سليمان الحلبي

 كان يا ما كان، كان فيه زمان أربع عميان، ماشيين سوا في غابة، قابلهم فيها فيل واقع علي الارض، فتكعبلوا فيه ووقع كل واحد فيهم في مكان. قاموا مخضوضين مش عارفين خبطوا في ايه، وكل واحد فيهم حسس علي الجزء اللي وقع فيه جنب الفيل. الاولاني مسك زلومة الفيل قال لأصحابه ده باينه تعبان ضخم، التاني مسك ديل الفيل قال لأ ده باينه حبل طويل، التالت حسس علي بطن الفيل قال لأ ده باينه قربة مية كبيرة، الرابع حسس علي رجل الفيل قال لأ ده باينه جذع شجرة. ومشيوا الاربعة وهو مختلفين وبيتخانقوا وكل واحد مصر علي رأيه ومكدب صاحبه.

الفيل يا سادة هو الحقيقة، والعميان أحنا، كل واحد فينا شاف الحقيقة من وجهة نظر أحادية، حكم عليها وأصر علي رأيه، ماهو مفيش حد هيكدب عينيه، لكن فيه دايما أجزاء من الحقيقة مخفية، ممكن لو اتجمعت تقدر تشوف الحقيقة واضحة وكاملة، عشان كده لازم تفتح ودانك وعينيك، وقبلهم تشغل مخك وتفكر صح.

كل حكايات التاريخ، بيبقي فيها وجهات نظر، فيه اللي يمدح وفيه اللي يذم، مفيش بني آدم ناصع البياض ومفيش اللي كله سواد. وفيه شخصيات كترت الأقاويل فيها، يعني مثلا أدهم الشرقاوي مجرم ولا بطل؟؟ "محمود أمين سليمان" - الشخصية الحقيقية لفيلم اللص والكلاب - مجرم ولا مجني عليه؟؟ "سليمان خاطر" بطل ولا مذنب؟؟ وقرينه في الاسم "سليمان الحلبي" بطل ولا جاسوس خاين؟؟؟ 

- في متحف الانسان بباريس في قصر شايوه، معروض فيها جمجمة مكتوب تحتها المجرم "سليمان الحلبي". تعرف ايه عنه؟ مش ده أستاذ "أحمد ماهر" اللي اتعلق علي الخازوق شفته في مسلسل الابطال.

- لا وكمان ده اسم شارع في القاهرة انت ناسي.

- ايوه والله عندك حق.

(ريأكت محمد هنيدي في فيلم مبروك رمضان أبو العلمين حموده مع صوت صرصور الحقل) "سليمان الحلبي" شخصية خدت صيتها وشهرتها، علي أساس انه صاحب أول محاكمة سياسية قانونية في تاريخ مصر. 

سنة 1798م، بتدخل الحملة الفرنسية الي مصر بقيادة ساري عسكر "نابليون بونابرت"، ومعاه ترسنة علمية وحربية متكاملة، وابتدي من هنا المفروض انه التاريخ الحديث لمصر. 

في الوقت ده مصر كانت تحت الخلافة العثمانية، وأمارة المماليك عليها. فرنسا دخلت وخرجت من مصر في 3 سنين، حصلت فيها أحداث كتيرة جدا، الشهادة لله مقصروش في تحقيق كلامهم أنهم داخلين ينشروا المدنية والعدالة والحضارة والرقي في قلب المجتمع الهمجي الشرس الجاهل. من بعد تحطم الأسطول الفرنسي في أبو قير، تفاقمت الأمور أكتر وبدأ المصريين يغلوا لحد ما قامت ثورة القاهرة الأولي. هنا بس ليا وقفة صغيرة عشان الأمور توضح أكتر، في الوقت ده مكنش عند الناس خلفية أن دي مصر وأم الدنيا والحضارات والكلام ده _ زي ما الجخ وحنان مطاوع بيصرخوا بيها في مسلسل سره الباتع الغريب _ لأن اصلا الناس مفهمتش إن كان عندها تاريخ ولا حضارة الا لما الفرنسيين دول نفسهم اكتشفوا حجر رشيد والعالم الفرنسي شامبليون عرف يفك رموزه _ مع العلم أن كان فيه محاولات من علماء عرب سابقة لفك الرموز ونجحت بنسبة كبيرة لكن مخدتش حيز العلانية و التطبيل والصياح اللي عملوه الفرنسيين في العالم _ الناس مكنتش بتدافع عن الأرض عشان وطن _ اللي هم أصلا ميفهموش معناها _ ولا عشان هي مصر، الناس كانت بتدافع عن الأرض والبيت والعرض ضد الفرنسيس الكفرة، مش بس عشان مش من دينهم، وكمان لا من تقاليدهم الشرقية ولا أخلاقهم. ده كان تفكير واتجاه الناس وقتها شئت أم أبيت تلك هي الحقيقة. المشاهد الدموية الفظيعة دي بتتكرر مع كل احتلال جديد بيدخل أي بلد، قال الله تعالي: "قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ" صدق الله العظيم. ونفس المشاهد الدموية دي بنفس فظاعتها، شافتها القاهرة يوم دخول العثمانيين. هتلاقوا حكايتها هنا 

https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=pfbid0PHS9STp78qkFA49WTHEauRwcEBQoaiPfYQV6TCmBHiAuZWQVhuR5RAVhy7n89e9jl&id=100070872365801&mibextid=Nif5oz

 وده ان دل علي شئ، فهو دليل علي أن المصريين انتفضوا ضد الفرنسيين ومقاوموش العثمانيين لسبب بسيط، أن العثمانيين خلافة اسلامية معاهم جرين كارد يعملوا مابدالهم - زيتهم في دقيقهم - انما الفرنسيين فيه فرق ديانة وثقافة وعادات، لذا وجبت المقاومة. أنا بحكي وبطول ليه في الموضوع ده، عشان نفهم طريقة تفكير الزمن والناس، وعشان نحكم علي الأحداث من واقع زمنهم، مش من أحكامنا ونظرتنا الحالية.

لحد ما "نابليون" ذات نفسه بيتخفي في يوم 23 أغسطس 1799 ويخرج من اسكندرية ويرجع لوحده علي فرنسا، سايب وراه الحملة كلها بالحصار اللي هي فيه من الإنجليز جوا مصر، وأمراضها، وكسرتها، علي كتاف ساري عسكر الجديد الجنرال "كليبر".

"كليبر" كان شايف الموقف كله عبثي، وملهاش لأزمة القعدة، بس مجبر لا بطل عشان مجد فرنسا وتحقيق مصالحها في طرق التجارة ضد الإنجليز. فكان واقف علي شعرة عشان ينفجر، لحد ما جاتله ثورة القاهرة الثانية ١٨٠٠م فرصة ع الطبطاب للانفجار.

قامت الثورة من بولاق لمدة شهر وأسبوع قادت فيها القاهرة حريقة، و"كليبر" اتعامل مع الموقف بمنتهي الوحشية، بقي يضرب ميرحمش، ولا همه كبير ولا صغير، كتب "الجبرتي" وقال: "صارت القتلي في الطرقات والأزقة، وأحترقت الدور والقصور. أما الأزبكية وما جاورها من الأحياء التي دار فيها القتال، فقد صارت كلها تلالا وخرائب، كأنها لم تكن مغني صبابات، ولا مواطن أنس ونزهات. جنت عليها أيدي الزمان، وطوارق الحدثان، حتي تبدلت محاسنها، وأقفرت مساكنها، تسكب عند مشاهدتها العبرات". 

حتي شيوخ الأزهر والأشراف مسلموش من أيده، وهنا بقي كان الاختلاف بين "كليبر" و "بونابرت". "بونابرت" كان بيقدر الشيوخ وعلماء الأزهر، وحاول قبل كده يتقرب من الناس ويضحك عليهم، عن طريق حضور مناسبات دينية، ويبين للناس أنه محترم الدين والشعائر، لأنه لمس المصريين عاطفيين من ناحية دينهم بالذات. وده كان السبب الرئيسي اللي خلاه امتنع عن فرض أي عقوبة علي "الشيخ السادات" - واحد من أهم وأبرز شيوخ الأزهر المبجلين من عامة الشعب ومن أكبر زعماء المقاومة الشعبية - واللي كان واحد من المتهمين الرئيسيين بالتحريض علي الفرنسيين في ثورة القاهرة الأولي، مع أنها تهمة عقوبتها الأعدام وش. إنما "كليبر" بقي خد كل حاجة في وشه مهموش حد، وكانت أكبر غلطة عملها وآخر غلطة في حياته لما أعتقل الشيخ " السادات"، بنفس التهمة وهي التحريض في ثورة القاهرة التانية، بس حب يخفف من حدة عقوبة الاعدام بأنه يدفع مبلغ مالي كبير غرامة، ورغم أن "السادات" كان مقتدر ماديا الا أنه رفض الابتزاز والدفع. وهنا حدث ما لا يحمد عقباه، واتهان "الشيخ السادات" إهانة بالغة في السجن من التعذيب والضرب بالعصا عشان يدفع، وقبضوا علي مراته وحبسوها معاه في الزنزانة وبقوا يضربونه ويعذبوه قصادها وهي بتعيط. حتي لما ابنه مرض رفضوا يطلع يشوفه، لحد مات سمحوله بس يحضر جنازته تحت الحراسة المشددة. وبعد فترة طويلة من الأهانة والتعذيب في السجن قدروا يتحفظوا علي أمواله عنوة، وحددوا إقامته وأهل بيته في البيت، ومنعهم من الأختلاط بأي حد. ومش بس "الشيخ السادات" اللي اتعمل فيه كده، دول أغلب التجار والأعيان، بغرض سرقة فلوسهم علي أد ما يقدر "كليبر"، لكن حادثة "الشيخ السادات" كانت الأعظم لأنه كان من الأشراف، من نسل الرسول صلي الله عليه وسلم. رغم أن "كليبر" قدر يقضي علي الثورة، وهد بولاق علي أهلها، لمن فضل نار الغضب جوا الصدور، وخصوصا شيوخ الأزهر اللي عاوزين ينتقموا بالخصوص من اللي حصل في "الشيخ السادات". 

هنرجع بس سنة لورا قبل الأحداث دي يعني سنة 1799م، وقتها "نابليون" حاول يتجه شرقا للشام. ولم جيوشه  وكان معاه "كليبر" وحصلت أحداث مأساوية ودموية يشيب لهولها الولدان، حرفيا قام "كليبر" فيها بالقضاء علي مدن منها العريش وغزة والرملة ويافا، بحالها بشيوخها ونسائها - بعد اغتصابهم - وأطفالها وشبابها، حتي الرضع وبقر بطون الحوامل، ودي كانت قمة المدنية والحداثة ونشر الثقافة في قلب مجتمع المتخلفين. لحد ما وصلوا لأسوار عكا اللي كانت حائط السد اللي مقدرش عليه جيش "نابليون"، ورجع علي مصر. في الأحداث الدموية دي كانت القيادات العثمانية للبلاد طبيعي بيهربوا، وبيزحفوا علي ورا كل ما جيش "نابليون" بيتقدم. من ضمن الولاة العثمانيين اللي شافوا مجازر الفرنسيين، وهربوا بحياتهم كان واحد اسمه "أحمد أغا". ايه بقي علاقته ب "سليمان الحلبي" وايه اللي حصل واللي كان؟ دع اللي هنعرفه الحلقة اللي جاية.

مروة طلعت

14 / 5 / 2023

#عايمة_في_بحر_الكتب

#بتاعة_حواديت_تاريخ

المصادر:-

عجائب الآثار في التراجم والأخبار ج2 - عبد الرحمن الجبرتي.

مذكرات نابليون الحملة علي مصر - المركز القومي للترجمة.

حكايات من دفتر الوطن - صلاح عيسي.

حكايات عابرة - حمدي البطران.




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خماراويه

السلطانة شجر الدر 6

نشأة محمد علي باشا