تحتمس الثالث
عارف ان في أيام أجدادنا قدماء المصريين كان فيه معركة عظيمة، اتسجلت بسطور من دهب في صفحات التاريخ، ولسه لحد النهاردة خطتها بتدرس في الكليات الحربية في العالم. المعركة دي معركة مجدو واللي كان قائدها الملك "تحتمس الثالث".
"تحتمس الثالث" أطلق عليه الباحثين والمؤرخين لقب "نابليون مصر القديمة". بس المفروض ان "نابليون" هو اللي يتسمي "تحتمس الثالث فرنسا"، وده لأن "نابليون" اتعلم من خطط حروب "تحتمس الثالث"، وكمان "نابليون" اتهزم في اخر حياته انما "تحتمس الثالث" منهزمش ولا مرة في 16 حملة عسكرية حتي مماته. وقدر انه يعمل امبراطورية مصرية، وصلت لأقصي اتساعها شرقا وجنوبا، في عهده لا ملك قبله عملها ولا بعده. عشان كده اعتبروه المؤرخين واحد من الأباطرة، مكنش ملك عادي ده كان امبراطور لإمبراطورية عظيمة. وفضل المثل الأعلي لأسرة الرعامسة من بعده، بس برده محدش قدر يحقق المجد اللي حققه "تحتمس الثالث".
المثير بقي ان "تحتمس الثالث" الامبراطور العظيم ده عاش أيام طفولته وبداية شبابه في الظل، واقف بيتفرج علي عرشه المسلوب منه في صمت. عاوز تفهم أصل الكلام ده ايه، تعالي هنا واهنا هحكيلك من البداية.
هنرجع بالزمن لعصر جده "تحتمس الاول" واللي كان له ابنة شرعية واحدة واحدة اللي هي "حتشبسوت". فلما مات سنة 1493 ق.م ، كان من الطبيعي تكون هي خليفته علي العرش، لكن بروتوكولات الحكم كانت بتمنع تولي النساء العرش. وعليه اضطرت "حتشبسوت" انها تجيب أخوها غير الشرعي "تحتمس الثاني" تتجوزه وتديله العرش. "حتشبسوت" كانت امرأة ذكية وقوية جدا، كانت عارفة ان "تحتمس الثاني" شخصيته ضعيفة، وملوش في الحكم والسياسة زيها اللي اتربت جوا دهاليز الحكم، لان والدها "تحتمس الاول" كان بيأهلها تكون خليفته عشان لمس فيها الذكاء والحكمة وحسن التدبير. حكمت "حتشبسوت" مصر زي ما والدها كان عاوز بس بلسان زوجها "تحتمس الثاني"، اللي مكنش بيدي قرار الا لما يشاوها ويرجعلها الاول. مرت الايام و"حتشبسوت" بتخلف بنات اللي طبعا ملهمش نصيب في العرش. لكن "تحتمس الثاني" انجب ولد من محظية من محظياته ابن غير شرعي زيه وهو "تحتمس الثالث".
لما لقت "حتشبسوت" نفسها بتخلف البنات ومفيش أمل انها تجيب ولي العهد، وان "تحتمس الثالث" غصب عنها هو ولي العهد. اخدته وادته لكهنة معبد أمون، بحجة انهم ينشأوه تنشأة سليمة، واهو تبعده عن القصر. لكن الكهنة فعلا انشأوه التنشأة السليمة، وطلع واخد من عمته "حتشبسوت" كل صفاتها من الذكاء والقوة والحكمة وكمان سياسة النفس الطويل في الصبر، لكن كان فيه اختلافات مابينهم هنقولها بعدين. وفوق ده كله، خدمته "حتشبسوت" في انه اتعلم الأساليب الحربية والفروسية والقتال جوا جدران المعبد من وهو لسه طفل.
في سنة 1481ق.م توفي الملك "تحتمس الثاني"، وولي عهده "تحتمس الثالث" كان لسه طفل. وطبعا "حتشبسوت" استغلت الموقف وخلت نفسها الوصية علي عرش "تحتمس الثالث". بس مقعدش في المنصب ده كتير، محستش انها مرتاحة فيه، وبعلاقاتها واتصالاتها مع الكهنة وغيرهم من السياسيين اللي وطدتها في سنين حكمها مع "تحتمس الثاني"، قدر تلغي الكلام ده خالص ونصبت نفسها الملك بذات نفسها، لتكون أول امرأة تحكم مصر بشكل رسمي سنة 1478 ق.م، وقدرت تستعيد حقها القديم في العرش. وكل ده ولسه "تحتمس الثالث" في معبد آمون بيتعلم وبيتدرب، كان لسه بيستوي ع الهادي.
طبعا "حتشبسوت" كانت ملكة عظيمة وحكيمة، لكن حكمتها دي كانت بتميل للسلام والهدوء والاستقرار. يعني اتجهت لربط أواصر محبة بينها وبين البلاد اللي حواليها في فلسطين والنوبة، وبعتت اول البعثات التجارية البحرية في التاريخ، وكانت لبلاد بونت وسواحل لبنان، وكانت صاحبة أول فكرة للتبادل التجاري الاستيراد والتصدير. وحكمت "حتشبسوت" مصر لمدة 20 سنة. لكن في آخر سنين حكمها "تحتمس الثالث" كان خلاص استوي، وبقي شاب قوي وله شخصية وهيبة، فأخدته "حتشبسوت" جنبها في القصر، لانها حست ان وجوده مهم في الفترة دي، يتعلم فيها السياسة زي ما اتعلم القتال، لانه وريث العرش الوحيد سواء شاءت أم أبت.
لكن في السنين اللي حكم فيها "تحتمس الثالث" جنب عمته "حتشبسوت" خلته اكتشف مصيبة كبيرة. سياسة "حتشبسوت" السلمية، علي اد ماهي وهبت مصر الاستقرار والرخاء والانجاز المعماري والتجاري، الا انها فتحت الباب للتمرد الخارجي. يعني البلاد اللي علي الحدود في آسيا، قالولك بقي ملكة مصر دي بتاعة سلام ومش هتعمل حاجة لو اخدنالنا حتت من حدودها، ونزحف شوية بشوية عليها، مش هتاخد بالها أصلا. لكن "تحتمس الثالث" اخد باله. وبعد ما خد باله فجأة بتموت "حتشبثوت" سنة 1458 ق.م، اه انا قاصدة أقول فجأة لان لحد الآن العلم الحديث مقدرش يجزم ايه هو السبب الرئيسي لموتها، ومن بعدها اتولي "تحتمس الثالث" عرش مصر رسميا.
ومن هنا اتغيرت سياسة مصر، من سلمية للي يرشنا بالمية نرشه بالدم، وده بقي كان الفرق الجوهري بين "حتشبسوت" و "تحتمس الثالث". في الوقت ده كان أمير قادش - علي الضفة الغربية من نهر العاصي في سوريا جنوب بحيرة حمص - متزعم حلف مكون من 22 جيش هدفهم الزحف علي مصر واستغلال التمردات اللي علي الحدود والقضاء علي الملك الشاب الجديد "تحتمس الثالث"، كان فاكره بقي لسه جديد ومش فاهم حاجة وعضمه طري.
في الفترة اللي حكم فيها "تحتمس الثالث" مع عمته "حتشبسوت" مصر، اهتم فيها بتدريبات الجيش جدا بأحدث الوسائل القتالية، ماهي لعبته واكتر حاجة بيفهم فيها. لدرجة انه استحدث أدوات القتال ودخل للجيش أسلحة جديدة مكنتش موجودة قبله زي العربة الحربية، وطور السهام والاقواس وخلاهم بعيدة المدي، وطور كمان الدروع خلاها صعبة الاختراق. وبني القلاع والتحصينات في كل مكان علي طول حدود مصر، يعني سن سنانه علي الآخر. لحد ما بلغه ان حلف الاعداء اتقدم وعسكر في مجدو - وهي مدينة كنعانية شمال فلسطين - "تحتمس الثالث" قالك وانا ليه افضل علي الحدود مستنيهم، الهجوم خير وسيلة للدفاع.
خرج "تحتمس الثالث" علي رأس جيشه سنة 1457 ق.م، من شرق الدلتا لحد ما وصل غزة في 10 أيام وبعد 11 يوم كمان وصل عند جبل الكرمل، وخيم معسكره، واجتمع بقادة جيشه، وبدأ يتناقشوا في الخطة. في الواقع كان الحلف معسكر في مدينة مجدو الحصينة، وكان فيه 3 طرق ممكن يوصل بيها "تحتمس الثالث" للمدينة، اتنين منهم طرق سهلة ومعقولة منطقيا للسير، والتالت كان ممر ديق جدا عامل زي شق التعبان ميمشيش غير واحد لوحده بالعرض ومستحيل منطقيا ان جيش بحاله يمشي فيه. وهنا قرر "تحتمس الثالث" القيام بمغامرة شجاعة يحسد عليها، قالك ده انا مش بس هروحلهم، لا وكمان هطلعلهم من طريق مستحيل يتوقعوه، انا محدش يتوقعني. واختار ممر "عارونا" الديق يمشوا فيه لمجدو. القادة كلهم انصدموا، ده اللي هو ازاي يعني، ده جيش يمشي فيه ازاي، هنمشي ورا بعض واحد واحد، هناخد وقت اطول، وماله المهم عنصر المفاجأة، طب والعجلات الحربية، بسيطة هنفكهها وهنشيل حتة حتة تحت باطنا واحنا ماشيين وادي اول عجلة في ايدي اهي، بس كده، بسيطة أهي أمال انت فاكر ايه.
وقد كان، "تحتمس الثالث" كان أول واحد معدي الممر وورا منه جيشه كله شايل اسلحته ومفكك العربات الحربية ماشي وراه في الممر واحد واحد. ومكتفاش بدوره كقائد لحد كده، ده اول ما خلص الممر فضل واقف علي صخرة عالية، مستني جنوده كلهم يعدي لحد أخر جندي اطمن عليه انه وصل بسلام. وبعد ما خلص الممر وقف الجنود يجمعوا عجلاتهم تاني، ولموا شملهم ورتبوا كتايبهم وفرقهم.
وفجأة لقي أمير قادش وحلفاؤه، الجيش المصري علي راسهم بقيادة "تحتمس الثالث" داخل عليهم علي عجلته الحربية، وفي ايده قوسه وسهامه اللي بتحصدعم زي الجراد، وبصرخته القتالية المرعبة اللي بيرددها وراه الجيش المصري العظيم، اللي خلعت قلوب اعدائهم من المفاجأة والرعب. وهنا ركب الحلف خبطت في بعضها، وجنود ال 22 جيش قامت تجري زي الفيران من الرعب، واللي اتنجي منهم جري واتحامي في قلعة مجدو. ووقف "تحتمس الثالث" محاصر أسوار قلعة مجدو 6 شهور. لحد ما قالوا حقي برقبتي واستسلموا ووقعت في ايد الجيش المصري.
الحقيقة ان "تحتمس الثالث" سابلنا حكاية معركة مجدو بتفاصيلها الدقيقة، وكل معاركه اللي بعد كده منحوته في معبد آمون رع بالكرنك في الاقصر. ف"تحتمس الثالث" مكتفاش بالنصر العظيم ده. كان هدفه تأمين مصر من كل خطر ممكن يحصل تاني مستقبلا، وعشان يبعت رسالة لكل العالم أن مصر في عهد "تحتمس الثالث" مش لقمة سهلة. يقول أحد المؤرخين: "لا توجد قوة في الأرض تستطيع ان تواجه الجيش المصري الذي نال تدريبا عسكريا فائقا وفاز بقيادة ملك عبقرى هو فرعون مصر العظيم تحتمس الثالث". فضل "تحتمس الثالث" ماشي في فتوحاته في قلب فلسطين وسوريا ولبنان، ووصلت حدود مصر في عهده الي الفرات في العراق شرقا وليبيا غربا وسواحل فينيقيا شمالا والجنوب وصل لحد الشلال الرابع للنيل في السودان. وعشان يضمن ولاء كل البلاد دي وطاعتهم، عمل خطة خدها منه اباطرة الرومان وبقوا ينفذوها بعدين، وهي انه ياخد من كل بلد فتحها واحد من ابناء حاكم البلد رهينة عنده، فرجع مصر معاه 36 طفل من ابناء حكام البلاد اللي فتحها، وأمر بتربيتهم تربية مصرية خالصة في معابد آمون عشان لما يكبروا ويرجعوا حكام لبلادهم يبقوا عندهم الولاء والانتماء والحب لمصر، خطة في منتهي الذكاء ونظرة مستقبلية صائبة. والخطة دي بان أثرها في تماسك الامبراطورية المصرية ونشر الثقافة المصرية خارجيا.
اما بقي سياسته تجاه عمته "حتشبسوت"، فعلي الرغم انها كانت السبب في تربيته وتقويمه اللي وصله للشخصية دي، الا انه مقدرش ينسي استيلاءها علي العرش منه. وكان علامات رفضه ل"حتشبسوت" انه قام بمحو الخراطيش اللي تحتوي علي اسمها في المعابد وحط مكانها اسمه واسم ابوه "تحتمس الثاني".
توفي "تحتمس الثالث" سنة 1425 ق.م ، بعد ما حكم مصر 54 سنة، وعمره كان 82 سنة. مفيش في تاريخ مصر ملك بكى عليه المصريون وحزنوا عليه حزن شديد زي اللي حصل مع وفاة "تحتمس الثالث"، وبعد وفاته أقيمت مراسم الحداد والدفن الملكية طلع فيها وراه كل المصريين يودعوه بالدموع والصراخ والعويل، وهي أضخم جنازة في التاريخ القديم ودفن في مقبرته في وادي الملوك. وتم العثور علي مومياؤه في خبية الدير البحري.
واتكررت تاني جنازته الملكية سنة 2021 في موكب المومياوات الملكية واللي كانت عربيته الملكية ورا عربية مومياء "حتشبسوت" الملكية برده.
مروة طلعت
19 / 1 / 2023
#عايمة_في_بحر_الكتب
المصادر:-
"موسوعة مصر القديمة الجزء الرابع" - سليم حسن.
"معالم تاريخ الشرق الأدني القديم" - محمد أبو المحاسن عصفور.
"تحتمس الثالث حياة وحروب أعظم ملوك مصر المحاربين" - ريتشارد أ جابرييل.
تعليقات
إرسال تعليق