العتبة الخضرا

 في يوم من أيام خمسينات القرن العشرين، ساب "حفظ الله سليمان" قريته، ونزل القاهرة، وفي جيبه 80جنيه، كل اللي يحتكم عليهم من الدنيا، يدور علي فرصة شغل وباب رزق أوسع من حياته في الريف. ومع دهشته وخضته من دوشة وزحمة القاهرة، اللي علي عكس بلده الهادية، بيركب ترماي 30 - الترماي ده كانت وسيلة مواصلات رئيسية في القاهرة، كان شبه المترو بس أقصر بكتير، وبيمشي في قلب الشوارع والميادين علي القضبان وسط الناس والعربيات، ولسه موجود شبيهه في اسكندرية - وفي شارع القصر العيني بيركب "رمضان أبو اليزيد العبد" نفس الترمواي، وبيصادف تكون قعدته جنب "حفظ الله" في الترمواي. "رمضان" يبص علي "حفظ الله"، فهم من لبسه انه مش من القاهرة، ومن التوتر اللي باين علي حركاته ونظرات عينيه انه لسه جديد وغالبا أول يوم. في الوقت ده مكنش فيه تليفزيون ولا موبايل ولا نت، حتي السينما معدومة في القري والنجوع بطبيعة الحال، فكان القرويين بالنسبة لأبناء المدن، لسه علي نقائهم وفطرتهم السليمة. وهنا شاف "رمضان" النصاب خريج السجون، في "حفظ الله" صيدة سهلة. وزي أي محترف، بدأ يجر كلام مع "حفظ الله"، اللي ماصدق يلاقي حد يتكلم معاه في غربته، وطبعا مثل "رمضان" عليه دور المتفهم، والصدر الحنين، اللي شال همه، وخاف عليه من شر ولاد القاهرة اللي ممكن يستغلوه ويضحكوا عليه، وبالتالي "حفظ الله" بيحس بالأمان من ناحيته - الله خازوق هذا ذوقي - ولما "رمضان" يسأله ناوي تعمل ايه في مصر؟ وهتعيش منين؟، رد "حفظ الله" بكل ثقة معايا 80 جنيه هبتدي بيهم أي شغلانة - 80 جنيه أيام ما كان الدولار ب 30 قرش - الفلوس زغللت في عين "رمضان" وقرر ماهيعدي اليوم الا ما يكونوا في جيبه. وبتمثيلية القلب الحنين يبتدي "رمضان" يقترح عليه أشغال مختلفة كأنه بيفكر معاه، وفي نفس الوقت يقفلها في وشه. لحد ما الترماي بدأ يتزحم اوي، والناس تطلع من الابواب والشبابيك، فالكلام جرفهم لحته يابوي دي مصر زحمة اوي، وعلي كده الترماي ده بيعمله تذاكر اد ايه في اليوم. وهنا الفكرة نورت في مخ "رمضان"، فقال ل "حفظ الله" ايه رأيك ما تشتري الترماي ده؟.

"حفظ الله" اندهش، وقاله ازاي هو ينفع، "رمضان" قاله طبعا ينفع بس هو أغلي من المبلغ اللي معاك. والكلام وصل ما بينهم ان "حفظ الله" هو اللي بقي يتحايل علي "رمضان" يتوسطله، ويخليه يقدر يشتري الترمواي، ويقسط الباقي من ايراده. وفي النهاية "رمضان"، وافق بعد إلحاحه - ان ماكنتش بس تحلف - ونزل "رمضان" معاه "حفظ الله" علي واحد صاحبه، ومفهم "جاد الله" - الأمي اللي مبيعرفش يقرا غير الأرقام - أنه محامي وهيكتبله عقد البيع، وكمبيالات سداد باقي المبلغ المتفق عليه وهو 200 جنيه.

وبعد الوهم بشراء "حفظ الله" الترماي، نزل معاه "رمضان" وركبه ترماي 30 اللي بقي ملكه بقي، وأخد ال80 جنيه وخلع. فضل "حفظ الله" قاعد في الترماي لحد أخر الخط، والفرحة مش سايعاه - قاعد في ملكه بقي ومستني الايراد - ولما جه الترماي يلف ويكمل سكته بالعكس، جاله الكمساري يطالب بتذكرة جديدة - الاولانية "رمضان" دفعهاله عشان الكمسري ميسألوش عليها - "حفظ الله" قاله انا صاحب الترمواي ومستني الايراد أخر اليوم، أه مننوا مش هتعرفوا تضحكوا عليا وقاعدلكوا. كلمة من "حفظ الله" علي كلمة من الكمساري، والدنيا قامت خناقة، و "حفظ الله" سابت علي موقفه، وفاكر انهم هياكلوا حقه، والناس اتدخلت، وتحوش، لحد في الأخر كله نزل علي القسم. وهناك بيكتشف "حفظ الله" انه اتضحك عليه، واتسرقت فلوسه. لكن من حسن حظه، ومن خلال وصفه الدقيق لشكل "رمضان"، بتقدر الشرطة تقبض عليه، لانه مسجل نصب، وترجع الفلوس تاني ل"حفظ الله".

- الحكاية دي بتفكرني بفيلم "العتبة الخضرا" بتاع "اسماعيل ياسين".

- ايوه بالظبط، ماهو الكاتب الصحفي "جليل البنداري" لما سمع الحادثة دي، استوحي منها فكرة قصة فيلم "العتبة الخضرا"، اللي انتج سنة 1959م. بس ده اشتري الترماي، والفيلم خلاه اشترا العتبة الخضرا كلها، لزوم زيادة الضحك لما يلف بقي علي المطافي والبوسطة والقسم.

- اه والله ده كان فيلم مليان ضحك، بس تعرفي انا عندي سؤال بفكر فيه كل ما تيجي سيرة العتبة هي ليه اسمها "الخضرا" وهي مفيهاش اي الوان غير عوادم العربيات السودا.

الشئ بالشئ يذكر بقي، عمرك سألت نفسك هي ليه اسمها العتبة الخضرا. طب انت عارف انها في الأصل كانت اسمها العتبة الزرقا.

- هي الالوان كانت محيراهم ولا ايه، هو السؤال الأصح تطلع ايه العتبة دي من الأساس.

- عشان نجاوب ع السؤال ده، هنرجع لورا شويتين كده، لحد القرن الثامن عشر، تقريبا سنة 1740م - قبل الحملة الفرنسية علي مصر ب 58 سنة، كان ميدان العتبة واللي حواليه مش موجود نهائي، مجرد حتة أرض واسعة. 

قرر تاجر البن "محمد الدادة الشرايبي شاه"، انه يسكن في الأرض الفاضية دي، ويبنيله فيها قصر كبير، وجامع "الشرايبي" في الازبكية - المعروف بإسم جامع البكري - والقصر ده ياسيدي مكانه دلوقتي مابين المسرح القومي ومدخل الموسكي. وكان مدخل القصر اللي كانت في نص الميدان الحالي، مميز بعتبة ضخمة قصاد الباب ومدهونة باللون الازرق المزخرف الجميل، ومن هنا الناس سموا المنطقة العتبة الزرقا.

- ايه ده هي العتبة مقصود بيها عتبة باب.

- أمال انت كنت فاكر ايه. في سنة 1747م، اشتري القصر "الأمير رضوان كتخدا الجلفي"، وبالغ في تزيين وزخرفة العتبة دي، اللي تعتبر مركز وعنوان الميدان. وفي سنة 1775م، الأمير "محمد بك أبو الدهب" - اللي قتل "علي بك الكبير" بالمناسبة - اشتري القصر ده وأنشأ مسجد أبو الدهب قصاد الجامع الازهر. ولما جه زمن "محمد علي باشا" في بداية القرن التاسع عشر، اشتري القصر "طاهر باشا" بلديات "محمد علي باشا"، وبعد وفاته سكن في القصر ابنه "أحمد طاهر باشا" وأسرته. 

من بعد سنة 1848، باعت زوجة "أحمد طاهر باشا" قصر العتبة الزرقا، للوالي "عباس باشا حلمي الاول بن أحمد طوسون باشا بن محمد علي باشا" - وهنا كانت مشكلة جديدة لانها باعت القصر بقانون الحكر اللي كان ساري وقتها، يعني باعت القصر مع تأجير الأرض للانتفاع، لكن الأرض مازالت ملك ورثة "أحمد طاهر باشا" - واللي قدم القصر هدية لوالدته "بمبا قادن" تسكن فيه. 

لكن "عباس باشا حلمي الاول"، كان بيكره اللون الازرق وبيتشاءم منه، راح هادد القصر - ماهي كتر فلوس بقي - وبانيه من أول وجديد، ومغير لون العتبة مخليها أخضر. الناس شافت اللون الاخضر، فمبقاش راكب اسم العتبة الزرقا مع التطور اللي حصل، فغيروه وبقت العتبة الخضرا.

لما تولي الخديو "اسماعيل" الحكم، قرر انه يعمل القاهرة شبيهة بأوروبا. كان من ضمن اعادة تخطيط القاهرة، شق شوارع رئيسية جديدة. وفي سنة 1863م، زار السلطان العثماني "السلطان عبد العزيز" مصر، وتخليد للزيارة دي، بيتم شق شارع من ميدان العتبة لحد قصر عابدين وسماه "شارع عبد العزيز" وده سنة 1870م. وفي سنة 1972م، بيشق شارع جديد متفرع منه لحد القلعة وسماه "شارع محمد علي". 

بالنسبة بقي لقصر العتبة الخضرا، فالخديو "اسماعيل" جدده سنة 1874م، وخلاه مقر وزارة الخارجية، وشوية واتحول لوزارة الداخلية والاشغال العامة. وفي سنة 1876م، بيتحول لمقر المحاكم المختلطة، وبيفضل كده لحد سنة 1930، لما بيهد القصر "الملك فؤاد" من ضمن خطة تخطيط جديدة للشوارع والميدان، ويتحول اسمه لميدان محمد علي، وفي نفس الوقت بيشق شارع جديد من ميدان العتبة، ويسميه علي اسم ولي العهد، شارع الأمير فاروق - شارع الجيش حاليا - وكمان شق شارع الأزهر وميدان الحسين في نفس السنة. 

ورغم تغيير اسم ميدان العتبة الخضرا لميدان محمد علي، لكن الناس فضلت تطلق عليه لقب "العتبة الخضرا" برده - حاجة كده زي ما بيغيروا اسم ميدان رمسيس لكذا اسم ويفضل عند الناس هو ميدان رمسيس - حتي لما "الملك فاروق" اتجوز سنة 1938م، من "صافيناز ذو الفقار" وغير اسمها ل"الملكة فريدة"، غير معاها اسم ميدان محمد علي لميدان الملكة فريدة. لكن الناس برده فضلت تقول عليه "العتبة الخضرا". ولما طلق "الملك فاروق" الملكة فريدة" سنة 1949م، شال اسمها من الميدان ورجعه لميدان محمد علي، لكن ولا فرق مع الناس الاسامي دي وبرده فضل العتبة الخضرا. لحد ما الحكومة تقريبا زهقت، ونزلت عند رغبة الجماهير، واتحول الميدان رسميا لميدان العتبة. 

 مروة طلعت

20 / 5 / 2023

#عايمة_في_بحر_الكتب

#بتاعة_حواديت_تاريخ

المصادر:-

تخطيط القاهرة وتنظيمها منذ نشأتها - حسن عبد الوهاب.

الخطط التوفيقية ج14 - علي مبارك.

هوامش المقريزي - صلاح عيسي.

أماكن منسية في القاهرة الخديوية - عادل سيف.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خماراويه

السلطانة شجر الدر 6

نشأة محمد علي باشا