محمود سامي البارودي
لما تسمع عن شاعر لأول مرة، ايه أول انطباع بيجي في بالك عنه؟. أكيد هتفكر انه انسان، عاطفي، مرهف الحس، رقيق، وديع، طول الوقت شيطان الشعر راكبه. لكن الانطباع ده مش كله صحيح، مش كل الشعراء قيس "مجنون ليلي" ماشي بيعيط علي الحبيبة، ولا كل الشعراء بياكلوا علي موائد السلاطين زي "المتنبي". فيه شعراء كانوا مؤثرين في الناس والمجتمع، واستخدموا شعرهم وقلمهم كسلاح. من أبرز النوع ده من الشعراء كان رب السيف والقلم "محمود سامي البارودي"، اللي مش بس كان مؤثر في المجتمع كوزير وسياسي وطني بارز، ده غير وجدد مش شكل الشعر الحديث، فكان صاحب مدرسة الإحياء والبعث الشعرية، واللي خرج من عبايته، كل شعراء العصر الحديث.
قالت الدكتورة "ألطاف البارودي" من عائلة "محمود سامي البارودي": "تفاجأنا بوضع علامة على قبر الشاعر الراحل بأنه ستتم إزالته، مع أننا كنا نتمنى أن يتم تحويل المقبرة إلى مزار سياحي وهناك دول كثيرة تفعل ذلك، ولماذا تتم إزالة مثل هذه المقابر الخاصة بالعباقرة وإهدار رفات مثل هؤلاء المثقفين".
إيتاي البارود محافظة البحيرة، 6 أكتوبر سنة 1839م، اليوم اللي تلقي فيه اللواء جيش "حسن حسين البارودي"، خبر ميلاد ابنه، واللي سماه "محمود سامي" - في الوقت ده كانت الأسماء المركبة موضة خصوصا في الأسر العليوي، "حسن حسين" برده مركب - واللي كان يعتبر أصغر سلالة المقام السيفي "نوروز الأتابكي" - أخو "الأشرف برسباي" من حكام المماليك الشراكسة - يعني عيلة شركسية متأصلة، وكانت أسرته وجدوده هم المسؤوليين عن لم الضرايب من الفلاحين في ايتاي البارود - عشان كده خدوا لقبهم البارودي - بمعني ملتزمي إقطاعية.
لسه وهي "محمود سامي" بيتفتح علي الدنيا، جه لوالده اللواء "حسن حسين" أمرتعيينه مدير علي مدينة بربر ومدينة دنقلا في السودان. ولما أتم "محمود سامي" عامه السابع، مات والده هناك في السودان، وسابه مع والدته الشركسية في إيتاي البارود.
بما أنهم أسرة ثرية، ويعتبروا طبقة مقربة من طبقة الحكم، فأعتمت والدته بتعليمه وتنشأته تنشأة تليق بالشكل الأرستقراطي. وكانت العادة المشتركة في المجتمع كله بكل طبقاته وقتها، أن الاساس هو حفظ القرآن الكريم كامل وفي سن صغيرة، وقد كان، تلقي "محمود سامي" دروس القراءة والكتابة والحساب والتاريخ، بالتزامن مع حفظ القرآن الكريم، والتدبر فيه، وفهم وتعلم الفقة وأصول النحو والصرف والبلاغة.
بالنسبة للمدرسة، مكنش في البلد كلها غير مدرسة ابتدائية واحدة، مدرسة المبتديان، الخاصة بتعليم الأسر العليوي. ورغم انهم أسرة عليوي، لكن والدته ولسبب ما جابتله المدرسين في البيت، ومودتوش المدرسة. وفي سنة 1852م، التحق بالمرحلة التجهيزية من المدرسة الحربية، وهو عنده 13 سنة - ابن لواء هيدخل ايه يعني - ودرس فيها برده جنب فنون الحرب، علوم الدين واللغة العربية والحساب والجبر. وفي المرحلة دي بدأ يظهر حبه للشعر، وبدأ يقرأ كتير ويحفظ شعر أعاظم الشعراء. وفي سنة 1855م، بيتخرج وهو16 سنة من المدرسة الحربية، ومحبش يكمل دراسات عليا، فدخل خدمة جيش السلطان العثماني في اسطنبول برتبة باشجاويش.
وفي سنة 1857م، انتقل للعمل في الخارجية بالآستانة، وهناك اتعلم وأتقن اللغة التركية والفارسية، وبدأ يقرا الأدب والشعر التركي والفارسي، وبسبب اتقانه للغتين دول، كان سهل عليه انه يلتحق بقلم كتابة السر بنظارة الخارجية، وفضل فيها 7 سنين. وواحدة واحدة، من كتر قراءاته ونمو شغفه بالشعر، بدأ "البارودي" يكتب الشعر الخاص بيه.
في سنة 1864م، سافر الخديو إسماعيل اسطنبول، عشان يشكر السلطان العثماني، علي تعيينه خديو لمصر. فتقدم "البارودي" بطلب ورجاء للخديو، يطلب منه يرجع معاه مصر، اللي اشتاق لها. وافق الخديو، وضم "البارودي" لحاشيته، ورجع معاه مصر. لكن بعد فترة بسيطة حن "البارودي" لحياته العسكرية، فقدم طلب للخديو تاني، يطلب منه يرجعه الجيش، وفعلا رجع "البارودي" لخدمته في الجيش المصري المرة دي، برتبة بكباشي. وفي سنة 1865م، اشترك "البارودي" في الحملة العسكرية العثمانية علي جزيرة كريت لاخماد الثورة اللي قامت هناك ضد السلطان العثماني، وظهر فيها شجاعته ومهارته في القتال. وهناك كتب رائعته:
أخذ الكرى بمعاقد الأجفان | وهفا السرى بأعنة الفرسان | |
والليل منشور الذوائب ضارب | فوق المتالع والربا بجران | |
لا تستبين العين في ظلماته | إلا اشتعال أسِنَّة المران |
لما رجع "البارودي" من حرب كريت علي مصر، كان أسمه مسمع، فطلبه الخديوعشان يكون ياور شخصي ليه - رئيس الحرس - ولما أثبت اخلاص عينه الخديو الياور الخاص بالأمير ولي العهد "توفيق"، ولما أثبت الاخلاص والتفاني الشديد في العمل اترقي لكاتم سر وسكرتير شخصي لل"خديو إسماعيل". وبعد 10 سنين خدمة في قصر الخديو، برده بيحت لخدمته العسكرية، وبيطلب رجوعه للجيش.
في سنة 1878م، قامت حرب البلقان - حرب قامت بيها الدولة العثمانية ضد روسيا ورومانيا وبلغاريا والصرب - استنجد السلطان العثماني بالجيش المصري كالعادة، وكان "البارودي" فيها. لكن بتنهزم الدولة العثمانية، واضطرت تعقد معاهدة "سان ستيفانو" سنة 1878م. ودي جت ذكرها معانا هنا
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=pfbid02QSphZHTbn5FDKgq27tVEUV8M5oLFxFKBVGP4aMBYb8Mqn1gDArb1JtU7mWkVW5Sgl&id=100070872365801&mibextid=Nif5oz
لما رجعت الحملة علي مصر، أنعم "الخديو إسماعيل" على "البارودي" برتبة “اللواء” و"الوسام المجيدي" من الدرجة الثالثة، و"نيشان الشرف"، وده بسبب شجاعته وبطولته ومهارته في فنون الحرب، علي الرغم من الهزيمة، لكن ده ميمتعش انه كان بطل في القتال. وعينه محافظ للشرقية، وبعد فترة قليلة بقي محافظ القاهرة.
لحد هنا والحكاية ماشية عادية شخص من عائلة أرستقراطية ثرية، مقربة من طبقة الحكم، وبيشتغل وبيتنقل في مناصب ورتب، زيه زي أي شخص ممكن يكون في مكانه في الوقت ده. لكن لو مكنش فيه اختلاف، مكنتش سيرته عاشت لحد النهاردة. اللي فات ده كله حمادة، واللي جاي حمادة تاني خالص.
في الوقت ده، كانت الحياة السياسية في مصر داخلة في منحني خطر، حلم "الخديو إسماعيل" بتحويل القاهرة لقطعة من أوروبا، اللي خلاه يعمل بنية تحتية وطرق وقصور في يوم وليلة، من غير ما يدعنها الأول بمشاريع اقتصادية واستثمارية تدعم الاقتصاد. ده خلاه طبق مقولة خد من التل يختل، ومش بس اختل وسابه في حاله، ده كمان اتداين من أوروبا، وعلي رأسهم انجلترا وفرنسا، وبمبالغ تعجيزية، في الوقت اللي خزينة الدولة حرفيا فاضية. صحيح "الخديو إسماعيل" كان هدفه النهضة، وهو أول من أنشأ البرلمان في مصر، وعمل حياة نيابية، بس التنفيذ كان متسرع وخاطئ، وانجلترا وفرنسا عملوله البحر طحينة لحد ما لبس في الحيط. كانت النتيجة أن انجلترا وفرنسا لقولهم مسمار جحا اللي يقدروا من خلاله يتدخلوا في شئون واقتصاد مصر، وكان أبرز مظاهر التدخل الوقح هو تعيين وزيرين في الحكومة المصرية، واحد انجليزي وواحد فرنسي، عشان يعدوا علينا الأنفاس الداخلة والخارجة، ويوقفوا أو يحركوا المراكب السايرة، علي حسب مصلحتهم.
في المقابل ظهر تيار شعبي فكري مقاوم لفكرة الاحتلال الثنائي المستتر ده، واللي كان مؤججه "جمال الدين الأفغاني". وكان حوالين "الأفغاني" كل مفكري ومثقفي البلد الوطنيين، أبرزهم علي سبيل المثال "أحمد عرابي" و "عبد الله النديم" ومعاهم "محمود سامي البارودي" اللي كان شعره قنابل بتصحي العقول.
جلبت أشطر هذا الدهر تجربة وذقت ما فيه من صاب ومن عسلوبعد دخول الانجليز مصر، اتقبض علي "البارودي" و"عرابي" وزعماء الثورة وكبار القادة. واتحكم علي "البارودي" و 6 معاه بالإعدام في الأول، وبعدين الحكم اتخفف للنفي لجزيرة سرنديب، سريلانكا حاليا.
مروة طلعت
23 / 5 / 2023
#عايمة_في_بحر_الكتب
#بتاعة_حواديت_تاريخ
المصادر:-
البارودي رائد الشعر الحديث - شوقي ضيف.
البارودي حياته وشعره - نفوسة زكريا.
الأعلام من الأدباء والشعراء: محمود سامي البارودي إمام الشعراء في العصر الحديث - الشيخ كامل محمد عويضة.
محمود سامي البارودي شاعر النهضة - علي الحديدي.
تعليقات
إرسال تعليق