السلطان حامد

 "لا ولي ولا سلطان ولا دياولو! أوعَ تصدَّق الكلام الفارغ ده! سلطان حامد إيه؟! أنا أعرف السلطان حسين سلطان مصر،الله يرحمه ويحسن إليه، أعرف السلطان عبد الحميد خليفة المسلمين،أعرف السلطان الغوري أعظم سلطان في زمانه، إنَّما سلطان حامد دا إيه؟! دا حتى اسمه ما ينفعش لواحد سلطان! ده تلقاه صعلوك، ولا كان ولي ولا خلافه". سره الباتع - يوسف إدريس. مش أنا لوحدي أهو اللي بكتب بالعامية.

الكاتب الكبير "يوسف إدريس" له مجموعة قصصية بعنوان "حادثة شرف" - اتعملت قصة "حادثة شرف" فيلم سنة 1971م بطولة زبيدة ثروت وشكري سرحان - أخر قصة في المجموعة القصصية دي كانت قصة "سره الباتع". في رمضان 2023م، اخدها المخرج "خالد يوسف" وحولها لمسلسل بنفس الاسم.

وبما ان الحكاية داخلة في التاريخ، وانا واحدة بتحكي حواديت في التاريخ، أحب أوضح من أولها أن الحكاية اللي هتشوفوها في المسلسل، ليست حقيقية، دي مجرد قصة زيها زي أي قصة أو حدوتة. استغل "يوسف إدريس" مقام مجهول بإسم "السلطان حامد" ومن الحكاوي المتناثرة اللي سمعها عنه، خيال المؤلف صاغها بغرض الاسقاطات السياسية، بيلقح يعني علي سياسات زمنه، لأن كتاب الفترة دي كانت معظم كتاباتهم ليها معني ما بين السطور، واللي كانوا ميقدروش يقولوه صراحة، كانوا بيغلفوه في قصة أو رواية، والحدق يفهم. وعلي سبيل التغيير، هحكيلكم حدوتة "السلطان حامد".

"حامد" كان فلاح عادي زيه زي باقي الفلاحين، في قرية شطانوف بالمنوفية، طويل ومناخيره طويلة وعينيه واسعة وبنصر ايده الشمال مقطوع وداقق عصافير في صدغه بحجة تقوية البصر. حياته تتلخص ما بين الفلاحة في الأرض، والصلاة الفروض في الجامع، والقعدة مع الخلان بكوباية الشاي، والنوم بدري عشان يسعي علي الارض من الفجرية. في يوم ما طلعتلوش شمس هجم الفرنساويين علي البلد، والناس رضيت بالأمر الواقع، قالولهم احنا جايين ننقذكوا من المماليك، ردوا وقالوا عادي متفرقش سينا من سونيا، كلكم بتقولوا كده، ما هم المماليك جم وقالوا جايين ننقذكوا من الاتراك، أهي أيام زي بعضها واللي بيتغير بس الوشوش.

لحد ما في يوم عسكري فرنساوي قتل فلاح من البلد، والناس هاجت وثارت، وشيخ البلد طلع بأهل البلد علي القلعة اللي بنوها الفرنسيين وقعدوا فيها في البلد، يطالبوا بحق القتيل. طلعلهم "الكولونيل بيلو" وقالهم هنشوف الموضوع ده ايه وهنعمل تحرياتنا ونعقد محاكمة. لكن أهل البلد كانوا غضبانيين والحادثة دي القشاية اللي فجرت غضبهم، وأصروا ان العسكري يا يتقتل قصادهم، يا يتسلم ليهم يقتلوه بمعرفتهم. وفي النهاية رصاص العساكر الفرنسيين فرقوا الجمع، ورجع الفلاحين علي بيوتهم مقهورين. تاني يوم حصل العكس، عسكري فرنساوي اتقتل علي ايد واحد من الفلاحين. وكعادة الحق لما بيتكال بمكيالين، أمر "الكولونيل بيلو" بالقبض علي شيخ البلد، وأعلن ان القاتل لو مسلمش نفسه قبل المغرب، هيتم اعدام شيخ البلد رميا بالرصاص.

شيخ البلد كان محبوب من أهل البلد وله مكانة كبيرة وهيبة، وخسارة أهل البلد فيه هتبقي فاجعة كبيرة أوي. وقبل المغرب سلم "حامد" نفسه للفرنسيس وقالهم انا اللي قتلت العسكري. "بيلو" كان مقرر اعدام القاتل، بس قرر انه يعمل تمثيلية محاكمة قصاد الناس، أي كلام يعني تحصيل حاصل. وفجأة أثناء المحاكمة ما هي شغالة، هجموا الفلاحين بالنبابيت والفئوس والمناجل عليهم، وهم بيصرخوا ويكبروا، دغدغوا كل حاجة كانت موجودة وضربوا العساكر والقواد. الفرنساويين كان مترسب عندهم خوف من الفلاحين، بسبب اللي شافوه واللي سمعوه من عمايلهم فيهم في البلاد اللي حواليهم في كل المحافظات. فلما الفلاحين هجموا، هم من نفسهم هربوا وفيه منهم اللي تبول علي نفسه من فزعهم، ومن الفلاحوفوبيا اللي عندهم. وفي عز الهيصة كان من الطبيعي ان "حامد" يهرب، وبعدين أختفي تماما.

 وبعد ما الامور استقرت، واتحاموا الفرنسيين في قلعتهم، جمعهم "الكولونيل بيلو" وكان غضبان جدا. وأمر بالقبض علي شيخ البلد وعشر فلاحين معاه، وأعلن ان لو "حامد" مسلمش نفسه قبل شروق الشمس هيعدمهم - شيخ البلد ريأكت وانا مالي يا لمبي - بس الشمس طلعت، و"حامد" مظهرش. "الكولونيل" وقع في حيص بيص، من ناحية لازم ينفذ تهديده عشان يظهر بالجامد المرعب، ومن ناحية تانية هو أساسا مرعوب من رد فعل الفلاحين لو نفذ تهديده. فحاول يمسك العصاية من النص ويدي فرصة تانية ل"حامد" يسلم نفسه لصبح تاني يوم. وصبح تاني يوم طلع، و"حامد" برده مسلمش نفسه. هنا بقي قرر الكولونيل يعند وينفذ تهديده، وقتل شيخ البلد.

الحركة دي كانت أكتر حاجة غبية عملها الكولونيل في حياته، لانها كانت أخر حاجة عملها فعليا في حياته. قتل شيخ البلد، كانت صاعقة نزلت علي راس أهل البلد كلهم، وبدأ الناس يقولوا أن "حامد" حلف ليقتل الكولونيل ذات نفسه. لكن الكولونيل كان عاوز يظهر بمظهر الشجاع قاهر الاساطير قصاد جنوده، فبقي يخرج عادي لوحده او مع جنوده في حملات للبحث عن "حامد". لحد ما في يوم رجع حصان الكولونيل شايله بالعرض وهو متغربل من كل حتة. هنا بقي قرر "نابليون بونابرت" ميسكتش علي اللي بيحصل في شطانوف، وبعت "كليبر" بنفسه - وده راجل مبيتفاهمش الا بالدم اصلا - يقبض علي "حامد" ويرجع الهدوء في المنطقة.

نزل "كليبر" علي شطانوف، قلع محاصيلها وهد بيوتها، عشان ميسيبش ل "حامد" أي مكان ينفع يستخبي فيه. وأطلق كلابه الضالة وسط الناس، تبهدل فيهم وتقتلهم ان لزم الأمر، وأمر بالقبض علي أي راجل طويل وصباعه مقطوع وداقق عصافير، كتحري عن "حامد". بس لاحظ بعد كام يوم ان اعداد المقبوض عليهم كبير وبيزيد بشكل غير طبيعي. أتاري الناس عشان يداروا "حامد"، ويخبوه وسطيهم، بقوا يقطعوا صباع ايديهم ويدقوا عصافير علي جباهم زيه، واتحولت دق العصافيرفي البلاد لعادة شعبية بعد ما كانت لتقوية النظر. وعشان يكيدوا الفرنساويين أكتر، سموه "السلطان حامد"، والعيال الصغيرة بقت تشوف العساكر الفرنساويين يصرخوا "حامد حامد" ويجروا، حتي شيخ الجامع بعد كل آذان كان يدعي ويقول : "انصرني يا رب على أعدائي فإني لك حامد"، شعب كياد بطبعه. وبقي القبض علي "حامد" شبه مستحيل، واتحول "حامد" من مجرد فلاح عادي، لبطل شعبي سوبر هيرو، وبعبع الفرنساويين. وانطلقت حكاية "حامد" وبطولته ضد الفرنساويين، زي النار في الهشيم، في كل محافظات الدلتا ووصلت للقاهرة، وبقت الناس في كل المحافظات تردد "مدد يا سلطان".

وفي يوم كانت ماشية دورية عساكر فرنسيين، منهم عسكري كان من ضمن حراس "حامد" في محاكمته، فكان من القلائل اللي يعرفوا شكل "حامد" بدقة. وبالصدفة بيلفوا في السوق، العسكري ده شاف "حامد" الحقيقي - عشان البلد كلها كانوا عاملين نفسهم حامد - من غير كلمة ولا حرف رفع بندقيته بسرعة، وضربه بالنار مموته. وفي لمح البصر خد ديله في سنانه هو والدورية، وطلعوا يجروا، قبل ما الناس تستوعب اللي حصل ويفرتكوهم بسنانهم. 

هنا "يوسف إدريس" ربط ما بين قتل "حامد" وثورة القاهرة التانية، وقالك انها قامت بسبب "حامد". والناس ثارت في كل حتة، وفي شطانوف حرقوا قلعة الفرنساويين، وكانت ليالي نار ودمار. وبالنسبة ل "حامد" الناس منقالهوش من المكان اللي اتقتل فيه، وفي ظرف 3 أيام اتبني عليه ضريح بقبة كبيرة. وهنا اتجنن "كليبر"، "حامد بقي بطل شعبي حي وميت، فأمر جنوده يخرجوا جثمان "حامد" من الضريح ويرموه في النيل. وبمجرد ما خلص الجنود مهمتهم ورجعوا ثكانتهم، مفيش يومين وفوجئ "كليبر"، بإن الفلاحين انتشلوا الجثمان من النيل ودفنوه علي الشاطئ وبنوه عليه مقام وقبة أكبر من اللي فاتت، وسموه مقام "السلطان حامد"، وبقي ليه مريدين بالألاف، من كل المحافظات. واتكونت جماعة مقاومة سمت نفسها "أولاد حامد"، مكنوش بينيموا الفرنساويين الليل. 

وهنا قرر "كليبر"- علي نهج اسطورة ايزيس واوزوريس - انه يطلع جثة "حامد" للمرة التانية، ويقطعها حتت، وكل حتة تترمي في محافظة وبلد شكل، ويتفرق دمه بين القبائل. وافتكر "كليبر" انه ارتاح لأول مرة من الصراع ده، لكن هيهات انت بتلعب مع مصريين يا بابا. مفيش كام يوم وفوجئ بعشرات الاضرحة اتبنت علي كل حتة مرمية ل "حامد" في كل بلد، واتسمت بمقام "السلطان حامد". وبدل ما كان عندك ضريح واحد، بقي عندك عشرات يا فالح - ألف من له تار في البلد - بمريدينهم وبجماعات المقاومة "أولاد حامد" في كل مكان وبلد.

وهنا بتنتهي القصة لكنها في الحقيقة مبتنتهيش، علي مر العصور والازمان كان فيه "حامد"، وزي "محمود" في "شئ من الخوف". القشة اللي بتقطم ظهر البعير، مجرد قشة، لكنها بتفجر العزايم وتحرك الارادة لقهر الظلم والاستبداد. 

مروة طلعت

#عايمة_في_بحر_الكتب

#بتاعة_حواديت_تاريخ




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خماراويه

السلطانة شجر الدر 6

نشأة محمد علي باشا