رابعة العدوية

 فيلم رابعة العدوية واحد من كلاسيكيات السينما المصرية، بس للأسف الفيلم شوه صورة الناسكة العابدة رابعة العدوية بشكل غريب، مش لاقية ليه تفسير الحقيقة. رابعة العدوية الحقيقية مكنش ليها حياة اولي ولا حياة تانية. يعني لا كان فيه عماد حمدي ولا فريد شوقي ولا حتي حسين رياض. 

سنة 717م في مدينة البصرة - بالعراق - كان فيه راجل فقير جدا اسمه "اسماعيل العدوي" وهو من بني عدوة، عنده مركب صغير بيستخدمها كمعدية للناس بين الشطين في النهر. في السنة دي ربنا رزقه ببنت، ودي كانت رابع بنت ليه من غير ولد. طبعا راجل في وضعه المالي وشغلانته المهلكة صحيا، كان يتمني يجيله ولد يساعده ويشيل الحمل معاه. لكن ربنا مأردش واداله اربع بنات، ولانه كان راجل صالح ومتعبد، سلم امره لله ورضي بنصيبه وقضاء الله. وليلة مولد بنته نام "اسماعيل" فشاف في المنام رسول الله صلي الله عليه وسلم بيقوله: " لا تحزن؛ فهذه الوليدة سيدة جليلة". قام "اسماعيل" من النوم وهو مستبشر، وسمي بنته "رابعة" علي اساس ان ترتيبها بين اخواتها الرابعة. وفعلا بعد ميلاد "رابعة" الرزق زاد، والدنيا اتيسرت للاحسن علي اسرة "أسماعيل العدوي"، وعشان كده اطلق علي الوليدة لقب "أم الخير".

"اسماعيل العدوي" كان راجل متعبد يميل للصوفية، فاهتم بتربية بناته وتنشأتهم نشأة اسلامية متدينة، رباهم علي الصوفية المتمثلة في حب الله الخالص، الحب اللي مبيقيدوش اي رغبة غير حب الله وحده. فحفظت "رابعة" في سن صغيرة القرآن الكريم كله، وقرأت وتعلمت الحديث، وحافظت علي صلاتها وتعبدها من نعومة اظافرها. 

ولاننا في الدنيا دار ابتلاء، فكان دوام الحال من المحال. فجأة بيموت "اسماعيل العدوي"، ورابعة كانت مكملتش 10 سنين. ومن وراه بفترة بسيطة جدا بتموت كمان الأم. وبين ليلة وضحاها، تلقي نفسها "رابعة" واخواتها البنات لوحدهم من غير اب ولا ام ولا معين ولا سند غير الله. ومن هنا بيحاولوا البنات، يكفوا نفسهم ويمشوا مركب ابوهم زي مكانت معدية للناس، عشان يعرفوا يعيشوا حتي علي الكفاف. لكن برده اتت الريح بما لا تشتهي السفن، وحصل جفاف للنهر ومجاعة. 

ووقت المجاعات بتحصل هجرة اشبه للهروب من الجوع، فهاجرت البنات من البصرة. وعشان صغر سنهم ووحدتهم، اتاخدوا بين رجلين الهاربين، واتفرقوا عن بعض للأبد. وتلاقي "رابعة" الطفلة صاحبة ال 10 سنين نفسها لوحدها تماما، وفي الصحرا وارض غريبة، مش معاها غير ربنا تستمد امانها منه وهي بتدعوه وبتناجيه. 

في المجاعات زي ما افرزت الهاربين، بيتفرز برده اللصوص وقطاعين الطرق. وكانت "رابعة" الطفلة الوحيدة التايهة صيد سهل. واتخطفت "رابعة" واتباعت في سوق العبيد لتاجر ب 6 دراهم بس. التاجر اخدها تشتغل خدامة عنده، وكان قاسي القلب، فضلت عنده سنين موريها العذاب الوان. بيأمرها تشتغل فوق طاقتها، وبأقل غلطة تعملها بتنال نصيبها من الضرب اوالحرق اوالتجويع او النوم في العراء. لكنها كانت بتستعين بالصبر والصلاة علي تحمل العذاب وتشتكي لله في صلاتها وسجودها ودموعها مغرقة دماغها كلها.

وفي يوم بيصحي التاجر من نومه في عز الليل بالصدفة. فبيسمع صوت "رابعة" وهي بتصلي قيام الليل وبتناجي ربها، وبتقول: "إلهي أنت تعلم أن قلبي يتمنى طاعتك، ونور عيني في خدمتك، ولو كان الأمر بيدي لما انقطعت لحظة عن مناجاتك، ولكنك تركتني تحت رحمة هذا المخلوق القاسي من عبادك". واللي ملا قلبه القاسي من الرعب انه شاف فوق راسها وهي بتصلي قنديل منور في الهوا. فضل التاجر طول الليل سهران مش عارف ينام من اللي شافه واتأكد ان البنت دي فيها شئ لله واكيد دعوتها مستجابة. ولما طلع الصبح، بعتلها وقالها: "أي رابعة وهبتك الحرية، فإن شئت بقيت ونحن جميعًا في خدمتك، وإن شئت رحلت أنى رغبت". وبتختار "رابعة" الرحيل، وبتخرج اخيرا من بيت التاجر وهي عندها 14 سنة، بعد ما نالت حريتها مرة تانية.

لجأت "رابعة" لبيوت التعبد الصوفية، واشتغلت في حلقات الذكر الصوفية، تعزف علي الناي وتنشد الاناشيد الصوفية. لكن المرحلة دي مستمرتش كتير في حياة "رابعة". في الوقت ده اتقدملها للزواج عرسان كتير، لكنها رفضتهم كلهم، سيطر عليها تنشأتها علي حب الله النازعة لكل الشهوات والرغبات، فاختارت الخلاء بنفسها للتعبد. 

خرجت "رابعة" للصحرا في البصرة، وعاشت فيها زاهدة معتكفة، وعملت لنفسها بيت مفيهوش الا حصير للصلاة والنوم وقلة للشرب وطبق فخار للأكل القليل وشماعة من القصب، وكانت محتفظة بكفنها دائما في بيتها استعداد للقاء من احبت وعبدت. يعني حياة اقرب لحياة الرهبنة. وطلع وقتها كلام كتير عن كرامات رابعة وانها من اولياء الله الصالحين، وان دعوتها مستجابة لا ترد. وطبعا علي سمعتها دي اتكاتروا الناس حواليها واصبح ليها مريدين، بيقلدوا طريقتها في التعبد. منهم كان مالك بن دينار، والزاهد رباح القيسى، والمحدث سفيان الثورى، والمتصوف شفيق البلخي.

ومن ضمن حكاياتها ان في مرة جالها واحد يطلب منها تدعيله، فقالتله: "من أنا يرحمك الله؟ أطع ربك وادعه فإنه يجيب دعوة المضطر". ومرة بعتلها واحد من الاعيان يطلبها للزواج، فردت عليه برسالة كتبت فيها: "أما بعد فإن الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن، وإن الرغبة فيها تورث الهم والحزن.. فما يسرني أن الله خولني أضعاف ما خولك فيشغلني بك عنه طرفة عين والسلام". ومن وصاياها: "اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم".

في سنة 797م، رحلت "رابعة" للقاء ربها، ذلك اللقاء اللي اشتاقت اليه سنين طويلة. فكان عمرها 80 سنة وقت وفاتها. ودفنت في البصرة.

مروة طلعت

5 / 1 / 2023

#عايمة_في_بحر_الكتب

المصادر:-

"تذكرة الاولياء" - فريد الدين العطار

"رابعة العدوية والحياة الروحية في الاسلام" - طه عبد الباقي سرور

"دائرة المعارف الاسلامية" المجلد 9 العدد 11

"وفيات الاعيان" - ابن خلكان

"معجم البلدان" - ياقوت الحموي

"شهيدة العشق الالهي رابعة العدوية" - عبد الرحمن بدوي

"طبقات الصوفية" - عبد الرؤوف المناوي






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خماراويه

السلطانة شجر الدر 6

نشأة محمد علي باشا