يوم السبت 2 إبريل سنة 2018، يوم مستحيل أنساه، خصوصا الساعة 7 بالليل. بعد ما خلصت روتيني اليومي، وتفرغت من مسؤولياتي كأم وربة منزل وامرأة عاملة. مسكت تليفوني وبدأت أتابع أخبار التايم لاين علي الفيس بوك. فجأة بيظهر ادامي بوست لواحد من الكتاب الشباب في المؤسسة العربية الحديثة. بيتكلم بهجوم وحدة، وبيتهم مروجي الإشاعات بالتفاهة، عشان وصل بيهم قلة الذوق انهم يروجوا اشاعة وفاة العراب علي إنها كدبة ابريل. انا قريت الكلام، فتمتمت بإنزعاج " ياساتر يارب". وكملت تقليب فلقيت بوست تاني لكاتب شاب تاني بيقول انه بيتصل بالعراب عشان يطمن عليه لأن كدبة ابريل الخاصة بوفاته مزعجة جدا وسخيفة، لكن تليفونه مغلق. فكررت تمتمتي مع "أعوذ بالله". واستمريت في التقليب علي التايم لاين بلاهدف. ومفاتتش دقيقة وألاقي قصادي بوست نعي العراب من المؤسسة العربية الحديثة ذات نفسها. هنا أنا اتنفضت واتعدلت في قعدتي، وبقيت أقلب زي المجنونة بين بوستات الكتاب. وصعقت لما لقيت كدبة ابريل مطلعتش كدبة، دي حقيقة، حقيقة صادمة. لقيتني بتمتم "مات! يعني ايه مات". فضلت ادخل صفحات وجروبات أدور علي خبر النفي، لكن كله كان بيأكد انه مات بعد ما خرج من عملية في القلب. وهنا فضلت مش في وعيي لمدة عشر دقايق، التليفون في ايدى وانا بصاله ومش شايفة حاجة، جسمي كله تلج، وفضلت متنحة، مش قادرة استوعب. أنا مؤمنة بالله، وانسانة قدرية جدا، لكن ربنا يكفيكم ويكفينا اللحظة دي، خصوصا لو عزيز. اتصلت ببنت أخويا اللي اتعلمت مني حب العراب.
جرس تليفون بيرن....
- الو ازيك يا عمتو.
- أحمد خالد توفيق مات..............
صمت تام لخمس دقايق من الجانبين. وفجأة اسمع نهنهات بكاء بنت اخويا. صوتها فوقني وانفجرت الدموع من عيني. دموع حفرت لها اخاديد علي وشى لاكتر من أسبوع.
لما سمع أهلي صوت بكائي، جم مخضوضين. ايه اللي جرا مالك فيه ايه. وانا بردد "مات. مات وسابني. مات كده ببساطة. مات اللي خلاني أحب القراية. مات اللي لحم دماغي من خيره. مات أبويا الروحي. أحمد خالد توفيق مات".
وداعًا أيها الغريب ..
كانت إقامتك قصيرة ، لكنها كانت رائعة .. عسى أن تجد جنتك التى فتشت عنها كثيرًا .. وداعًا أيها الغريب ..
كانت زيارتك رقصة من رقصات الظل ..
قطرة من قطرات الندى قبل شروق الشمس ..
لحنًا سمعناه لثوان هنالك من الدغل ..
ثم هززنا الرءوس ، وقلنا إننا توهمناه ..
وداعًا أيها الغريب ..
لكن كل شىء ينتهى .
"أحمد خالد توفيق"
إسمحولي المقال ده مش هتكلم عن أحمد خالد توفيق. المقال ده عن حياتي اللي عملها العراب. البداية كانت سنة 1995م، كنت في أولي اعدادي، لسه طالعة من مجلات سمير وماجد وعلاء الدين، دخلت في سماش وفلاش، ومن بعدها علي عالم دكتور "نبيل فاروق" ورجل المستحيل "أدهم صبري". كان فيه مكتبة جنب مدرستي بشتري منها أعداد رجل المستحيل من أولها. كان العدد الواحد بجنية وكنت باخد مصروف أسبوعي 5 جنية، وكل يوم سبت كنت اروح المكتبة أشتري 5 أعداد حارمة نفسي من المصروف طول الأسبوع، بس مدية نفسي متعة رهيبة وجرعة من الخيال. لحد ما جه اليوم اللي خلصت فيه شراء السلسلة كلها من أولها لحد لحظتها. رحت في ميعادي الأسبوعي أسأل عن رجل المستحيل، صاحبة المكتبة ابتسمتلي بوشها الجميل (بالمناسبة قابلتها من فترة قريبة وافتكرتني وقالتلي انتي من ريحة الجيل الجميل اللي كان بيستني اصدارات المؤسسة العربية علي باب المحل لحد ما افتح).
قالتلي: أنتي أشتريتي الاصدارات كلها لحد دلوقتي لسه الجديد هينزل في أجازة الصيف. لما شافت علامات الاحباط علي وشي، قالتلي: بس فيه سلسلة تانية عليها اقبال برده وبيحبوها. سألتها بفضول: ايه هي؟!. قالتلي: سلسلة ما وراء الطبيعة.
وبدافع الفضول وتجربة الجديد اشتريت أول 5 أعداد من ما وراء الطبيعة. بس لما روحت البيت، اتفاجئت بصور أغلفة الكتيبات اللي رسمها المبدع الراحل "اسماعيل دياب"، وبصراحة خوفتني، مكنتش اعرف انها سلسلة رعب، وانا واحدة عمري ما شوفت فيلم رعب، وكنت بخاف من ضلي أساسا. وهنا قررت احطهم في كيس أسود وادفنهم في قاع دولابي، ولولا كنت دافعة فيهم فلوس كنت رميتهم، وفضلوا في مرقدهم سنة بالتمام والكمال.
بعد سنة كنت بروق دولابي وانا ناسية تماما حكاية الكيس الاسود، لقيته قصادي، فتحته لقيت ال 5 أعداد. متعرفش بقي ايه اللي خلاني اقري أول عدد، فضول جايز، كبرت شوية ممكن، تحدي لمخاوفي احتمال، المهم اني كنت علي موعد مع قدري. قريت العدد الاول، ولقيتني بدل ما أخاف بضحك، وبجري اقرا العدد التاني، والتاني جر التالت، لحد ما خلصتهم، وجريت في ميعادي الاسبوعي اشتري 5 نسخ تانيين من ماوراء الطبيعة، وهنا نسيت "أدهم صبري" تماما، حتي مبقتش اجيب الأعداد الجديدة منه. وتوحدت مع عصا المكنسة الصلعاء، صاحب البدلة الكحلية التي تجعله فاتنا "رفعت اسماعيل"، شخصية منحوسة وأقل من العادية علي عكس شخصية "أدهم صبري" وكان ده سر قوته وتميزه، انه مننا وزينا. لحد ما خلصت كل اللي فات من السلسلة.
وبرده صاحبة المكتبة قالتلي: انتي خلصتي أعداد السلسلة اللي فاتت، بس فيه سلسلة تانية لنفس كاتب ماوراء الطبيعة أسمها فانتازيا.
طبعا من غير تفكير اشتريت أول 5 أعداد. وقتها مكنتش اعرف يعني ايه فانتازيا، وكانت قصة السلسلة مختلفة وجديدة، وبطلة السلسلة "عبير عبد الرحمن" كانت شبهي وشبة بنات كتير وقتها. البنت دودة الكتب، الخيالية الحالمة، اللي دماغها عاملة زي الطاسة التيفال اللي بتقرا لمجرد متعة القراية من غير استفادة، بيتفتحلها باب عن طريق برنامج بيصممه جوزها "شريف" علي الكمبيوتر، عنطريقه بتعيش في كل الروايات اللي قريتها. صحيح انا حبيت "ماوراء الطبيعة" واللي كانت مستحوذة علي انتمائي، لكن "فانتازيا" حرفيا هي اللي كونت معرفتي.
"أحمد خالد توفيق" مكنش مجرد كاتب بيكتب قصص وروايات، ده كان راجل عنده هدف ورسالة، كان هدفه انه يربي جيل حرفيا، وقدر انه يعمل كده فعلا. "أحمد خالد توفيق" كان عارف ان السن اللي لحقنا فيه ده، هو السن اللي أغلب الاطفال اللي قروا ميكي وحكايات وقصص الاطفال، مبيلاقوش حاجة تناسب سنهم يقروها فبيهجروا القراية، ويكبر في دوامة الحياة، والدنيا بتخسر مشروع قارئ مثقف. وهنا كانت فكرته بسلاسله اللي تبان انها حكاوي أطفال، تناسب سن اعدادي، وكل عدد بيقدم فيه محتوي بيكبر مع سننا العقلي. قدملنا توليفة من المتعة والفكرة والمعلومة تتماشي مع تفكيرنا، وبدأ يكبر بوعينا خطوة خطوة. ربانا بالمعني الحرفي، غذا عقولنا، فتح مداركنا، عرفنا حاجات كتير حوالينا في الأدب والعلوم والفلك حتي السينما والفن.
سلسلة فانتازيا كان في كل عدد باب في الاخر اسمه "نادي المحاربين الجدد"، اتاح فيه فرصة لأصحاب المواهب اللي من سننا يعرضوا فيه كتاباتهم ويقول رأيه ويوجهنا لنوع القراءات اللي محتاجينها.
عمري ما انسي لما كنتفي مرحلة ثانوي لما كنت بجمع طول السنة في نوتة اسماء الكتب اللي اتكلم عنها "أحمد خالد توفيق" في أعداد سلاسله، سواد روايات لكبار الكتاب زي نجيب محفوظ والسباعي وادريس وحقي وغيرهم، او روايات عالمية انجليزية او فرنسية او روسية او امريكية مترجمة، او كتب تاريخية وجغرافية مصرية ومترجمة. وكنت استني العيد عشان اخد عديتي، واروح بيها لمحل كتب قديمة جنب بيتي - عم محمد رحمه الله - وادور عنده علي الكتب دي. ولما كبرت في الكلية كنت برده بحوش مصروفي وعديتي واروح بيها سور الأزبكية اخد من كنوزها، اللي برده رشحها العراب. عرفتوا بقي هو ليه اسمه العراب!.
العراب من خلال سلاسل ما وراء الطبيعة وفانتازيا وسفاري، وصلنا اقتناع انك انت تقدر تكون سوبر هيرو، وان البطل مش بالعضلات والشقلباظات، البطل بدماغه وموهبته اللي لازم يدور عليها وينميها ويقدرها وتبقي هي دي قوته، وده عند طريق القراءة والثقافة ومعرفة وفهم الماضي والحاضر عشان ينكشف لذهنك المستقبل، حتي لو كنت عصا مكنسة صلعاء أو فتاة نحيلة مش جميلة محدش شايفها. ده غير انه علمنا التفكير المنطقي، وتحليل الاسباب والمقدمات، لفهم النتائج. وأهم حاجة علمهالنا هي توقع الأسوأ وتقبله عشان الواقع المتهالك ميهلكناش تحته.
لما انتشر عالم النت، كان من أوئل الكتاب الي تلقفتهم المواقع الشبابية للكتابة فيها زي موقع بص وطل وغيره. كانت مقالااته في كل مكان، بيكتب وينبه ويحذر من الخطر اللي جاي، والي مكنش حد غيره في الوقت ده شايفه. بين سطور مقالاته قال كتير، وتنبأ بحاجات أكتر، كان عنده بصيرة حادة. الوحيد اللي مجرفتهوش الموجة، فضل زي ما هو ومبادئه متغيرتش، واكتفي بالصمت. لكن كل فترة كانت بتطلع منه مقالة بتقول حاسبوا، بس فهمناه متأخر اوي. مش هتكلم هنا عن كتبه ورواياته اللي خارج المؤسسة، لأن ناس كتير قتلتها كلام وتحليل في كل مكان، ده غير انها بتتكلم عن نفسها.
المرة الوحيدة اللي شفته فيها كان في معرض كتاب 2017، وللأسف كمان شفته من بعيد مقدرتش اوصله. "أحمد خالد توفيق" كان مننا، شبهنا وزينا، فهمنا ومتكبرش انه يعلمنا علي اد فهمنا لحد ما طلع من عبايته الاف من أبناء العراب في كل مكان ومنهم كتير اللي كملوا المسيرة من بعده وبقوا مواهب ونجوم ملئ السمع والبصر. كانت أمنيته انه يتقال أنا اتعلمت علي ايده. وانا هنا بقولها أنا اتعلمت علي ايد أحمد خالد توفيق. رحمك الله يا أبي الروحي وجعل كل ما فعلته في ميزان حسناتك، يا من جعلت الشباب يقرأون.
"أحمد خالد توفيق" الي الأبد. وحتي تحترق النجوم وتفني العوالم. وحتي نلتقي.
مروة طلعت
2 / 4 / 2023
#عايمة_في_بحر_الكتب
#أبناء_العراب
تعليقات
إرسال تعليق