مينو وزبيدة

 الجمال نعمة عظيمة، فالقلب يعشق كل جميل. لكن أحيانا الجمال بينقلب نقمة، ويكون مصدر تعاسة وشقاء لصاحبه. 

رشيد سنة 1798م، "أبين زين، وأوشوش الودع، واشوف البخت والمكتوب"، طلعت جارية من مشربية بيت "محمد عبد الرحمن البواب الميزوني" أكبر تجار رشيد، تنده علي العرافة عشان تقرا فنجان "زبيدة" جميلة جميلات رشيد. دخلت العرافة الحرملك، لقت "زبيدة" قاعدة مستنياها، زي البدر في ليلة تمامه، بس مكسورة الخاطر بعد طلاقها من "سليم أغا نعمة الله"، واحد من أثرياء المماليك، عشان الخلفة وهي لسه بنت 16 سنة. قعدت العرافة علي الأرض وربعت، واخدت من ايد "زبيدة" فنجان قهوتها، بصت فيه شوية وقالتلها بفرحة: "ستكونين ملكة"، لكن فجأة راحت البشاشة من علي وش العرافة واتغير نبرة صوتها للحزن وقالت:"لكن نهايتك حزينة". 

6 يوليو سنة 1798م، صحي الناس علي منظر السفن الفرنسية، اللي جاية من إدكو، ووقفت علي شواطئ رشيد، ونزل منها حوالي 2000 جندي فرنسي بقيادة الجنرال "دوجا". أول ما بلغ حاكم رشيد المملوكي "عثمان خجا" نزول الفرقة الفرنسية رشيد، خد حاله وماله وديله في سنانه وقال يا فكيك. هنا بقي أهل رشيد بيفرحوا فرحة عمرهم، انهم اخيرا خلصوا من المماليك، وخصوصا من "عثمان خجا"، اللي كان ناحل وبرهم بالضرايب علي الغلال والمحاصيل الزراعية اللي بتخرج من ميناء رشيد، والظلم والقهر والاستبداد والقسوة علي الأهالي بالحديد والنار والكرباج. وبسبب ده كان رد فعل أهل رشيد مختلف عن رد فعل أهل دمياط والمنصورة والبرلس - اتكلمنا عنها في مقالة قبل كده  https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=pfbid032LS8FarbdsWr5E1KBwn4v3VhMpN1Nf6DRMcY6sPNFXBKr3ExpKpveMtjtTwhKdQGl&id=100070872365801&mibextid=Nif5oz _ استقبل أهل رشيد، جنود الحملة الفرنسية استقبال الفاتحين، وده اللي خلا الجنرال "دوجا" في قمة ذهوله، وهو شايف الترحيب والحفاوة الكبيرة اللي قابله بيها كبار البلد والرعية، بإعتباره المنقذ والمخلص من المماليك.

يوم 8 يوليو بيوصل الجنرال "جاك فرنسوا مينو"، رشيد، بتكليف من ساري عسكر، "نابليون بونابرت"، بإعتباره حاكم رشيد. وأول ما وصل، فوجئ بانتظار الأهالي والأعيان وكبار البلد، واستقباله بالطبل والزمر والزغاريد، حاجة في منتهي العبث. 

طبعا "مينو" شاف كده، انشكح أوي، وقالك دول ناس طيبين اوي يا خال، ده انتوا لقطة، فعجبه الجو وزود من احساسه بالأريحية، واحساسه ان البلد دي هي اللي هتحققله طموحه ومجده اللي بيحلم بيه. بدأ "مينو" يتقرب من الناس، ويصاحب الاعيان وكبار البلد، ويحاول يقلد حياة وعيشة أهل رشيد، وأهو ضحك ع الدقون، لنول المراد. 

وفضل الحال علي ما هو عليه بين "مينو" وأهل رشيد، لحد يوم 4 أغسطس. لما فوجئ أهل رشيد بمركب فرنسية، وقفت في ميناء رشيد، وفيها السيد "محمد كريم"، اللي كان مقبوض عليه من اسكندرية للقاهرة، لتنفيذ حكم الاعدام فيه. هنا بس الناس صحيت، لا دول منقذين، ولا يفرقوا عن المماليك في شئ. ونزل علي "مينو" الغضب، من ثورات الأهالي، لهجوم العربان، وفين يوجعك. ومكنش "مينو" ملاحق يسد من هنا ولا من هنا، حرب الشوارع قايدة نار، والاسلحة بتنفذ. واللي زاد الطين بلة ان الاسطول الفرنسي ضاع واتدمر علي ايد الاسطول الانجليزي في أبو قير. والأحداث سخنت، والفرنسيين خلعوا وشوشهم الحضارية المزيفة، وظهر الوش الهمجي الدموي الاستعماري القبيح، وبانوا علي حقيقتهم. واضطر "مينو" يفرض الضرائب، ويجبر الناس زي المماليك وألعن، ماهم بقوا زي الفار في المصيدة، محبوسين جوا البلد، ومفيش معونات ولا اي امدادات من فرنسا، بعد ما الاسطول الانجليزي سيطر علي سواحل البحر المتوسط.

لما لقي "مينو" نفسه لوحده، قدام غضب أهل رشيد، حتي "بونابرت" ساب الليلة للجنرال "كليبر"، وهرب لوحده متخفي، من مصر. فكر "مينو" يرجع لسياسة اللين ويتقرب للشعب، وهنا قرر انه يناسب أهل رشيد ويتجوز منهم. طبعا الجنرال "مينو" لما يفكر يتجوز، هيفكر يناسب أكبر عائلة في رشيد، أصل وثراء. ووقع اختياره انه يناسب الشيخ "إبراهيم الجارم" من كبار علماء الدين في رشيد، اللي أول ما اتسربله الخبر وقبل ما يطلع الصبح، كان باعت لاتنين من تلامذته، وكاتب كتابهم علي بناته الاتنين في الحال - كانت فرصة دهبية مكنوش يحلموا بيها -  وفوت الفرصة علي الجنرال "مينو"، وعفا نفسه وأهل بيته من الأذية المتوقعة، لما يرفضه. 

لما عرف "مينو"، باللي عمله الشيخ "ابراهيم الجارم"، غضب. لكن مستشارينه دلوه علي "محمد عبد الرحمن البواب الميزوني"، اللي عنده بنت مطلقة، بيقولوا عليها أجمل بنات رشيد. وفعلا مكدبش "مينو" خبر، وبعت ل "محمد البواب" يطلب منه ايد بنته "زبيدة". والغريب ان "محمد البواب" وافق ورحب، ومكنش عنده غير مانع واحد بس، وهو ان "مينو" مسيحي مينفعش يتجوز بنته المسلمة. "مينو" فكر شوية، فلاقاها فكرة مش بطالة، لان "مينو" كان مخطط انه ميطلعش من مصرويتبت فيها، واعتناقه للاسلام هتكسبه محبة وشعبية كبيرة مع الناس الطيبة دي. وفعلا اعلن "مينو" اسلامه، ونطق الشهادتين قصاد القاضي الشرعي، وسمي نفسه "عبد الله جاك مينو". عقد زواجه علي "زبيدة البواب" اللي كانت أصغر منه ب 30 سنة، بوثيقة شرعية بتاريخ 25 رمضان سنة 1313 هجري 1799م. وبعد اعلانه الاسلام في رمضان، بقي حريص علي كل مظاهر الاسلام الخارجية اللي قصاد الناس، زي يصلي معاهم الفروض والتراويح في الجامع، عشان الكل يتأكد من اسلامه وينبهروا ويحبوه. 

بالنسبة ل "زبيدة"، كانت سعيدة وحاسة انها طايرة وماسكة السما بإيديها. وده لأن "مينو"، لما شافها انبهر بجمالها الفتان، ووقع في حبها، وكتب رسالة يصف فيها "زبيدة" لواحد من أصدقائه، قال فيها: «زوجتي طويلة القامة، مبسوطة الجسم، حسنة الصورة من جميع الوجوه، لها عينان رائعتان، ولون بشرتها هو اللون المصري المألوف، وشعرها طويل فاحم، وهي لطيفة الطبع، وجدتها تتقبل كثيرًا من العادات الفرنسية بنفور أقل مما توقعت، وأنا لم ألح عليها بعد في الخروج سافرة على الرجال، ولن أنتفع بما أباحه النبي من الزواج بأربع نساء، فإن في زوجة واحدة أكثر من الكفاية»، وعليه عاشت "زبيدة" في دلع وبغددة أكتر من اللي شافته في بيت أبوها التاجر الكبير، وكانت كل الستات بيحسدوها علي معاملة جوزها ليها،لان مفيش واحدة جوزها المصري بيمسك ايديها وهو ماشيين، ولا بيأكلها في بقها بالشوكة، ولا بينحني ليها، ولا بيجيبلها المنديل لما توقعه. من الآخر يعني "مينو" و "زبيدة" عيشوا رجالة رشيد في نكد من مرارتاتهم زي الفل.

في سنة 1800م، بيهجم "سليمان الحلبي" علي ساري عسكر الجنرال "كليبر" وبيقتله. وبعد المحاكمات واعدام "سليمان الحلبي"، بيتم اختيار الجنرال "مينو" يكون خليفة "كليبر"، ويصبح ساري عسكر الجديد. "مينو" مكنش بيطيق "كليبر"، وكان من أكتر الناس اللي شمتوا في موته، وعشان كده لما ولدت "زبيدة" في نوفمبر 1800م، ابنها من "مينو"، مقدرش يخبي شماته وسمى ابنه "سليمان"، واهو منها يكسب بوينت في صف المصريين. واتحققت نبوءة العرافة، واصبحت "زبيدة" ملكة مصر. لكن الكرسي مطولش كتير، يادوبك اتنقلت للقاهرة من هنا، والدنيا اتشقلب حالها، ودخلت في الجزء التاني من النبوءة،  وكانت بداية نهايتها التعيسة. 

كان جوزها الجنرال "مينو" محاصر من الانجليز والقوات العثمانية، والحروب دايرة مابينهم، وكفة الفرنسيين كانت واضحة جدا انها الي زوال. يقرر "مينو" ان خلاص كده مفيش فايدة ويبدأ بانسحاب قواته من مصر، وخروج الحملة الفرنسية سنة 1801م. ولأن الست المصرية الأصيلة دايما رجلها علي رجل جوزها، خرجت "زبيدة" ورا جوزها من مصر، بابنها "سليمان، ومعاها خادمها الخصوصي "سرور" اللي رافقها من أيام عز أبوها. 

خرج "مينو" من مصر، مريض بالطاعون، لكن الجراح الفرنسي "لاري" قدر يعالجه، فنجا "مينو" من الموت بإعجوبة. لما وصلوا فرنسا، كشف عنه وشه الحقيقي واتنكر ل"زبيدة"، وسابها لوحدها في مرسيليا، واتنقل هو كحاكم ل3 مدن خلال 5 سنين. وكانت "زبيدة" بتعاني من الفقر والعوز، ومأنقذهاش غير خادمها "سرور" اللي بقي يشتغل في أي حاجة عشان يصرف علي "زبيدة" وابنها. وبسبب سلوك "مينو" الغير أخلاقي وادمانه الخمر، والغواني، وحياة العربدة، تم فصله من الجيش. فرجع تاني ل "زبيدة" في مارسيليا، وكأي ست مصرية أصيلة في أي علاقة توكسيك، سامحته. وتغاضت عن أي سوء معاملة وعشرة بينهم، وخلفت منه ابنها التاني. 

هنا بقي كانت الطامة الكبري، "مينو" كان ارتد عن الاسلام، بس "زبيدة" مخدتش بالها، فلما ولدت طلب منها تديله ابنهم المولود عشان يعمده في الكنيسة. "زبيدة" رفضت بشدة وبثورة شديدة، ازاي يتعمد في كنيسة وهو مسلم. اعتمد "مينو" علي جهلها بالدين فقالها  إن الإسلام لا يمنع تعميد الطفل لأن الله يقضي بإيمان أهل الكتاب عملا بقول الله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ»، سورة البقرة آية 62. والحقيقة انه اقنعها ادام جابلها آية من القرآن بقي. بس "مينو" مكنش ناوي ياخد الواد يعمده وبس، ده اخده ويقال انه إداه لأسرة فرنسية تتبناه وتربيه.

مات "مينو" سنة 1810م. ومن بعد موته، ظلت نهاية "زبيدة" غامضة. رفاعة الطهطاوي قال عنها: " لا يُعْرَف أي شيء عن نهاية زبيدة على مستوى اليقين، سوى بعض تكهنات المؤرخين أن ولدها الأكبر توفى في ظروف غامضة، ولم تستطع الوصول إلى نجلها الثاني خاصة بعد وفاة مينو سنة 1810 في الستين من عمره، كما أن أهلها لم يتمكنوا من الوصول إليها، حيث عاشت في شوارع مارسيليا تتسكع في طرقاتها، مع شبهات حامت حولها بشأن احترافها للبغاء من أجل العيش، لكن الثابت هو أنها ماتت مسيحية". وفيه اللي قال انها قدرت ترجع تاني لمصر بعد موت ابنها "سليمان"، لكن الحقيقة المؤكدة فضلت غامضة وغير واضحة.

فيه رواية ل "علي الجارم" اسمها "غادة رشيد"، بتحكي حكاية "زبيدة البواب" بطريقة خيالية لاتمت للحقيقة بصلة. وفيه مسلسل اسمه "الأبطال" اعتمد علي حكاية "علي الجارم"، في سرد الاحداث عن "زبيدة"، فظهرت حكاية تانية خالص غير اللي حصل في الحقيقة.

مروة طلعت

12/ 3 / 2023

#عايمة_في_بحر_الكتب

#بتاعة_حواديت_تاريخ

المصادر:-

"تخليص الابريز في تلخيص باريز" جزء 1 - رفاعة الطهطاوي.

"رشيد النشأة والازدهار والانحسار" - د/ جليلة جمال القاضي - د/ محمد طاهر الصادق - د/ محمد حسام اسماعيل.

"دراسة عن غادة رشيد" - للباحثة أحلام السيد الشوربجى باحث ماجستير في التاريخ الإسلامي بكلية الآداب جامعة دمنهور.





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خماراويه

السلطانة شجر الدر 6

نشأة محمد علي باشا