حريق اسكندرية

 الاسكندرية.... صبح 11 يونيو 1882م، زي كل يوم الناس خارجة من بيوتها تسعي لأكل عيشها، المصري علي الشامي علي اليوناني علي المالطي علي العثمانلي علي الفرنسي علي الانجليزي، خلطة أجناس من الشرق والغرب، متشوفش زيها غير في اسكندرية. مدينة سايعة الكل، والناس سايعة بعض، والحياة ماشية بحلوها وبمرها تشيل وتحط في الكل. 

في اليوم ده خرج المكاري - صاحب الحمار اللي يعتبر وسيلة نقل الركاب في الوقت ده، كان الراكب يركب الحمار والمكاري يشد الحمار لحد ما يوصل الراكب للمكان اللي عاوزه - "السيد العجان" من بيتهم يسعي بحماره، وقفه واحد خواجة مالطي، وطلب منه توصيله.  

"العجان" فرح ان الرزق بدأ يهل عليه، وبسرعة ركب الزبون علي الحمار، واتحرك بيه لحد ما وصله للمكان اللي قاله عليه. نزل المالطي من علي الحمار وطلع من جيبه حساب المكاري واداهوله.

المكاري: ايه ده يا خواجة، ده ميجيبش تمن نص التوصيلة.

المالطي: لا يا خبيبي، انت مش تضحك علي الأنا، هو ده فلوس التوصيلة صخ.

المكاري: اضحك عليك ايه يا خواجة، انت اللي عاوز تاكل حقي.

المالطي: شوف خبيبي،انت واخد خرامي، وعاوز تسرق فلوسي.

المكاري يمسك في هدوم المالطي: هو مين ده اللي حرامي يا بن ......

وهنا بتطور الخناقة، والناس بتتلم، وكلمة من المكاري علي رد من المالطي، دم المكاري الاسكندراني بيفور، وتتطور لتشابك بالايد والبونيات، والناس تحوش. خناقة زي اي خناقة عادية بنشوفها كل يوم، علي اختلاف الاجرة. بس اللي مش عادي بقي، ان المالطي راح مطلع سكينة، وهوب طاعن بيها المكاري طعنة جابت أجله، وطالع يجري واستخبي.

في اللحظة دي كأنك رشيت بنزين علي النار، والدنيا انفجرت، والخناقة اتحولت لمدبحة. الناس جريت ورا المالطي، لحد ما رجلهم جابتهم عند بيوت الاجانب، اللي طلعوا من بيوتهم والشبابيك، يضربوا الناس اللي بتجري ورا المالطي، بالرصاص.وناس كتير وقعت مابين قتلي وجرحي. وهنا بقي قامت جدعان اسكندرية كلهم يجروا علي مكان ضرب النار، ونزلوا بالشوم والنبابيت والسكاكين علي الأجانب. وفي ظرف ساعة كانت اسكندرية كلها بتضرب في بعض، والمحلات اتكسرت والشوارع اتبهدلت، والقتلي في كل حتة. البوليس ذات نفسه مكنش قادر يوقف المدبحة دي، فبعت قسم اللبان اشارة مستعجلة لقنصل انجلترا، بضرورة تسليم المالطي - الرعايا المالطيين كانوا تحت حماية انجلترا - المتسبب في كل البهدلة دي للشرطة عشان الناس تهدي. فراح القنصل الانجليزي بنفسه للقسم، يشوف الحوار ايه، راح نابله من الحب جانب واتبطح بضربة شومة وهو معدي، وكمان قنصل اليونان وايطاليا اتصابوا. وفي اخر اليوم بعد ما طاقة الناس خلصت، وراح الشيطان، لقوا قصادهم 49 قتيل، 38 منهم كانوا من الاجانب، عنيفين اوي الاسكندرانية في انتقامهم.

بالليل حصل اجتماع عاجل بين قناصل الدول الاجنبية اللي عايشة في اسكندرية ومحافظ اسكندرية وكبار الظباط المصريين، اللي تعهدوا بحفظ الامن ، مع وعد ان حاجة زي دي مش هتحصل تاني، بس الاسطول الانجليزي ما يتدخلش في الشئون المصرية. وده كان بسبب ان الاسطول الانجليزي بعت قبل كده اعتراض علي التحصينات الدفاعية والترميمات اللي بيقوم بيها الجيش المصري للأبراج الحربية في اسكندرية، بمنتهي البجاحة، كأن كده مثلا جارك بيتخانق معاك انك بتركب باب شقتك.وعلي الرغم من الاجتماع ده، وتأكيدات المسؤوليين علي اعادة الاوضاع طبيعية تاني، الا ان القناصل ناشدوا رعاياهم بالخروج الفوري من اسكندرية، وفي خلال اسبوع كان خارج من اسكندرية 35 ألف أجنبي.

أوضحلك الصورة أكتر، مصر وقتها كان الخديو توفيق حاكمها، وبعد الثورة العرابية،  جت حكومة الثورة - بلوي دراع الخديو من الجيش - وكانت الوزارة برئاسة "محمود سامي البارودي" واللي ماسك وزارة الدفاع كان "أحمد عرابي".  أيام الخديو "توفيق" زادت سلطة الجاليات الاجنبية وخصوصا انجلترا، وكانت المصالح بتتصالح مع "توفيق"، وتدخلاتهم علي قلبه زي العسل. فلما قامت الثورة العرابية، واتسحب البساط من تحت رجل "توفيق" لصالح الجيش و"أحمد عرابي"، الانجليز قلقوا ان الكنز المتمثل في مصر، يروح منهم.  ولما ابتدي "أحمد عرابي" يسلح الجيش، ويحصن المواني، ويزود طرق الدفاع، كأمر طبيعي لأي بلد بتحمي نفسها. زاد القلق اكتر في قلب الانجليز، وكان لازم التدخل العاجل والفوري، قبل ما الجيش يكبر اكتر.

 انجلترا خلقت وخططت مشكلة، عشان يبقي حجة لتدخلها واسقاط وزارة الشعب، مفيش احسن من خلق قلق عنصري، عشان تدخل انجلترا بحجة حماية مصالح الاجانب من المصريين المتوحشين.  فنلاقي الراجل المالطي اللي قتل المكاري، يبقي اخو خادم القنصل الانجليزي، يا محاسن الصدف. وأن قسم اللبان لما بعت للقنصل طلب مندوب، فيقوم القنصل بشخصه ولحمه ودمه يجي بنفسه وهو عارف ان الضرب طايل الكل في الشوارع ، دي لو حنة الخديو "توفيق" كان بعت مندوب. وفيه حادثة تانية بتأكد ان كل ده كان من تخطيط انجلترا، لما اتقابل المستشرق الانجليزي "بالمر"، مع القنصل الفرنسي، فنصحه بالخروج من الاسكندرية مع رعاياه  بسرعة، عشان هتضرب بالقنابل قريب. والحقيقة ان "بالمر" خد جزاؤه، لما اتقتل علي ايد واحد من البدو، وهو رايح يرشيهم عشان يقفوا في صف انجلترا لما تدخل مصر.

الساعة 7 صبح التلات 11 يوليو 1882م، صحيت اسكندرية علي أول قنبلة نزلت علي طابية الاستبالية، من الاسطول الانجليزي اللي ظهر في مياة سواحل اسكندرية. "أحمد عرابي" كان متوقع الهجوم ده، وكان مجتمع مع قواد الجيش، واتفق معاهم انهم يردوا الضرب بعد الضربة التالتة منهم، كتأكيد ان العدوان الاصلي منهم، وده دفاع منا. وفعلا نفذت المدفعية أوامر "أحمد عرابي"، وبعد القنبلة التالتة، بدأ القصف من الجيش المصري علي الأسطول الانجليزي.ورغم ان كان فيه فرق كبير في القوة والتسليحبين الفريقين، الا ان الجيش المصري أظهر شجاعة كبيرة وصمود في القتال، وده بشهادة الانجليز ذات نفسهم. قال جون نينيه من شهود اليوم ده: «ولا يسعنا إلا أن نعترف بأنها كانت مجزرة وحشية لا موجب لها ولا مسوغ، ولم يكن الباعث عليها إلا الشهوة الوحشية المتعطشة للدماء، وكنت أتوق إلى أن أسأل أولئك الذين كانوا يضربون، ويطلقون مدافعهم هل يستطيعون حين يعودون إلى بلادهم، ويتحلقون حول موائد الشاى فى بيوتهم أن يتحدثوا إلى ذويهم عما فعلته تلك المجازر البشرية من الفتك والتخريب؟ إنى لفى شك من ذلك، فأية إهانة لحقت الأمة البريطانية حتى تثأر من مصر على هذه الصورة الفظيعة؟ ومع ذلك فما كان أروع منظر الرماة المصريين الذين كانوا خلف مدافعهم المكشوفة، كأنما هم فى استعراض حربى لا يخافون الموت الذى يحيط بهم، وكانت معظم الحصون بلا حواجز تقيها ولا متاريس، ومع هذا فقد كنا نلمح هؤلاء البواسل من أبناء النيل خلال الدخان الكثيف، وكأنهم أرواح الأبطال الذين سقطوا فى حومة الموت قد بعثوا ليناضلوا العدو ويواجهوا نيران مدافعه. وكان القادة يزورون الحصون ويستحثون الرجال، وقد أدى الجميع واجبهم رجالًا ونساءً، كبارًا وصغارًا، ولم تكن ثمة أوسمة أو مكافآت يستحث أولئك الفلاحين على أداء واجبهم. وإنما كانت تثير الحماسة فى نفوسهم عاطفة الوطنية والثورة على ما استهدفوا له من فظائع، وهم فى مواقفهم البواسل المجهولون الذين لم يفكر أحد فيما تحملوا من آلام". كتب الجنرال "هنت" قاد الاسطول الخارجي تقرير قال فيه:"عندما كانت المدرعة ترسل مقذوفات زمة 1700 رطل علي حصن الفنار وتصيب ساتره فتثير الانقاض والاتربة الي علو الفنار نفسه، ويتخيل المرء عندما يري ذلك انه ليس في الامكان ان يعيش اي انسان تحت نيرام كهذه النيران، لا يلبث بعد بضع دقائق عندما ينقشع الغبار ان يري جنود المدفعية المصرية ملازمين مواقعهم يطلقون قذائفهم علي خصمهم الرهيب".

من شدة الضرب، القنابل مكنتش بتصيب بس الابراج والحاميات، دي نزلت علي البيوت السكنية ودغدغتها، وناس كتير ماتت تحت الانقاض. وده السبب اللي خلاهم يخرجوا رعاياهم من البلد. الناس بقت تجري في الشوارع من الخوف والفزع، ولا كأنها يوم القيامة، واتطبق المثل اللي بيقول ان جالك الطوفان حط ولدك تحت رجليك، كل واحد بقي يجري يلحق عمره ومحدش شايف حد، بس فيه ناس تانيةجريوا في عكس الاتجاه، رجالة وستات، جريوا يساعدوا جنود الجيش في الحرب. قال الشيخ "محمد عبده": "تحت مطر الكلل ونيران المدافع كان الرجال والنساء من أهالى الإسكندرية، هم الذين ينقلون الذخائر ويقدمونها إلى بعض بقايا الطوبجية الذين كانوا يضربونها، وكانوا يغنون بلعن الأدميرال ومن أرسله". الاسكندراني عاشق أغاني جعان يغني شبعان يغني، علي رأي أحمد فؤاد نجم، وتحت القصف كمان بيغني.

فضل القصف شغال بين الفريقين لحد الساعة 6 مساء. كانت الاسكندرية اتحولت لركام، ومات فيها 2000 مصري، وأغلبهم من أهالي اسكندرية المدنيين. في حين كانت خسائر الانجليز 5 قتلي و 19 جريح. هنا اتأكد "عرابي" ان خلاص كده اسكندرية احتلت، فقرر الانسحاب عشان يقدر يجمع قواته ويستعد للمقاومة مرة تانية داخليا. 

تاني يوم والجيش المصري بينسحب من اسكندرية المحطمة، يطلع "سليمان سامي داوود" قائد الآلاي السادس ويأمر جنوده من نفسه كده من غير ما يرجع ل"عرابي" ولا لحد، انهم يولعوا في اسكندرية كلها. قال ايه الحركة دي هتعوق الانجليز من النزول علي شواطئها. طبعا هي لا عاقت ولا حاجة، بالعكس دي سهلت عليهم المهمة، وكانت النتيجة احتلال اسكندرية من الانجليز بسهولة. وحريق الاسكندرية كانت حجة في الجون، خدمت الخديو " توفيق" انه يخلع "أحمد عرابي" من وزارة الحربية بكل أريحية. لا ودافع عن تصرف انجلترا، انه ضروري للمحافظة علي الأمن.

مروة طلعت

13 / 3 / 2023

#عايمة_في_بحر_الكتب

#بتاعة_حواديت_تاريخ

المصادر:

11 يوليو سنة 188م - عمر طوسون

الخطط التوفيقية لمدينة الاسكندرية جزء  10 - علي باشا مبارك

الزعيم الثائر - عبد الرحمن الرافعي

ضرب الاسكندرية في 11 يوليو - عباس العقاد






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خماراويه

السلطانة شجر الدر 6

نشأة محمد علي باشا