هوامش التاريخ (ريفيو)
قرأت كتاب "هوامش التاريخ - من دفاتر مصر المنسية"، للكاتب "مصطفي عبيد"، الصادر عن دار الرواق، في طبعته الاولي، بعدد صفحات 195 صفحة. التاريخ يكتبه المنتصرون، القوي دائما يفرض رؤيته وسيطرته علي صفحات التاريخ، فتصبح وقائع مسلم بها، حتي لو انها زيفت الحقائق. وهنا يأتي كتاب "هوامش التاريخ"، غاص فيه الكاتب في تاريخ العامة المغلوبون عن أمرهم، الذين يتقازفهم أهواء الساسة. هؤلاء المكتوب سيرتهم في هوامش صفحات التاريخ، تلك السيرة التي قد تزكم الأنوف من فظاعة الظلم والقهر والمرض والانحراف، بعيد عن بريق الساسة، وانتصاراتهم السطحية، نبش الكاتب في التاريخ المطموس المكبوت المهمش المنسي، هنا تاريخ لايكتبه المنتصرون.
قسم الكاتب كتابه الي عدد من الفصول، لايجمع بينهم شئ سوي انهم مجموعة من القصص والحكايات، التي لايهتم بذكرها كتاب التاريخ، وان ذكرت فستكتب بعيون المصلحة. في فصل "بوليس مصر..وطنيون وقتلة"، في كل مكان أو مهنة، هناك الصالح والطالح. كذلك مهنة الشرطة، هناك الشرفاء الوطنيون الذين ضحوا بأرواحهم فداء قضية ووطن، وأدركوا ان أساس مهنتهم هي حماية الشعب، أمثال الأبطال "عبد الرحمن بك فهمي" بطل ثورة 1919 الحقيقي ومنشأ الجهاز السري للثورة، وكان جزائه إغفال اسمه في سجل أبطال ثورة 1919، لولا ان ابرزدوره الوطني المؤثر، "مصطفي أمين" في كتابه "الكتاب الممنوع". والشهيد "محمد كامل" مأمور بندر أسيوط، واليوزباشي "أبو المجد الناظر" و"مصطفي حلمي" في ديروط. و"محمود عبد الرحمن" مدير المديرية الذي كان يخفي الفدايين في استراحة قائد البوليس الانجليزي. والملازم "فؤاد الدالي" الذي قاتل ببسالة مع شرفاء قسم الاسماعيلية ضد الانجليز، وخرج منها بشظية في رأسه وظل بها طوال عمره كوسام للشرف والوطنية، حتب خروجه علي المعاش كمدير لأمن الاسماعيلية. وعلي النقيض هناك من الشرطة من كان يتخذ وظيفته كمهنة لجلد المواطنين وكللت أسمائهم بالعار، أمثال البكباشي "محمد شاهين" في المنيا، الذي قتل بيده عدد من أبناء بلده للقضاء علي ثورة 1919 لمصلحة الانجليز. ومثله الملازم "سليم زكي" الذي ارتكب من الفظائع في حق الناس، وارتقي لمنصب حكمدار العاصمة، وكان من مؤسسين البوليس السري، لخدمة الانجليز.
يطرح الكاتب قصص وحكايات غريبة عن الأبطال الشعبيين المخلدين في الاغاني والمواويل والحكايات، وهم في الاصل مجرمون مذنبون، ولكن العامة حولوهم لأبطال لأسباب غير معلومة. أمثال "سليمان الحلبي" الذي قال عنه الجبرتي انه في الاصل قاتل مأجور. والسفاح والهجام"ياسين"، الذي خلده الناس كبطل في اغنية "يابهية وخبريني يابوي ع اللي قتل ياسين". وقاطع الطريق والقاتل "أدهم الشرقاوي" الذي حولته المواويل والافلام لروبن هود المصري. والنصاب الظريف "حافظ نجيب" بطل مسلسل "فارس بلا جواد". ومن ضمن من خلدتهم الافلام كان "محمود سليمان" سفاح اسكندرية، الذي حوله "نجيب محفوظ" في رائعته "اللص والكلاب" لضحية.
والغريب ان الكاتب فيما مضي من فصول كتابه، كان يعرض الكثير من الشخصيات، بإسلوب خير الكلام ما قل ودل. يعطي لمحات سريعة وموجزة عن بعض الشخصيات غير مشبعة للفضول، وفي شخصيات أخري يسهب في الحديث عنها. حتي نأتي لإحدي الشخصيات التي أعطاها فصلا كاملا، وهو "حمزة البسيونى"، مدير السجن الحربي واشهر جلادين عصر "جمال عبد الناصر". روي الكاتب فظائع التعذيب والتجاوزات بشكل مفصل والتي تمت في السجن الحربي تحت اشراف اللواء "حمزة البسيوني"، واخذ حكاياته من كثير من كتب المساجين من الاخوان وغيرهم، تلك الاحداث التي ألهمت الكتاب والسينما لتجسيد شخصية "البسيوني" وجرائمة في أفلام مثل "الكرنك" و "احنا بتوع الاتوبيس" و "البرئ" وغيرهم, وحتي نهايته المأساوية، التي اعتبرها ضحاياه انتقام رباني عادل.
وفي فصل اخر يعرض الكاتب حكايات بعض من المنافقون ومتملقي الحاكم أو السلطان علي مر العصور. فالمصريون منذ القدم اختاروا تقديس الحاكم، دائما هناك مجموعة حول السلطان تؤيد وتصفق، واثر ذلك علي سلوك الحاكم الذي يشعر بالغرور ويضعه في مصاف الآلهة غير الخطائين. حتي ما اذا تغير الحاكم، غيرو من جلودهم ومبادئهم لتناسب الحاكم الجديد، او كما يقال مات الملك عاش الملك. وهنا يعرض علاقة مشاهير الفن والادب والصحافة بالحكام من أيام الاسرة الملكية وحتي ناصر والسادات ومبارك.
وفي فصل اخر يبرز الكاتب الكثير من حكايات النساء المناضلات المجهدات، والتي أهمل التاريخ ذكر فضلها. فالمرأة المصرية بطبيعتها وغريزتها، في المحن والازمات تقف كتف بكتف الرجل، بل ان منهن من تقدمت الصفوف بغرض التموية والخداع. كالشهيدة "دولت فهمي"التي ضحت بسمعتها وحياتها لانقاذ "عبد القادر الجن"، وزوجة الحاج "أحمد جاد الله" التي كانت توزع الاسحلة علي الفدائيين اسفل سلة السميط. و"شفيقة محمد" أول شهيدة في ثورة 1919. و"تحية كاريوكا" التي كانت تنقل الأسلحة والطوربيد الي قوات الفدائيين في الاسماعيلية بسيارتها. ودكتورة "درية شفيق" التي كونت أول كتيبة نسائية، ودربتهن علي حمل السلاح ضد الانجليز.
وفي فصل آخر يظهر الكاتب طابع المصري خفيف الدم، الذي يتندر علي حاله، بمبدأ شر البلية ما يضحك. وكما قال المتنبي: وَكَمْ ذَا بِمِصْرَ مِنَ المُضْحِكَاتِ وَلَكِنَّهُ ضَحِكٌ كَالبُكَا. المصري معروف ان سلاحه الوحيد في مواجهة مشاكله وتخفيف الضغوطات عليه، هي السخرية والاستهزاء والتندر. فعرض في بحث سريع عن اشهر النكات السياسية والاجتماعية، التي ظهرت بمصر في عصور مختلفة. سواء من الادباء او في الجرائد او حتي النكات الشعبية المتداولة بالشارع. واستكمالا لطرافة فصل الساخرون، انتقل الي حكايات أشهر البخلاء في مصر والتي تعتبر أيضا من الطرائف المتندر بها. تخلل من خلالها بحث سريع في أسباب وصم محافظات بعينها بالبخل دون غيرها، وقد تكون السمعة غير صحيحة، الا انها اصبحت من ثوابت الفكر الجمعي.
الكتاب اشبه بالمقتطفات التاريخية، طريقة كتابة فصوله مثل التحقيق الصحفي طويل، تميز باختلاف موضوعاته التي يتناولها كتاب الكتب التوثيقية التاريخية. به كم كبير من المعلومات والاسماء والشخصيات والاحداث - هناك قصص داخل الكتاب لم تأخذ حقها في ذكر التفاصيل رغم اهميتها - التي قد تكون بعضها صادمة، مغايرة تماما لما درسناه وفهمناه ونشأنا عليه، وذلك أكبر مثال علي ان التاريخ عبارة عن وجهات نظر، طوع بنان كاتب السيرة والحكاية علي حسب نظرته الشخصية وأهدافه.
مروة طلعت
28 / 2 / 2023
#مروة_طلعت
#عايمة_في_بحر_الكتب
#ريفيوهات_مروة_طلعت
تعليقات
إرسال تعليق