اعرف بلدك (ريفيو)

قرأت مؤخرا، كتاب "اعرف بلدك" للكاتب "إسلام وهيب"، الصادر عن دار الرسم بالكلمات، في طبعته الاولي، بعدد صفحات 150 صفحة.

الكتاب - كما هو واضح من غلافه - عبارة عن جزء أول، لسلسلة قادمة، وذلك الجزء بعنوان "عواصم مصر الاسلامية". الحقيقة ان اسم السلسلة "اعرف بلدك" مأخوذ عن اسم المبادرة التي اطلقها كاتب الكتاب "أسلام وهيب". تلك المبادرة التي تهدف الي معرفة كل أماكن وآثار مصر، في محافظاتها المختلفة. وعلي الرغم من تاريخ الكاتب الروائي سابقا، الا انه نجح في مبادرته الثقافية بمعلوماته التاريخية الثرية جدا، كما نجح كروائي فيما مضي.

الكتاب عبارة عن جولة في عواصم مصر الاسلامية الأربعة، ذكر فيه كافة تفاصيل كل عاصمة، من حيث ابعادها التاريخية وأسباب بناءها، ووصفها جغرافيا ومعماريا، وتأثيرها الحضاري والتجاري، وشكل قاطنيها وامتيازاتهم. تميز أسلوب الكاتب بالبساطة في التعبير والشرح، فانتهج النهج الاكاديمي في عرض معلوماته، فكانت مصادره دائما حاضرة مابين السطور، يستشهد بها ويدلل علي صحة معلوماته الموثقة. ومن الملاحظ التنوع الكبير بين مصادر الكاتب، وسعة اطلاعه التي لمت جوانب الموضوع الذي يتحدث به من جوانب عديدة.

كانت البداية مع عاصمة مصر الاسلامية الاولي "الفسطاط"، التي هي الآن مصر القديمة وضواحيها. ولكنه لم يبدأ باقامة الفسطاط كعاصمة، بل عرض تاريخ المنطقة من قبل ما تكون الفسطاط. فأخذنا في جولة مع الحياة الرومانية في مصر قبل الفتح الاسلامي، وعرض شكل وتخطيط حصن بابليون، وأهمية موقعة الاستراتيجي والجغرافي ليصبح محطة صد منيعة لأي محاولة غزو، ولم يغفل ذكر سبب تسمية الحصن ببابليون بفرضياتها المتعددة من أكثر من مصدر، والتي كانت احدي فرضياتها ان سميت علي اسم المنطقة التي بنيت فيه الحصن، والتي كانت تسمي بابليون نسبة الي أهل بابل الذين أسرهم الملك "سنوسرت الثالث" أثناء حروبه. ومن بعد شرح معلوماتي شامل للمنطقة في العصر الروماني، استعرض الكاتب وصف وشرح بأسلوب ممنهج للفتح الاسلامي لمصر بقيادة "عمرو بن العاص". أسهب الكاتب في ذكر تاريخ نشأة فكرة فتح مصر، وحلم "عمرو بن العاص"، وطريقة التحضير، وذكاء "بن العاص" وتكتيكاته الحربية خصوصا في معركة هليوبوليس أو عين شمس اللي لجأ فيها لخداع الجيش الروماني ومحاصرته ومن ثم النصر. حتي وصوله الي حصار قلعة "بابليون"، وفتحها بشجاعة الصحابي الجليل "الزبير بن العوام" رضي الله عنه وأرضاه، حينما تسلق أسوار الحصن وكبرومن ورائه كبر أعداد الجيش،  فظن الرومان ان الجيش الاسلامي اقتحم الحصن وفروا هاربين. كما ذكر الكاتب سماحة "عمرو بن العاص" مع المقوقس ومع مسيحيين مصر، والتي استمدها من سماحة الاسلام. ثم يأتي تعنت قيصر روما ويصر علي الحرب، فيأتي دور الاسكندرية، عاصمة الرومان، في الفتح. ولكن عن طريق مساندة المصريين، الكارهين للحكم الروماني، في القري التي حول الاسكندرية، يكتمل الفتح المبين، وتتحول مصر علي يديه الي العصر الاسلامي. هناك جزئية مضافة متميزة، وهي ذكر القبائل العربية المساندة التي ضمها الجيش الاسلامي في فتح مصر، ومصيرهم بعد فتح مصر، وأغلبهم ظلوا بمصر، بل ان منهم متواجدين حتي الآن مثل قبيلة جهينة، والتي سكنت الفسطاط ثم انتقلوا وانتشروا في صعيد مصر، والأكثرية في سوهاج، وكانوا لهم، فيما بعد، في سوهاج بطولات سجلها التاريخ كأقوي مقاومة شعبية ضد الحملة الفرنسية. وبعد هذه الدراسة الشائقة المتكاملة بشكل مبسط وسريع، شرح الكاتب لنا أسباب أختيار موقع الفسطاط وسبب أختيار اسمها والتي معناها الخيمة، وبناء جامع "عمرو بن العاص" بها. فأصبحت أول عاصمة لمصر بعد الفتح الاسلامي، وأكبر سوق تجاري.

انتقل الكتاب بعدها الي عاصمة مصر الاسلامية الثانية، وهي مدينة العسكر. وكما حدث في تأريخ العاصمة الأولي، رصد الكاتب الأبعاد التاريخية لأسباب نشأة العاصمة الجديدة. فكانت البداية عند تغيير الخلافة من الأموية الي العباسية. بل البداية من الصراع بين آل البيت والامويين علي الخلافة، والثأر القديم لعلي والحسين رضي الله عنهما. فانتقل سريعا وبسلاسة، حتي وصل الي التعاون بين "أبو مسلم الخرساني" و "أبو العباس السفاح" وحروبهما ضد الامويين حتي "معركة زاب" التي تم بها النصر وتغيير الخلافة ومقرها الي بغداد. كما ذكر سبب تسمية الدولة العباسية بالمسودة وتفضيلهم للون الاسود في الثياب وراياتهم وذلك لثأرهم للحسين ومظالم الامويين لهم. وحتي يتم توضيح سبب اقامة عاصمة جديدة في مصر، يجب ذكر حريق الفسطاط الذي قضي علي المدينة بكاملها، والذي كان مسببها أخر خلفاء الامويين "مروان بن محمد". فكان هروبه الي مصر سبب وبال عليها، فأضرم النيران بالفسطاط حتي يعوق مطارديه من العباسيين عن اللحاق به. ولكنهم في النهاية وصلوا اليه وقطعوا رأسه في الفيوم، ولكن بعد دمار أكبر مدينة تجارية والاكبر في تعداد السكان. وعليه قرر أول ولاه مصر من العباسيين "صالح بن علي"، ان ينشأ غاصمة جديدة لمصر وكانت مدينة "العسكر" وسميت كذلك بسبب تمركز عسكر العباسيين بها.

ومن بعدها يكشف لنا الكتاب أسرار وتاريخ عاصمة مصر الاسلامية الثالثة وهي القطائع، عاصمة "أحمد بن طولون"، هنا حيث أيام ضعف الخلافة العباسية. وكما فعل الكاتب مع العاصمتين السابقتين، اسهب في شرح الوضع التاريخي والسياسي الذي أدي لتغيير العاصمة للمرة الثالثة بعد الفتح الاسلامي. فكانت البداية مع "طولون" الأب، الذي بيع كمملوك لوالي بخاري، ومن ثم انجابه ل "أحمد بن طولون" الذي تربي علي العسكرية، واظهر من النبوغ والذكاء ما أهله للتقدم الي قيادات الصفوف. ثم أستعرض الكاتب بلمحة سريعة وموجزة، تسلسل عدد من الخلفاء العباسيين في عهد الضعف، والتصارع والتناحر بينهم وبين الأتراك علي قيادة الأمور، وما بها من أحداث مخزية كخلفاء للبلاد الاسلامية، حتي تدرج ووصول "أحمد بن طولون" الي مصر في كنائب للوالي "بايباك". استطاع "أحمد بن طولون" قيادة الأمور في مصر، والقضاء علي الفساد، وتنظيم الطرق والتجارة، وألغي الضرائب الباهظة، بل انه لغاها تماما علي المزارعين والتجار لفترة زمنية محددة حتي تزيد الزراعة والتجارة، فقلت الجريمة ووسعت أرزاق العباد، وتحسن الحال والاقتصاد. وعندما ساعد"أحمد بن طولون" الخليفة العباسي في القضاء علي تمرد والي فلسطين عليه. كسب مودة استطاع من خلالها يكسب ثقة الخليفة ويطلب منه اقامة جيش خاص له واكتساب مصر امارة خاصة به ولابنائه مع دفع الجزية المقدرة للخليفة، فأصبحت مصر امارة طولونية تحت لواء الدولة العباسية. ومن هنا قامت "القطائع" - منطقة السيدة زينب حاليا - عاصمة الدولة الطولونية، فأقام  بها جامع "أحمد بن طولون" وسك عملته الجديدة والتي تفوقت علي القيمة الشرائية للدينار العباسي، فكان عصر "أحمد بن طولون" من العصور القليلة التي عاش فيها المصريون في رخاء. لم يغفل الكاتب شرح معالم جامع "أحمد بن طولون" المعمارية، وحكي حكاية بانيه المهندس العبقري المصري المسيحي، الذي حقق حلم "بن طولون" في بناء جامع لايغرق ولا يحترق، فظل شاهدا علي عبقريته عبر العصور حتي الآن. وحكي الكاتب حكاية فوارة الجامع التي بنيت مرة أخري في عصر المماليك وأسباب بنائها, ولم يكتفي الكاتب عند بناء العاصمة بل ذكر نهاية "أحمد بن طولون" وظروف موته، وكتب بعده باختصار حياة خلفائه الذين لم يكونوا علي مستوي حكمه وحكمته فكانت نهاية الدولة الطولونية أمر مفروغ منه.

رابع عاصمة بعد الفتح الاسلامي كانت "القاهرة"، او كما نطلق عليها دائما  "قاهرة المعز"، المنسوبة لل"المعز لدين الله الفاطمي" أول خلفاء الدولة الفاطمية العبيدية في مصر. ولكن الكاتب بدأ حديثه عن "القاهرة" بالتعريف عن معني الدولة العبيدية، ومنها انطلق في شرح نشأة الشيعة، منذ حادثة السقيفة، التي علي أساسها اختير "أبي بكر الصديق" رضي الله عنه، كخليفة رسول الله، ومن بعده يتوالي الخلفاء حتي "علي بن أبي طالب" كرم الله وجهه. ويستعرض الكاتب بإيجاز شديد الفتنة الكبري التي حدثت في زمنه، وأسباب الخلاف الذي أدي الي ظهور الشيعة. ثم ينتقل في سرعة لنشأة الدولة العبيدية الخارجة من رحم الشيعة وتطورها، حتي ظهورها بشكل رسمي في بلاد المغرب العربي. وكانت هناك العديد من الأسباب التي أدت بالدولة العبيدية في التفكير والتنفيذ جديا في الاتجاه الي مصر. وقد كان، بعث "المعز لدين الله الفاطمي" جيشه بقيادة "جوهر الصقلي" الي مصر، ليفاجئ بها في حالة مزرية من الفقر والمرض والأوبئة والضياع. كما فوجئ بحاكم الاخشيديين في مصر، يسلمه اياها بمنتهي السلمية وكفا الله المؤمنين شر القتال. وهنا يأتي دور اختيار موقع العاصمة الفاطمية الجديدة في مصر، والتي كانت مهمة علي كاهل القاد "جوهر الصقلي"، والتي استغرق بنائها ثلاث سنوات. اختار مكانها بعناية ونتيجة دراسات لمواقع مصر المختلفة، ومنها بدأ في تشييدها، وتحصينها، فاهتم بالأسوار العالية الحصينة وكثرت أبوابها، والتي أعطي الكاتب لكل باب المجال للكلام عنه بالتفصيل من حيث الشكل المعماري وسبب تسمية كل باب بإسمه وتاريخه اللاحق. كان "جوهر الصقلي" قبل البناء واضع اسم المدينة "المنصورية" علي اسم والد "الخليفة المعز"، ثم تغير بدخول الخليفة بعد بنائها، فاسماها "القاهرة" أي التي تقهر الأعداء. جزء الحديث عن القاهرة بالذات في غاية الامتاع، فعن طريق الحديث عن أبوابها يتحرك الكاتب بالحكايات المرتبطة بالأبواب في العصور المختلفة التي تلي بناها حتي الآن. ومن بعدها يتحدث عن الأبواب التي بنيت بعد بناء القاهرة كلما توسعت في العصور التالية، بكثير من المعلومات وكثير من الشرح المبسط. الي جانب وضعه لتأريخ مفصل عن الأزهر الشريف وبناءه المعماري، والهدف من بنائه، وما كان يتم بداخله من مصادره المالية ووالوقفية - تدريس الفقه - والجراية أي توزيع الخبز، وأهميته العلمية والدينية. وقد أسماه أيضا "المعز" بالأزهر نسبة الي اسم السيدة "فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلي الله عليه وسلم" وزوجة الامام "علي بن أبي طالب" كرم الله وجهه.

في النهاية ذلك الكتاب وجبة تاريخية لكل ما يخص عواصم مصر الاسلامية بإسلوب السهل الممتنع، وكأن الكاتب يأخذك في رحلة من رحلاته حول معالم القاهرة، بشرح وافي وشامل وبسيط.

 مروة طلعت

8 / 2 / 2023

#عايمة_في_بحر_الكتب



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خماراويه

السلطانة شجر الدر 6

نشأة محمد علي باشا