كل أب وأم بيتمنوا لاولادهم امال كبيرة، وأكبر أمنية هي يكون حظهم ومستقبلهم احسن منهم. ويفضل الاب مربوط في ساقية عشان يحاول يخلي حياة ولاده أحسن واسهل واكتر رفاهية، ميشوفوش فيها التعب والشقا بنفس الدرجة اللي شافها، ودي غريزة طبيعية في مشاعر الاب ناحية أولاده. النهاردة هنتكلم عن حلم أب، وحلمه صبح حقيقة أكتر بكتير مما كان يتخيل.
العصر الذهبي "عصر هارون الرشيد"، درة العهد العباسي، ودرة الحضارة الاسلامية. "هارون الرشيد"عكس الصورة الجمعية المترسبة في العقول، كان من أقوي الخلفاء وأشدهم عزما وبأسا. وكانت الدولة الاسلامية في عهده مترامية الاطراف شرقا وغربا، ومن كتر اتساعها بص في مرة الي السحاب وهو ماشي، وقال جملته الشهيرة: "امطري حيث شئت فخراجك لي". وكان معروف ان "هارون الرشيد"، سنة يروح يحج وسنة يجاهد. وعلي جانب اخر كان "الرشيد" محب جدا للعلوم والفنون والاداب، نشطت في عهده حركة الترجمة والتبادل الثقافي والعلمي بين الأجناس الإسلامية، زي العرب والفرس والسند والبربر والترك وغيرهم، وبين المسلمين وغير المسلمين، خصوصا اليونان والهنود والصينيون وغيرهم. يعني عمل ربط حضاري وثقافي ونهضة علمية وعسكرية وثقافية فظيعة. حتي ان بغداد - عاصمة الخلافة العباسية - في عصره كانت مليانه بدكاكين الوراقين - دكاكين النساخين اللي لعبوا دور المطابع حاليا - جنب بعض وفي كل حتة، واقام الخليفة مشروع ثقافي عظيم، وهي جامعة "بيت الحكمة"، اللي عبارة عن جامعة ومعامل ومكتبات، مؤسسة علمية شاملة لكافة العلوم المختلفة، للدراسة والاختراع.
وفي عهد الخليفة "المأمون بن هارون الرشيد"، كمل مسيرة ابوه "هارون الرشيد" وأكتر. فكان الخليفة "المأمون" بيشجع العلم والعلماء، لدرجة انه كان بيدي مكافأة لكل عالم، بانه يديله وزن كتابه ذهب. ومكتبة "بيت الحكمة" في عهده بقي فيها أكبر مكتبات العالم، وعين لها أعظم المترجمين، وأرسل بعثاته العلمية لبلاد مختلفة لنسخ ما عند اليونانيين والبيزنطيين والسريان والهنود والفرس وغيرهم من العلوم الفلسفية والتجريبية، وعين فيها أكابر العلماء في عصره، في علوم الفلك والرياضيات والهندسة والطب وغيرها، وأغدق عليهم وعلى البحث العلمي ثروة هائلة، واللي خلت الحضارة الاسلامية هي رائدة العلوم، وأساس الحضارات الغربية.
في الوقت ده برز اسم عالم فلك نابغة ومتميز اسمه "موسي بن شاكر الخراساني". الحقيقة ان حكاية "موسي" كانت حكاية غريبة جدا. يقال ان "موسي بم شاكر" في شبابه كان قاطع طريق، واخد السرقة والاغارة علي القوافل مهنة. لحد ما ربنا رزقه ب 3 اولاد "محمد والحسن وأحمد". هنا بيبص الاب لأولاده، ويرفض فكرة انهم يكونوا زيه. كان ممكن يبعد اسرته عنه في بلد تانية ويجيلهم زيارات ويقولك منا بسرق لمين ما هو عشانهم، المهم لابسين ومش جعانين ومش ناقصهم حاجة. لكن "موسي" فكر في بعد تاني، فكر انهم غرسه، وطول ماهو بيسيقه من مال حرام هيطلعوا غصب عنه ولاد حرام، وهنا اخد الخطوة الصح وبدأ من نفسه. تاب "موسي" وغير من نفسه وحياته، وهرب بأسرته بعيد علي بغداد، ورجع شغفه القديم اللي طمسه، حب علوم الفلك. وهناك قرا واتعلم وعرف واشتغل علي نفسه، لحد ما حط نفسه بين علماء "بيت الحكمة". ومش كده وبس ده من نبوغه واكتشافاته لفت نظر الخليفة "المأمون" شخصيا، لدرجة ان "المأمون" انتدبه في بعثة إلى منطقة سنجار، لقياس محيط الأرض. راح "موسي بن شاكر" واخد معاه ولاده التلاتة اللي كانوا لسه أطفال. وبعد حساب طويل ودقيق توصلت بعثة "موسى" إلى أن المسافة تساوي ⅔66 ميلاً عربياً ( يساوي 1973.2 متراً)، وده معناه ان مدار الارض يساوي 47.356 كيلومتر. النتيجة دي كانت قريبة من الرقم الصحيح، لأن مدار الأرض الفعلي اللي اكتشفته العلوم الحديثة يساوي 40.000 كيلو متر تقريبا. ومن بعدها أصبح "موسي بن شاكر" مقرب شخصي للخليفة "المأمون"، ولشهرته في مجال الجداول الفلكية ومواقع النجوم، عينه "المأمون" عالم فلكي في بلاطه الشخصي، وسمح له ببناء مرصد كبير على جسر بغداد ساعده فيه أولاده الثلاثة "محمد والحسن وأحمد"، فسجلوا أرصادهم اللي كانت اكثر دقة من رصد "بطليموس" ومن بعده من علماء الفلك والرياضيات من اليونان وغيرهم. وبعد فترة بيمرض "موسي بن شاكر" مرض الموت، وبيطلب يشوف الخليفة "المأمون"، ويوصيه علي ولاده اللي كانوا لسه أطفال.
الخليفة "المأمون" صان الوصية، بعد موت "موسي بن شاكر"، أخد ال 3 أولاد وخلاهم تحت وصاية والي بغداد "إسحاق بن إبراهيم المصعبي"، وشدد عليه برعايتهم رعاية أحسن من ولاده، فقال فيهم "اسحاق": "جعلني المأمون دايةً لأولاد موسى بن شاكر".
ادخلهم "اسحاق بن ابراهيم" مؤسسة "بيت الحكمة" تحت إشراف أحد مشاهير علماء الفلك في ذلك العصر، "يحيى بن أبي منصور" كطلاب علم، وكان "الخليفة المأمون" بيتابع أخبارهم كل شوية، ويسأل عنهم، ويطمئن على أمورهم، حتى لو مسافر أو في غزوة في بلاد الروم، فكان "بنو موسي بن شاكر" أول أسرة علمية تتبناها الدولة في تاريخ الإسلام.
وفي "بيت الحكمة" بيتحقق حلم "موسي بن شاكر" في اولاده، نبغوا في علوم الفلك والرياضيات والهندسة وعلم الحيل - الميكانيكا - وكان نقطة تميزهم واختلافهم عن الاخرين وقوتهم هو تعاونهم واتحادهم مع بعض. شكلوا "بنو موسي بن شاكر" التلاتة مع بعض فريق علمي او بمعني أدق جيش علمي جبار، عن طريق تكاملهم. "بنو موسي بن شاكر"، ورثوا مبلغ كبير، طبعا "المأمون" كان علي طول بيكافئ أبوهم بالذهب، فسخروا فلوسهم وورثهم كله للعلم، و"المأمون" برده مقصرش معاهم. فكانوا بيبعتوا رسل علي نفقتهم الخاصة للامبراطورية البيزنطية واليونان، تبحث عن المخطوطات الفلكية والرياضية، ويدفعوا فيها مبالغ مهولة، ويجيبوها في قصرهم، اللي كان مليان مترجمين بيدفعولهم احسن من فلوس الخليفة، شغلتهم يترجموا المخطوطات دي للعربية، وهم ياخدوا المترجمات دي يدرسوها وينقحوها ويجربوا اللي فيها ويعدلوا في اخطاءها ومنها يطلعوا باكتشافات جديدة.
كان من ضمن اختراعات "بنو موسى بن شاكر" عن طريق اعتمادهم على علوم الرياضيات والميكانيكا ما يمكن تسميته بـ"الخطّاف الآلي" لاستخراج محار اللؤلؤ من البحار، أو لانتشال الأشياء الغارقة في قيعان الأنهار والبحار وأجواف الآبار. واخترغوا آلة رصد فلكي ضخمة تشتغل بقوة دفع مائية، مهمتها تبين كل النجوم في السما وتعكسها علي مراية كبيرة، واذا ظهر نجم أو شهاب، الآلة ترصده اوتوماتيك وتسجله، يعني يعتبر ده أول روبوت في التاريخ. واخترعوا الآلات الزراعية والنوافير والمرشات، واخترعوا ما يشبه بالحنفيات المنزلية. واخترعوا آلة موسيقية بالغة التعقيد بتشتغل تشغيل ذاتي، بتشتغل بالتروس وأذرع التدوير والصمامات وأشكال مختلفة من الروافع، وعملوه بجسم عازف مزمار، حاجة كده زي راقصة البالية في العلب الموسيقية.
أما عن درة أعمال "بنو موسي بن شاكر" كان كتاب "كتاب الحيل"، اللي اتذكر فيه طريقة صنع اختراعاتهم ميكانيكيا، وسجل اسمهم في التاريخ. وقد حولوا قصرهم إلى واحد من أهم مراكز العلوم في العالم الإسلامي، وهو القصر اللي أهداه ليهم الخليفة العباسي "المتوكل" حفيد "هارون الرشيد" قريب من قصره في سامراء، واهتموا بتبني المواهب الشابة والعمل على تشجيعها، وكان الاهتمام بالعلم والبحث العلمي ده أدي الي ابتكارات واختراعات مهمة في علوم الميكانيكا التطبيقية، وترجموا عدد ضخم من الكتب في مجالات الفلك والرياضيات والطب.
توفي "بنو موسي بن شاكر" في أواخر القرن التاسع الميلادي، بعد حياة حافلة من الاختراعات والبحث العلمي. وتوثيق لتوبة وحلم وعزيمة "موسي بن شاكر"، فضل اولاده التلاتة يعملوا انجازاتهم مع بعض، ويوثقوها مش باسمائهم المنفردة ولكن باسم "بنو موسي بن شاكر"، وعاش اسم الأب بعمل أبنائه الي الأبد.
مروة طلعت
26 / 2 / 2023
#مروة_طلعت
#عايمة_في_بحر_الكتب
#بتاعة_حواديت_تاريخ
المصادر:-
خضر عطا الله - "بيت الحكمة في عصر العباسيين".
محمد أمين فرشوخ - "موسوعة عباقرة الإسلام" جزء 5.
علي عبد الله الدفاع - "بنو موسى بن شاكر".
القفطي - "إخبار العلماء بأخبار العلماء".
هيلة القصير - "أثر الفرق البحثية في تطور العلوم في الحضارة الإسلامية".
"بنو موسى وعلم الحيل" - مؤسسة الكويت للتقدم العلمي.
ابن أبي أصيبعة - "عيون الأنباء".
تعليقات
إرسال تعليق