شيخ العرب همام

في الليل وفي قهوة متحاوطة بالخص في قرية في صعيد مصر، قعد الرجالة يرتاحوا ويشربوا مع بعض الشاي ويتسامروا بعد يوم شقا طويل، دخل عليهم راجل طويل شايل ربابة، ضرب السلام وقعد في صدر المجلس، رفع ربابته علي حجره، وضرب بعصايتها علي أوتارها، وقال مواله بصوته الحزين. 

قوم ياهمام وإسعى وروح سنار

وإزرع وقوت عيالك

فرشوط قادت عليك نار
والبيه عدى وجالك

سكت ووقف عزف، وعينيه لفت علي القاعدين، وبعدين اتكلم بصوت جاي من زمان بعيد، وعصايته بتدبح في اوتار الربابة يخلي لكلامه موسيقي تصويرية بذبذبة ترقب مميزة.
قال الراوي يا سادة يا كرام، همام ولد يوسف، سيد الرجال، أشجع الشجعان، فارس الفرسان. بطل ما جابتوش ولادة، بس زي اي حكاية، الخيانة بتهد جبال، وبالذات لو الطعنة جت من القريب. في حكايتنا اتغلب همام، واللي غلبه المملوكي، بس المملوكي مات، واللي عاش همام.
حكايتنا عن شيخ العرب همام.
سيبنا بقي من مغني الربابة وتعالي هنا انا احكيلك من البداية. فاكر مسلسل ذئاب الجبل طبعا، تفتكر البدري بدار لما كان بيقول ده انا كبير هوارة بفخر كده. طلع كان عنده حق، هوارة دي تاريخ كبير وعظيم، يكفي بس ان كان كبيرها "شيخ العرب همام".
هوارة عبارة عن قبائل مش قبيلة واحدة، أصلهم كان من المغرب، هاجروا مع بني عبيد ودخلوا معاهم مصر أيام الخلافة الفاطمية. واستقروا في الصعيد وبالتحديد قنا. وعشان مصر أم الدنيا، فالأم دايما بتحضن اولادها لحد ما يبقوا روح واحدة. وده اللي حصل مع قبائل هوارة، اتعجنوا في تراب البلد لحد ما بقوا صعايدة مأصلين. مرت الايام والسنين والقرون، لحد ما نوصل لسنة 1709م، ودي السنة اللي ربنا رزق فيها "يوسف بن أحمد بن محمد بن همام إبن أبو صبيح" شيخ العرب وكبير هوارة، بابنه البكر "همام". ماهي القبائل كان كبيرها دايما يتسمي شيخ العرب.
في الوقت ده مصر كانت تابعة للخلافة العثمانية، والخلافة العثمانية كانت علي عكس الحكام والسلاطين اللي قبلهم. يعني كانت كل دولة بتقوم في مصر كانت بتحط فيها بصمتها، عاصمة جديدة مثلا او مشاريع اقتصادية او معمارية، تنعكش تخطيطات اللي قبلها وتحط التاتش بتاعها في تخطيط سيادي جديد، من ولاه أمور يكونوا تبع السلطان وبرؤيته. لكن العثمانيين ناس كانوا خلقهم ديق، هم دخلوا البلد سنة 1517م، وشنقوا "طومان باي" وقتلوا "قنصوه الغوري"، وقضوا علي المماليك بالاسم، وسابولهم الوضع علي ماهو عليه واقعيا، مش انتوا عارفين البلد وعارفين بتدور ازاي، خلاص زي الفل خليكوا بس ابقوا ابعتولنا المعلوم كل سنة باي. ايه ده بس كده، امال انت فاكر ايه.
وفضلت برده البلد تحت رحمة المماليك زي ماهم، وبدل ما كان الهم واحد بقوا همين، وبدل ما كان المعلوم واحد من لحم الغلابة، بقوا معلومين. ودخلت مصر في ثقب اسود من الظلم الجهل والفساد والمرض والتخلف والتدني الاخلاقي والفجور.

واقف في وش الرياح موقفش تجديفك.. لا الروح تعبت ولا كلت مجاديفك..

فرشوط محافظة قنا، اتولي فيها "همام بن يوسف" زعامة قبائل هوارة، بعد وفاة والده شيخ العرب "يوسف بن أحمد". كان دور شيخ العرب وسطهم زي كبير العيلة كده او كبير المجلس. يعني يحل خلافات او منازعات، ينظم حياة الناس بالعدل في الزارعة والتجارة، وكله بالاتفاق مع ولاه الامور المماليك عشان ياخدوا الشرعية منهم لازم طبعا يدفع المعلوم. جه شيخ العرب "همام" راجل عنده طموح، مكنش عاجبه حاله وحال الناس العايشين في الفقر والعوز وهم اصحاب الارض والخير. أنعم ربنا علي "همام" بالذكاء والحكمة والبصيرة وحسن التدبير. 

حالف تخلي الزمان يمشي علي كيفك...

"همام" قالك منا كده كده بدفع المعلوم، اهو نكبر المعلوم شويتين، بس مش في حجر المملوكي، في كرش العثمانلي علي طول. واتواصل "همام" مع الباب العالي مباشرة، وخد منه الشرعية بانه مش بس كبير هوارة وشيخ العرب، ده اداله صلاحيات بعمل ديوان رسمي للأراضي التابعة ليه، ويكون المتحكم في كل الداخل والخارج في الزراعة والتجارة، ويوردله بنفسه المعلوم من غير وساطة الملوكي او سيادته عليه. ايوه بقي هو ده الكلام. "همام" مكدبش خبر، وانشأ الديوان، وعشان الديوان ومصالحة في الحسابات، أنشأ الكتاتيب وعلم ولاد البلد القراءة والكتابة، واللي يفلح فيهم في القراية يشتغل في الديوان علي طول، واللي يفلح في الحساب يشتغل في عد أشولة الزرع واحصاء خير الارض ويحسب الداخل واللي طالع. وحط نظام أمني وغفر من اهل البلد. ونظام صيانة مستمرة لكل الترع والجسور اللي أنشأها، وكل ده طبعا عمل طفرة زراعية تجارية رهيبة.

نداهة ندهت لجيت نفسك نسيت أهلك ومشيت ورا حلم يستاهله ويستاهلك..

طموح "همام" وحلمه موقفش لحد كده. قالك هو ليه المملوكي مسيطر علينا ومتحكم فينا. عشان معاه سلاح ويقدر يقضي علينا، طيب ليه احنا كمان ميبقاش معانا السلاح ونقدر نقف في وشه وندافع عن ارضنا وعرضنا وشرفنا. ونادي "همام" علي كل شاب يقدر يشيل سلاح او حتي قاصر. ومن خلال علاقاته الطيبة ومعاملته الامينة الاصيلة، خلت المماليك المطاريد من عز المماليك الحكام يتحاموا فيه ويعيشوا تحت سلطانه، والمماليك دول عاشوا لحد ما تراب الارض برده عجنهم، واتجوزوا واتناسلوا من أهل البلد، حتي لغتهم وأخلاقم بقت زي أهل الصعيد. استغل هو بقي المماليك اللي عايشين تحت حمايته دول انهم يعلموا الصعايدة ازاي يصنعوا سلاح وازاي يشيلوه ويبارزوا زي الفرسان. ودي كانت بداية فكرة ارتباط الصعيدي بالسلاح. والفكرة أتت بثمارها وقدر "همام" في فترة قليلة يجمع حواليه جيش من الهوارة ومن المماليك اللي تحت حمايته. وبالجيش ده قدر "همام" يوسع دايرة نفوذه، ويدخل علي البلاد اللي جنبه، ميقدرش المماليك اللي فيها يقفوا قصاده فيهربوا، وفضل علي الحال ده، لحد ما دانت الصعيد كلها من المنيا لأسوان تحت حكمه، والعاصمة كانت بلده فرشوط.

قال عنه "الجبرتي": "الجناب الأجل والكهف الأظل الجليل المعظم والملاذ المفخم الأصيلي الملكي ملجأ الفقراء والأمراء ومحط رحال الفضلاء والكبراء شيخ العرب الأمير شرف الدولة همام بن يوسف بن أحمد بن همام بن صبيه بن سيبيه الهواري عظيم بلاد الصعيد ومن كان خيره وبره يعم القريب والبعيد".

كان مشهور عن "شيخ العرب همام" الجود والكرم، فكان الداخل لقلعة "همام" - اه كان باني بيت عظيم يشبه القلعة - يلاقي خدمة وضيافة تطير العقل، ينزل الفطار والغدا والعشا المفتخر والحلويات وكافة شئ من قبل حتي ما يطلبوا. وهو كمان ماشي ياخد معاه زيارة مفتخرة، ولو كان من الاعيان بياخد كمان فوقهم عبيد وجواري هدية. أما بالنسبة لأراضيه ومواشيه فكان عنده 12 الف تور ده للتسمين بس خلاف المعدين للحرس ودرس الغلال والطواحين والسواقي، غير طبعا الابقار والجواميس الحلابة. اما بالنسبة للغلال فكانت الغلال مرصوصة من كترها في الطل، واللي يشوفها من بعيد يفتكرها أرض زراعية مرتفعة، عشان الندي والمطر كان بينزل عليها فتطرح. وأراضي زراعة قصب السكر والتمر و انتاج السكر والعجوة بما لايعد ولا يحصي. الخير أنهار، كتير جدا ووافر، والناس عايشة في عز "همام" مبسوطة ومستكفية. وكان بيبعت خيره كمان لعلماء الدين في القاهرة، ولأولي الامر برده علي مبدأ تهادوا تحابوا. وكان "شيخ العرب همام" له مجلسه اليومي في الصباح يفتح بابه لكل الناس فقير او غني، قريب او غريب، كل من له حاجة يقابله شخصيا ويقضيهاله. وكان يقعد في المجلس ده جنبه فنجان فيه قطنة وماية ورد، عشان لو حد دخل عليه من الأجلاف، اللي حالتهم عدم وريحتهم يعني مش ولابد، يستمعله ويحلله مشكلته وبعد ما يمشي، يمسح بالقطنة دي مناخيره وعينيه، عشان يقدر يواصل للي بعده. وده ان دل علي ش فهو يدل علي ان بابه مكنش بيترد في وش حد مهما كانت حالته.

هو الزمن عمره مع حد إدي وخد ولا الزمن عمره مشي علي كيف حد..

فضلت الحياة مع "شيخ العرب همام" وردية، لحد ما ظهر "علي بك الكبير". "علي بك الكبير" ده كان مملوكي يشبه كتير ل"شيخ العرب همام"، من وجهة نظري هم الاتنين وجهين لعملة واحدة. كل منهم طموح، وعنده حلم وهدف، وكل منهم عنده الذكاء والاصرار انه يصر علي حلمه ويسعي انه يحققه. بس الفرق ان "شيخ العرب همام" فكر في بلده واهله، وعمل اللي عمله عشان يحافظ علي خيرهم وكرامتهم. لكن "علي بك الكبير" لا عنده أهل ولا عزوة يفكر فيها غير نفسه، ده مملوك ملوش جدر، كان طامح في مجده الشخصي ومن وراه الطوفان. ومن خلال الدسائس والخيانة والاغتيالات، قدر "علي بك الكبير" يستقل بحكم مصر. مين بقي اللي وقفله شوكة في حلقه مش قادر يبلع منه اللقمة. ايوه بالظبط "شيخ العرب همام" اللي اصلا نص مصر في جيبه. فبقي هدف "علي بك الكبير" الاكبر محي "شيخ العرب همام" من الوجود. بس ازاي وهو وسط عزوته وجيشه وأهل الصعيد كله يفدوه بالروح والدم، ودول عالم معندهمش ياما ارحميني.
 هنا بقي مكنش قصاد "علي بك الكبير" غير اللعبة اللي هو محترف فيها، وهي المؤامرات والدسائس. بعت ل "شيخ العرب همام" يطلب منه عقد اتفاق وصلح وفعلا وقع الاتنين علي معاهدة حماية مشتركة. وفي يوم بعت "علي بك الكبير" قاد قواته "محمد بك أبو الدهب" ل "شيخ العرب همام" يبلغه رسميا بتقليص حدود مملكته من المنيا لحد برديس شمال فرشوط بس. ويخسر كل الاراضي والبلاد من بعد برشوط لحد اسوان. والحقيقة ان "شيخ العرب همام" فكر في الموضوع كويس وبحكمة، فهو فهم ان "علي بك الكبير" بيجر شكله عشان يجره لحرب، و"همام" عارف كويس ان جيشه قادر علي حكم البلاد دي والسيطرة علي اي قلق بسيط من المماليك، لكنه ميقدرش يواجه جيش "علي بك الكبير" بتقله وكفاءته، ولو اعتمد علي جدعنة أهل الصعيد هتحصل مجزرة هو مش عاوزها تحصل. فوجئ "علي بك الكبير" بموافقة "شيخ العرب همام" وتقليص مملكته، والرد ده جنن "علي بك الكبير" لانه فوت عليه الفرصة وقفله علي مؤامرته.

راح باعت تاني "محمد بك أبو الدهب" يقوله بكل بجاحة ان "علي بك الكبير" موافق علي موافقتك بشرط تطرد المصريين كلهم من مملكتك. المصريين هنا يقصد بيهم المماليك، فحاجة في منتهي العبث حقيقي، لا المماليك مصريين، ولا "علي بك الكبير" مصري، وبيقلص حكم المصري في أرضه. المهم ان "شيخ العرب همام" تمالك أعصابه، ووازنها بحكمة وبصيرة لانه عارف نية "علي بك الكبير"، وبرده وافق. وراح جامع المماليك اللي عنده، وفهمهم الوضع واتفق معاهم انهم كلهم يخرجوا عصبه ويتجهوا سوا لأسيوط يسيطروا هناك عليها. وفعلا خرجوا مماليك همام لأسيوط وسيطروا عليها وهرب منها مماليك "علي بك الكبير" واتحصنوا بأسوار عالية، وبعتلهم "همام" مؤنة وسلاح كتير.

هنا اكتشف "علي بك الكبير" الخدعة وان "شيخ العرب همام" لعبها بصياعة. فبدل ما كان "همام" متكامل بقواته في حتة واحدة، ده فك نفسه لقوتين في منطقتين. فكر "علي بك الكبير" وقالك اضرب المربوط يخاف السايب، فبعت 3 جيوش علي أسيوط يسيطروا عليها، واهم مماليك زي بعض وفاهمين لعب بعض. وهناك سنة 1769م، دارت معركة رهيبة عند جبانة أسيوط، لكن للأسف انتصر فيها جيوش "علي بك الكبير"، وقضوا علي مماليك "همام".

"علي بك الكبير" كان عارف ان لقاء "شيخ العرب همام" وجيش هوارة وأهل الصعيد، مش هيكون سهل زي معركة أسيوط. فبعت ديله "محمد بك أبو الدهب" يلف حوالين "اسماعيل أبو عبد الله الهواري" ابن عم "همام" وجوز أخته واخو مراته ومستشاره الاول ودراعه اليمين. واخد بالك انت من صلة القرابة والنسب والدم. "اسماعيل" ده أقرب اقرباء "همام" صندوقه الاسود وكاتم سرع. وبدأ "محمد بك ابو الدهب" يلف حوالين "اسماعيل" ويوسوسله من جهاته الاربع، ويصغر "همام" في عينيه، ويطمعه في مكان "همام"، والدوي علي الودان أمر من السحر، خصوصا للي نفسه ضعيفة زي "اسماعيل" ميبنش للأسف غير في الشدائد. 

وقدر"علي بك الكبير" يجيب ل "شيخ العرب همام" الطعنة من قلب بيته، من جوا روحه، من دراعه اليمين ابن عمه صديق عمره ورفيق حياته "اسماعيل الهواري". وبسبب خيانة "اسماعيل" اللي نقل اوامر غلط لجنود "همام" الواثقين في كلام "اسماعيل" ثقتهم في "همام" نفسه، الجيش اتشتت واتفرط وانهزم هزيمة بشعة.

بعد الهزيمة هرب "شيخ العرب همام" من فرشوط، وفي اسنا مستحملش قلبه قهرة الخيانة ووجعها ومات يوم 7 ديسمبر 1769م عن عمر 60 سنة. واندفن في بلد اسمها "قمولة" بمركز قوص محافظة قنا، عليه رحمة الله.

هيه البطولة تعيِّش اسمك ولا البطولة إنك تعيش..
ياعم شوف لك دوا مِخالِف دوا الزمان ده. مابيداويش..

مروة طلعت

13 / 1 / 2023

#عايمة_في_بحر_الكتب

المصادر:-

"عجائب الآثار في التراجم والاخبار" الجزء الاول - عبد الرحمن الجبرتي

"الصعيد في عهد شيخ العرب همام" - د/ ليلي عبد اللطيف أحمد

"قراءة في وضوح البداهة" - د/ السيد نصر الدين السيد

"حواديت أهل المحروسة" - أحمد الصايغ

الأشعار لعبد الرحمن الابنودي.




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خماراويه

السلطانة شجر الدر 6

نشأة محمد علي باشا