الزيني بركات بن موسي
في رمضان 1995م، اتعرض مسلسل "الزيني بركات". رائعة جمال الغيطاني، ودور عمر "أحمد بدير". واللي اقدر اقول بقلب مستريح انه من افضل المسلسلات التاريخية اللي قدمتها الدراما المصرية. وبسبب المسلسل ده فضلت خايفة من اني اشوف "أحمد بدير"في اي عمل حتي لو كوميدي. ولما كبرت عرفت ان سبب خوفي ده هو نجاحه في تقديم "شخصية الزيني" بركات المعقدة والغامضة ببراعة.
معروف ان لكل عصر رجال، لكن فيه رجل واحد لكل العصور. اهو من ضمن رجال كل العصور دول كان "بركات بن موسي" المعروف ب "الزيني بركات". ومش بس كده ده "الزيني بركات" ده في حد ذاته فكرة، والفكرة لاتموت، تفضل تتجدد كده، كل ما تلاقيلها تربة خصبة شبيهة باللي افرزت "الزيني بركات" في كل زمان ومكان بأسماء مختلفة، لكنها نفس الفكرة. ولان التاريخ بيعيد نفسه، ولان آفة حارتنا النسيان، فما اكثر "الزيني بركات".
في القرن العاشر الهجري، وبالتحديد سنة 912 هجرية، 1506م، كانت مصر تسطر اخر أيام دولة المماليك. فالايام دول، تبتدي بقوة وتنتهي بضعف ثم زوال. اهو احنا هنا في ايام الضعف اللي سابقة الزوال. المماليك مش هاممها حاجة غير كروشها وبغددتها، علي حساب المصريين الحفاه العراه، واللي جلدهم اتشقق من كتر ضرب السياط، عشان يسددوا الضرايب وهم سادين بقهم.
المماليك في الوقت ده عملوا اول نظام مخابراتي في مصر، وسموه جهاز البصاصين، واللي مندرج تحت نظام الحسبة. البصاصين عبارة عن عيون وآذان السلطان، في كل شارع وحارة ومحل ودكان وفي كل مهنة ووظيفة. بينقلوا كل همسه وكل نفس بيتنفسه اي حد لكبير البصاصين. ومش بس بياخدوا من الناس الكلام ويودوه لكبير البصاصين، ده كمان بياخدوا الاشاعات والاكاذيب اللي كبير البصاصين عاوز يروجها بين الناس، وينشروها والناس بجهلهم تصدق وتصقف وتكبر. يعني كبير البصاصين في ايده الرأي العام يوجهه للناحية اللي عاوزها في خدمة السلطان، او في خدمة اللي يدفع اكتر من امراء المماليك لو حبوا يقلبوا علي السلطان. المفروض ان البصاصين دول تابعين للمحتسب، بس كبير البصاصين بالجنود اللي في ايده اخطر من المحتسب ومن السلطان ذات نفسه.
"بركات بن موسي" كان واحد من البصاصين، رفيعي المستوي. كان شخصية طيبة كده وسهتانة، ومطيع بيعرف ازاي ياكل لحم الكتوف. فضل يدحلب كده ويمسح كوخ لكبير البصاصين لحد ما اترقي لمرتبة مقربة من السلطان "الغوري"، سلطان مصر والمماليك في الوقت ده. لحد ما نال الرضا السامي، لما قلب السلطان "الغوري" علي محتسبه "علي بن أبي الجود"، وقرر عزله من منصبه وسجنه ومصادرة قصوره وأمواله. ومن شدة ما السلطان شايف ان "بركات بن موسي" مخلص اداله منصب المحتسب بدل "علي بن أبي الجود". لكن "بركات" رفض، وقاله انا هدفي رضاك ومش عاوز اي مناصب. وفضل السلطان "الغوري" يبعتله و "بركات" يعتذر. لحد ما مراد "بركات" اتحقق، في ان الناس عرفت كثرة الحاح السلطان عليه بالمنصب و"بركات" يعتذر عشان تدينه وخوفه من ربنا يمنعه انه يكون في منصب ممكن يظلم حد فيه، و"بركات" الورع بيخاف من حساب ربنا. والناس مصدقت حد يكون متدين كدع ويخاف ربنا بالشكل ده، فخرجوا بقي يقولوا اسم الله عليه اسم الله عليه. ولما الناس هتفوا باسمه في الشوارع قبل اخيرا "بركات" المنصب وهو ياعيني مضرر ومغصوب. وولاه السلطان "الغوري" منصب المحتسب، في حضور الشيخ "أبو السعود الجارحي" وده كان من علماء المسلمين الاجلاء واللي كان له احترامه الكبير هند الناس، وده معناه ان "بركات" لعبها صح، والكل كالها حتي العلماء. واخلع السلطان عليه لقب "الزيني"، دليل علي زينة اخلاقه العالية.
مين بقي كان قاعد بيتفرج، ومكلش معاه الحركات دي، عشان مبروم غلي مبروم مايرولش. ايوه برافو عليك، كبير البصاصين "زكريا بن راضي". ومن هنا ابتدي الصراع وحرب الدسائس بين قوتين كل منهم اشد من التانية "الزيني بركات" و "زكريا بن راضي".
اول ما تولي "الزيني بركات" منصبه، بدأ يعمل مشاريع جديدة علي الناس، عشان يبهرهم زيادة، واللي كان منها تعليق فوانيس في الشوارع عشان ينورها بالليل. وفتح بيته لتلقي المظالم، والغي الضريبة، ورفع الاحتكار عن بعض السلع. "زكريا بن راضي" يسكت، لا طبعا. صلط بصاصينه ووقع بين أميرين محتكرين السوق، عشان تضطرب الامور، وتسود الفوضي في الاسواق. ومن ناحية تانية، سلط بصاصينه عل الناس والمشايخ يقنعوهم، ان الفوانيس دي بدعة غرضها هتك ستر الستات في بيوتهم. واشتغلت الحرب الباردة من تحت الترابيزة بين الاتنين وكانت الجولات مابينهم هات وخد. هنا بقي قرر "الزيني بركات" يعمله جهاز بصاصين خاص بيه نقاهم ع الفرازة، عشان يضرب في جهاز "زكريا بن راضي".
الحقيقة "الزيني بركات" كان بيظهر اخلاصه زيادة عن اللزوم للسلطان "الغوري". فمثلا مرة طلع السلطان "الغوري" برة القاهرة يصطاد، ففسدت قرب المية اللي كانت معاه، فبعت ل "الزيني بركات" يقوله يبعتله قرب مية بدالهم عادي يعني. راح "الزيني بركات" يعملك ايه بقي؟، اعتقل 120 جمل بقربهم بالسقايين، فلما باقي السقايين شافوا كده اترعبوا وقالوا ده فيها اعدام باين، وخدوا ديلهم في سنانهم وطاروا برا القاهرة. و"الزيني بركات" بعت اللي اعتقلهم دول للسلطان، وكانت النتيجة انه اتسبب في تعطيش القاهرة كلها لمدة 4 ايام.
لحد ما جه اليوم اللي أمر السلطان باستجواب المحتسب السابق "علي بن أبي الجود" عن مكان فلوسه ومجوهراته. لكن "علي بن أبي الجود" بما انه واكل معاهم في طبق واحد، كان عارف انه بمجرد ما يقر بمكانهم هيقتلوه. وعليه فضل مستحمل التعذيب وكاتم بقه، مش راضي يعترف. راح السلطان "الغوري" باعت لمحتسبه المطيع المحب المخلص "الزيني بركات"، وقاله هاتلي اعتراف من "علي بن أبي الجود" بمكان خزاينه. طبعا "بركات" طاطي راسه وقال والدمعة هتفر من عينه خدامك يا مولاي ورهن اشارتك عمري كله فداك. وجري "بركات" علي زنزانة "علي بن أبي الجود"، وشاف ان التعذيب العادي مش مأثر فيه، وجاتله الفكرة. بعت لكبير البصاصين "زكريا بن راضي" يطلب منه التعاون في المهمة دي، ولما "زكريا" عصلج، "الزيني بركات" قاله بأمارة الغلام بتاعك اللي قتلته وانا مقلتش عليه للسلطان. طبعا ده كانت حركة لوي دراع، ادت لقبول "زكريا بن راضي" التعاون مع "الزيني بركات"
عارف انت فيديوهات الصينيين لما يحبوا يعاقبوا عيالهم يجيبوا دبدوب يضربوه قصادهم فالطفل يخاف، طلع براءة الاختراع ده كان في الاصل من "الزيني بركات". بس بدل الدبدوب "بركات" كان بيجرره فلاح او اتنين كده، ساقهم الحظ الاسود تحت ايديه، ويفضل يضرب ويعذب في الفلاحين دول بأسوء انواع العذاب اللي سمعت عنها او اللي لسه متخطرش في خيالك، قصاد "علي بن أبي الجود"، لدرجة انه جاب حدوتين حصان حماهم علي النار لحد ما بقوا جمر، وجابهم ودقهم في كعب واحد من الفلاحين. ومن شدة الصراخ كان "بن أبي الجود" بيغمض عينيه وهو متكتف، يجي سلومة الاقرع من وراه رازعه بالقفا عشان يفتح ويشوف. وفي الاخر قطع "بركات" راس 3 فلاحين وربطهم في رقبة "ابن أبي الجود". وبعد 7 ايام، معرفش قدر يستحملهم ازاي، انهارت اعصاب "بن ابي الجود" وقرر ان الموت ارحم بكتير، واعترف بمكان فلوسه وخزاينه، وزي ما اتوقع اول ما حطوا ايديهم علي الفلوس، شنقوه علي باب زويلة.
التعاون بين "الزيني بركات" و "زكريا بن راضي" كان وبال علي راس المصريين، فكان في اختلافهم رحمه، وتعاونهم جحيم. زادت الضرايب والمكوس والاتاوات ومن غير علم السلطان. وزاد الظلم والجور علي الناس. تخيل بقي لما يتعاونوا جهازين بصاصين مع بعض تحت قبادة عقلين شياطين، ايه اللي ممكن يحصل.حصروا أعداد الناس وعدوا انفاسهم، وفرضوا علي كل حاجة ضريبة. واللي يتكلم، اهي المشانق موجودة والتهم مرصوصة، والبلد بلدنا والدفاتر دفاترنا. وفضل الضغط ده والحصار علي الفلاحين وصغار التجار، انما الكبرات أدام بيدفعوا كويس والمصالح متصالحة فالقانون طبعا ميمشيش عليهم.
في الوقت ده ظهر العثمانيين علي الساحة، وخرح السلطان "الغوري" برا مصر يحاربهم. وساب مكانه علي مصر ابن اخوه "طومان باي". واخد "الزيني بركات" علي عاتقه مهمة ملاحقة اي حد يظهر عليه بوادر انتماء للعثمانيين وعلي طول يخوزقهم. لحد ما ظهر اصوات ادانه للسلطان "الغوري" اللي خربها وقعد علي تلها، وهنا "الزيني بركات" و"زكريا بن راضي" اطلقوا بصاصينهم في كل حتة لحد ما عرفوا المصدر وكان "بدر الدين مزهر". فأمر "السلطان الغوري" توكيل امر "بدر الدين مزهر" ل "بركات"، عشان عارف "بركات" هيعمل فيه ايه، فحرق "بركات" صوابعه بكماشة حديد، وقطع حلمات صدره واكلهاله، وماسابوش الا لما عينيه خرجت من وشه من كتر التعذيب.
لما اتقتل السلطان "الغوري" في معركة "مرج دابق" علي ايد السلطان"سليم الاول" سنة 1516م، وبعدها بسنة استشهاد "طومان باي". سقطت الدولة المملوكية وابتدا عصر الدولة العثمانية. هنا "الزيني بركات" اختفي فترة. وزي ما اختفي فجأة برده ظهر فجأة، لا وايه شوف حكمة ربنا يا مؤمن، ظهر في منتصب المحتسب برده زي ما هو. ايه الكلام ده.
ماهو "الزيني بركات" ياسادة كان جاسوس، اه وعهد الله، الراجل اللي كان بيخزوق اي حد يشك في ولاءه للعثمانيين، هو نفسه كان اكبر جواسيس العثمانيين، وادي مهمته علي اكمل وجه.
الحقيقة ان شخصية "الزيني بركات" كانت منسية ومتذكرتش غير في كتاب ابن اياس تقريبا. ويرجع الفضل للكاتب الصحفي المؤرخ "جمال الغيطاني" بتسليط الضوء عليه مرة تانية في رائعته الخالدة "الزيني بركات".
مروة طلعت
8 / 1 / 2023
#عايمة_في_بحر_الكتب
المصادر:
"بدائع الزهور في وقائع الدهور" الجزء الرابع - ابن اياس.
"الزيني بركات ليس بطلا" - محمد محمود عوض الله - مجلة دنيا الرأي 5/2008
"الزيني بركات" - جمال الغيطاني.
تعليقات
إرسال تعليق