد بندقيته، ونزل علي مركز القيادة، سلم نفسه، وحكالهم اللي حصل. طلعت قوة من الجيش علي النقطة "46"، يشوفوا اللي حصل، وبعد المعاينة، اكتشفوا ان الجثث ل 7 اسرائيليين متسللين، كانوا بيحاولوا يعدوا الحدود. الموضوع مكنش سهل، بسبب اتفاقية السلام.

وعلي مبدأ ضربني وبكي وسبقني واشتكي المشهورين بيها، طلعت الصحافة الاسرائيلية المحلية والعالمية، تنوح وتندد، أن المصريين الوحشين قتلوا 7 سياح اسرائيليين منهم 4 أطفال كيوت عزل من غير ذنب. طب هو السؤال بس عشان نفهم، ايه اللي جاب سياح في مناطق عسكرية مفيش فيها أي مزارات سياحية ولا فنادق، ده غير ان مكنش فيهم أطفال أصلا، بس دي عادة قلب الترابيزة بتاعتهم الأزلية، واتحولوا قصاد العالم كله من مذنبين لضحايا.

"سليمان" كان قاعد، راضي جدا عن نفسه وحاسس أنه أدي واجبه ناحية وطنه وخدمته علي أكمل وجه، وأنه أحبط محاولة تجسس كانت هتحصل لولا يقظته. وكان متوقع نيشان أو تكرين علي بطولته، لكن اللي حصل العكس تماما. فوجئ "سليمان" بترحيله لمحاكمة عسكرية عاجلة، وتوجيه له تهمه القتل العمد قضية رقم 143/85 جنايات عسكرية السويس.

الأسئلة اللي اتوجهت ل"سليمان" في التحقيق كانت غريبة اوي، المحقق بيسأله انت موجه ليك تهمة القتل العمد ل7 اسرائيليين، فرد عليه "سليمان" رد منطقي وقاله حضرتك انا راجل واقف في خدمتي، وأؤدي واجبي، وفي أجهزة ومعدات ما يصحش حد يشوفها، والجبل من أصله ممنوع أي حد يطلع عليه سواء مصري أو أجنبي، دي منطقة ممنوعة وممنوع أي حد يتواجد فيها، وده أمر وإلا يبقى خلاص نسيب الحدود فاضية، وكل اللي تورينا جسمها نعديها، لو كنتم عاوزينهم يعدوا ليه قولتولي متعديش حد. المحقق سأله سؤال أغرب وقاله ليه انت كنت معمر سلاحك، رد عليه "سليمان" وقاله اللي يحب سلاحه بيحب وطنه واللي يهمل سلاحه يبقي بيهمل وطنه، وبعدين انا ماسكه ليه لو مش متعمر.

حاولت هيئة التحقيق اثبات ان "سليمان" مختل عقليا - كالعادة - بعد ما "مبارك" طلع قال انه مختل عقلي. وعلي حسب ما حكي الحاج "عبد المنعم" شقيق "سليمان"، ان جالهم عن طريق المحامي بتاعهم طلب باستخراج شهادة من المستشفي تثبت أن "سليمان" مختل عقلي، وفي ظل حالة التخبط اللي عاشوها والخوف علي "سليمان"، والأمل في ان الشهادة دي ممكن تخرجه من محنته، راح أخوه طلعله الشهادة المطلوبة ودفعله فيها 15 ألف جنيه من مستشفي جمال ماضي أبو العزايم.

بعد انتهاء التحقيق اتحول "سليمان" للمحكمة العسكرية، في 28 ديسمبر سنة 1985م، وهناك اتحكم عليه بالسجن المؤبد 25 سنة، عشان بيدافع عن وطنه. وبعد ما القاضي نطق الحكم بص ل"سليمان" وقاله "معلش يا سليمان". رد عليه "سليمان" وقال: "أنا مش خايف من السجن ولا حتي خايف من الموت، ده قضاء الله وقدره، أنا كل اللي خايف منه أن الحكم ده يموت الوطنية جوا قلوب زمايلي، وكل واحد فيهم بعد كده يخاف يرفع السلاح في وش أي حد، الحكم اللي صدر ده مصدرش ضدي، ده صدر ضد مصر كلها". قاعة المحكمة كلها ضجت بالصريخ والانكار والاستهجان للحكم من زمايله وأقاربه حتي بعض من قياداته. وهو خارج من قاعة المحمة وسط الحرس بصلهم "يليمان" وقالهم: "سايمان مش محتاج حراسة، اللي محتاج حراسة هي الحدود، سيبوا سليمان وروحوا احرسوا الحدود".

وبعد اعلان الحكم، الدنيا اتقلبت في صحف المعارضة، والجامعات قامت فيها المظاهرات، والشارع كان بيغلي ومصدوم من الحكم الغير منطقي، والمهين في حق الشعب مش بس ل "سليمان". وأترحل "سليمان" للسجن الحربي، واللي أول ما دخل، كل اللي فيه استقبلوه استقبال الأبطال الفاتحيين. كان كل ما يمشي السجناء، يندهوا علي ب "البطل"، حتي السجانين ومسئولين السجن كانوا بيحترموه. ولما أهله بيزوروه، كانوا بيشوفوا ده بنفسهم، و"سليمان" يحكيلهم أد ايه انه مبسوط وسط الناس اللي مقدرينه في السجن.
بس الحال مطولش علي كده كتير، في يوم 4 يناير سنة 1986م، علي غير العادة وعكس أوامر السجن الحربي اللي بتسمح بزيارة فردين بس. سألوا "سليمان" تحب تشوف مين من أهلك، "سليمان" انبسط وقال دي حركة جدعنة وتقدير جديدة، وطلب عدد كبير من أهله وقرايبه وزمايله حتي كان من ضمنهم أطفال، والسجن وافق علي العدد كله، وبعتوا لستة الاسماء لأخوه وأذن ليهم كلهم بالزيارة. والساعة 3 العصر بعد انتهاء فترة الزيارة اساسا، وصلوا كل اللي اختارهم "سليمان" ومعاهم زيارة بطاية ومحشي، وسمحولهم بالقعاد وقت ما يحبوا، لحد ما يقوموا براحتهم. وفي القعدة الحلوة دي طلب "سليمان" من أخوه يجيبله الزيارة الجاية كتب الكلية معاه، عشان عاوز يذاكر ويعوض اللي فاته ويخش الامتحان. وكمان أخوه بيطلب منه توكيل عشان عاوزين يتصرفوا في مصالح ليهم في البلد، وبيوافق "سليمان" ويقوله هاته معاك الزيارة الجاية. بيمشوا مبسوطين بعد ما خدوا قعدتهم، واطمنوا علي "سليمان" اللي طول قعدته معاهم كان مبتسم وبيضحك، ولا هو ولا هم كانوا يعرفوا انها الزيارة الأخيرة.

تاني يوم، صبح 5 يناير سنة 1986م، بيتفاجئ أخواته بعناوين الصحف كلها وهي كاتبه انتحار "سليمان خاطر" في السجن. صدمة قوية، وهزة جامدة، صابت كل الناس في قرية "إكياد"، اللي هو انتحر ازاي، ده أخر واحد ممكن ينتحر، انتحر ازاي وهو عاوز كتبه يكمل دراسة وعاوز التوكيل، انتحر ازاي وهو المصلي المتدين حافظ كتاب الله، انتحر ازاي وهو البطل اللي عايش عيشة أبطال في السجن.

وبيتبعت لأخوه أمر بالحضور لاستلام الجثة، ويترفض أي طلب من الأسرة بالتشريح. وفعلا بياخد أخواته جثة "سليمان"، واللي من المظرة الاولي ليها بيتأكدوا انه مقتول منتحرش. ومن غير كلام كتير أستلم أخواته جثته، وده لأنهم كانوا محضرين معاهم 2 دكاترة، بهدف تشريح جثته بمعرفتهم. ومن خلال التشريح لقوا ضوافر مكسورة ومخلوعة وجلد بشري تحت الضوافر، وكدمان زرقا علي رجليه، وده دليل علي المقاومة والضرب. ولقوا كمان علامة سلك رفيع حوالين رقبته، مش علامة شنق بملاية زي ماهم قالوا انه انتحر بيه. ولما شرحوا المعدة لقوا أخر وجبة أكلها كانت الفول والعيش، يعني متهناش حتي بالزيارة اللي أمه جايبهاله، واتقتل بعد ما مشيوا علي طول.

بعد دفن الشهيد "سليمان خاطر"، ولأنه قرية صغيرة مدافنها في وسط البيوت والغيطان، والناس هناك حافظة بعضيها صم، لاحظ أهل البلد أن فيه ناس غريبة بتيجي البلد كل يوم يلفوا حوالين المقابر قريب من مدفن "سليمان". ولما اتكرر الموضوع لمدة 20 يوم بشكل مريب، أهل البلد وقفولهم وقبضوا عليهم وسلموهم للشرطة. خاف الحاج "عبد المنعم" علي جثة أخوه، وقرر يبني حوالين جثة الشهيد "سليمان خاطر" مبني مكون من 22 شيكارة أسمنت وطن حديد. وكانت سنوية الشهيد "سليمان خاطر" أشبه بالمظاهرة الشعبية، واستمر الحال كده كل سنة، لحد ما صدر قرار من أمن الدولة بوقف السنوية دي تماما، لحد سنة 2016م، صدر قرار من محافظة الشرقية إعادة سنوية الشهيد "سليمان خاطر"، والدولة منحت أسرته وشاح البطولة، اللي متسلمش غير ل3 بس وهم، البطل "محمد العباسي" أول من رفع العلم علي سينا في حرب أكتوبر، و البطل "أيمن محمد حسن" أكتر جندي قتل عدد من الاسرائيليين في حرب اكتوبر، وتالتهم كان البطل الشهيد "سليمان خاطر"، وده يعتبر اعتراف ببطولة "سليمان خاطر" وأنه اتغدر بيه منتحرش.

في كتاب العقرب للكاتب الصحفي "محمد الباز" قال فيه علي لسان الدكتور "مصطفي الفقي" اللي كان شغال في مكتب الرئيس "مبارك" وقتها سكرتير للمعلومات، بأنه لما قاله علي وفاة "سليمان خاطر"، قال له "مبارك" بغضب:« ليه عملوا كده، أنا كنت هلاعب بيه الإسرائيليين شوية». والله أعلم
ملحوظة بس رفيعة قبل ما نختم من بعد حادث "سليمان خاطر" صدر قرار بمنع تجنيد المتعلمين في الأمن المركزي، وبس كده. رحم الله البطل الشهيد "سليمان خاطر" ورحم الله البطل الشهيد "محمد صلاح".
يابلادي يا بلادي ... أنا بحبك يا بلادي..

أغنية يا بلادي كلمات فؤاد حداد من فيلم العمر لحظة.
قصيدة لا تصالح للشاعر أمل دنقل سنة 1976م.

مروة طلعت

5 / 6 / 2023

#عايمة_في_بحر_الكتب

#بتاعة_حواديت_تاريخ

المصادر:-

سليمان خاطر بطل سيناء - دكتور محمد مورو.

العقرب - محمد الباز.

حلقة لقاء مع أسرة سليمان خاطر في ذكري استشهاده - قناة الجزيرة - بتاريخ 7/ 1 / 2012



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خماراويه

السلطانة شجر الدر 6

نشأة محمد علي باشا