أخناتون النبي المفقود
انتهيت من قراءة كتاب "النبي المفقود أخناتون" للكاتب "د. شريف شعبان" في طبعتها الاولي الصادرة عن دار الرواق بعدد صفحات 238 صفحة.
"أخناتون" ملك شاب من ملوك الاسره الثامنة عشر لمصر القديمة. ملك شاب حكم مصر سبعة عشر عام، احدث بها في سنوات حكمه القليلة، دويا هائلا، وتغيير جذري في العقائد والتقاليد. لك ان تتخيل ان ذلك الشاب الهادئ، المتأمل، المسالم، ضعيف البنيان، استطاع ان يحرك ثورة دينية فجرت كل العقائد المتأصلة في نفوس المصريين، ويواجه سلطة كهنة أمون التي كانت بمثابة رؤوس القوي، ويأمر بتوحيد الآلهة المتعددة في الميثولوجيا المصرية، الي اله واحد وهو آتون. ملك شاب ليس كمثل أجداده محاربا، ولكنه مختلف الفكر، صاحب فلسفة غريبة عن زمنه وشعبه، عاش غريب ومات غريب، ولكنه كان عائش في الحقيقة.
(منذ أن أسست الدنيا، فقد أنشأتها من أجل ابنك الذي نشأ من بدنك، ملك القطرين المصريين نفر خبر ورع أوان رع ابن رع، الذي يعيش من ماعت سيد التيجان، أخناتون، كبير في حياته، والملكة العظيمة، التي يحبها ملك القطرين، نفرتيتي، تبقي حية وشابة دائما وأبدا).
الحقيقة ان أخناتون سر كبير، غموضه ألهب حماس الباحثين، وشغل عقل الكثير، وغازل أقلام الكتاب وأصحاب الدراسات والنظريات، في محاولة لفهم ما الذي حدث هناك في تل العمارنة. من منا لم يسمع بأخناتون، حتي ولو لم تعرفه بالتأكيد شاهدت او قرأت شيئا عنه او أضعف الايمان سمعت اسمه عابرا. لم يعرف التاريخ كله رجل أثار حوله كل هذا الجدل، ظهرت العديد من الدراسات والتكهنات والابحاث والدراسات التي تدور كلها حول سؤال واحد، من هو أخناتون؟.
ظهرت العديد من الاجابات التي كانت في معظمها غريبة، كمن تكهن انه فرعون موسي او انه ملك يوسف عليهم السلام، بل انه هناك البعض رمي لأبعد من ذلك وأكد انه نفسه موسي أو يوسف عليهم السلام. وهناك من قال انه أحد أنبياء الله الذين لم يذكروا. كلها تكهنات تدور في فلك دعوته لتوحيد الآلهة، ولكنها لا تمت للحقيقة بصلة.
الحق يقال أن أخناتون له سحر خاص، ولكن ما أزاد سحره هو قراءتي لذلك الكتاب "النبي المفقود أخناتون". منذ ما بدأت القراءة في تاريخ مصر القديمة لم يصادفني كتاب بمثل هذه الروعة، كتاب ينسيك في كثير من فصوله انك تقرأ دراسه، بل هو أقرب للرواية، دراسة تاريخية لكاتب بدرجة أديب. يتقسم الكتاب الي 6 أجزاء وداخل الاجزاء هناك 24 فصل. يتنوع أسلوب الكاتب في كل قسم عن الاخر، فنلاحظ في قسم يكتبه بطريقة تقريرية، وقسم يكتبه بطريقة روائية، وقسم بطريقة تحاكي الكتابة السينمائية وكأنك تشاهد مشاهد واحداث لا تقرأها. وبالطبع استخدم الكاتب اللغة العربية الفصحي مبسطة، فسهلت القراءة دون ملل، حتي ليشعرك انك لاتريد للكتاب ان ينتهي.
لم تكن البداية عند مولد أخناتون، أو حتي أبويه، كبداية متعارفة لتقديم شخصية معينة تدور حولها الدراسة. ولكنه ابتدأ منذ البداية حرفيا. كانت البداية من عند سقنن رع وصراعه مع الهكسوس ومن بعده ولديه كامس وأحمس، في نظرة سريعة لأحوال مصر القديمة والتسلسل الزمني، وتطورات شكل الحكم عبر الازمان، وتطور الشخصية المصرية نفسها، في معلومات في غاية الاهمية وتكاد تكون جديدة علي المتلقي. حتي نصل في التسلسل بين الملوك والفراعنه حتي الوصول الي امنحتب الثالث والد اخناتون. ويستعرض الكاتب تحول سياسة الحكم وتوجهات المجتمع المصري في عهده وقصة زواجه من الملكة تي، ومشاركتها لزوجها الحكم. كذلك لم يغفل الكاتب عن الرد علي الآراء القائلة بأن يويا والد المكلة تي، هو النبي يوسف عليه السلام، ونفيه بالأدلة لهذا الادعاء.
ويتطرق الكاتب لطريقة تربية أخناتون منذ البداية، والتي كانت حياة مرفهة بعيدا عن جو الحروب والفروسية لأنه لم يكن في البداية ولي العهد، ويعتقد الكاتب ان تلك التربية المنعمة بين الحريم كانت السبب في ظهور شكله بهذا التكوين الانثوي، وليس لسبب آخر كان انتشر باتهام أخناتون بالشذوذ، وهو الذي نفاه أيضا الكاتب في دراسته. تلك الطبيعة المستكينة والحياة الهادئة، اعطت الفرصة لاخناتون كي يتأمل ويكون فلسفته الخاصة.
وفي حركة مفاجئة من القدر، يموت ولي العهد تحتمس ليفسح الطريق الي العرش لأخيه أمنحتب الرابع أو أخناتون. كذلك في حركة مفاجئة من الكاتب ينتقل بنا الي العصر الحالي واكتشاف مدينة (تحت آتون) التي كانت مدفونة تحت الرمال بجوار مدينة الأقصر والتي تعود الي عصر الملك أمنحتب الثالث. مدينة كاملة بشوارعها ومنازلها ومحلاتها، ويصف الكاتب وصف تمثيلي تفصيلي للمكان وشكل الحياة به.
ثم يعود بنا الي موكب تنصيب الملك أمنحتب الرابع "أخناتون" علي العرش بعد وفاة والده امنحتب الثالث. ويبدأ بسرد تدرج العلاقة بين امنحتب الرابع وبين كهنة آمون وهم مراكز القوي المتحكمين في كل شبر بالدولة. وكانت البداية باظهار الالة آتون اله الشمس مرة اخري بعد اختفائه مابين المعبودات الاخري، ثم تكبير حجمه تدريجيا. ويصف الكاتب كيفية شعور كهنة آمون بالقلق واسحاب البساط من تحت أرجلهم التدريجي السريع، وانحصار الاضواء عنهم، بعد ما التف القادة وأمراء الدولة حو الملك في حركته الثورية، ليواكبوا العصر الجديد.
ومن هنا ينتقل بنا الكاتب لفصل جديد، يصف لنا العاصمة الجديدة للملك أخناتون، والتي اختار لها مكانا نائيا في تل العمارنة. يشرح لنا الكاتب ان ثورة أخناتون وتجديده، لم تكن ثورة دينية فحسب، بل كانت ثورة شاملة حتي في شكل الفن المصري والمعمار. وذلك ظهر واضحا في الاختلاف الجوهري والمفاجئ في شكل المعابد والبنيان الغير مسقوف. وقد تبني اخناتون من خلال معبوده الشمس فلسفة الحقيقة والوضوح وعدم التجمل، وذلك وضح جليا في تماثيل ورسومات تلك الحقبة فظهر الملك بشكل بعيد تماما عن مثالية التجسيد لباقي الملوك قبله وبعده. ظهر طبيعيا بجسده المترهل، وظهر في الرسومات بشكل بشري عادي يجلس ويتحرك ويداعب اطفاله. كما ظهرت زوجته "نفرتيتي" بتماثيل ورسومات بنفس طول زوجها وبشكل مختلف عن سياسة تصوير الملوك والملكات قديما.
لم يغفل الكاتب عن ذكر جميلة الجميلات الملكة "نفرتيتي" حبيبة وزوجة أخناتون وقصة حبهم المحفورة عبر التاريخ. وافسح لها قسم خاص بها وأسماه علي ترجمة اسمها "الجميلة أتت" "نفرتيتي". الكاتب في هذا القسم أسهب في الحديث عن تلك المرأة المحبة المخلصة المناضلة والتي كانت الداعمة الأولي لزوجها فعليا، تقبلت كل المخاطر والتقلبات بسبب ثورة زوجها الخطيرة علي المعبودات والديانات والتقاليد، وصنعت معه أسلوب حياة جديد في ظل التوحيد تحت راية آتون، وقبلت الهجرة معه الي أرض جديدة قاحلة بعيدة عن طيبة فرار بدينهم الجديد من أيدي كهنة آمون التي اصبحت هوجاء باطشة، لدرجة محاولتهم اغتيال اخناتون لأكثر من مرة.
وعلي مبدأ اذا تحدثنا عن نفرتيتي يجب التحدث عن رأسها المسروق. وبالفعل أثار الكاتب تلك القضية القديمة وأحتيال الغرب للاستلاء علي تلك التحفة الفنية الرائعة للملكة الجميلة، والتي وجدت في ورشة نحات الملك في تل العمارنة. وروي لنا كيفية اكتشافها وطريقة تهريبها واختفائها، والمطالبة المستمرة من الجهات المصرية عبر العصور لاسترداد رأس نفرتيتي أمام تجاهل ورفض السلطات الألمانية المسيطرة علي رأس نفرتيتي بدون وجه حق. ومازالت المحاولات مستمرة لعل وعسي يأتي اليوم وتعود رأس نفرتيتي مرة أخري لبلدها. كما وصف الكاتب رحلة بحث علماء الآثار عن مومياء الملكة "نفرتيتي" خصوصا انها قبل وفاة الملك أخناتون بأعوام قليلة اختفي ذكرها من المخطوطات والنقوشات بشكل يستدعي الحيرة.
يرد الكاتب علي جميع الآراء والتكهنات الغريبة حول شخصية أخناتون، وينفي عنه كونه نبيا او حتي عاصر احد الانبياء، بكثير من الادلة والاثباتات. فدعوة اخناتون للتوحيد مختلفة كليا عن عن عبادة التوحيد السماوي. وقد أسهب الكاتب في شرح أسبابه لنفي تلك الادعاءات بالتفصيل، وتحدث عن كل نبي او زعم او لغط حث حول شخصية أخناتون. حتي المسلسل الايراني يوسف الصديق اخد حيزه في الكتاب للرد علي مغالطاته والاقحام الخاطئ لشخصية اخناتون في سيرة نبي الله يوسف عليه السلام.
ولم يغفل الكاتب وألقي نظرة فاحصة عن انطباع العامة لسياسة اخناتون، وفرضه لعبادة آتون بالقوة. فيوضح ان معظم العامة كانوا رافضين لتلك العبادة، ومنكرين للتغير الحاد في اسلوب حياتهم وعبادتهم بينما يظهرون الطاعة خوفا من بطشه، بدليل ما وجد في بيوت الحرفيين في مدينة اخناتون نفسها من تماثيل لمعبوداتهم القديمة وخصوصا امون.
ومثل كل شئ في الحياة له شروق وغروب. يصف الكاتب كيفية انتهاء دعوة اخناتون وأفول نجمه ووفاته المبكرة وهو في ريعان شبابه. ومن بعده انتهاء سياسته وعقيدته واندثارها. وكنتيجة طبيعية قفزت الفئران من مركبه ولبست ثوب جديد لتعيش في عصر اخر. ومن كان يمجد اخناتون بالامس ويسجد لالهه آتون، صار اليوم لاعنا له مع اللاعنين ناكرا لخدمته القديمة له.
كما يعرض الكاتب بشكل روائي قصة اكتشاف مومياء أخناتون، واستهانتهم بها نظرا لدفنها في مقبرة مغايرة للمقبرة التي اعدها لنفسه دون اي دليل يكشف عن شخصيته الحقيقية. تلك القصة صاغها الكاتب بحرفية تجعل المتلقي يعيش الاحداث بحواسه ومشاعره، ويشعر بالرثاء لنهاية هذا الملك الثائر الفيلسوف، الذي استحق لقبه "العائش في الحقيقة".
وختاما لهذا الكتاب الشائق، جمع الكاتب كل ما كتب عن شخصية أخناتون في الادب الروائي والمسرحي وعرضها بنقد بسيط مع نبذة سريعة عن الاحداث. وركز في حديثه عن حلم المخرج الراحل "شادي عبد السلام" في عمل ملحمة اسطورية عن أخناتون، ذلك المشروع الضخم الذي عسره ضخامة الميزانية وعدم وجود جهات تمويلية، ثم توقف الحلم بوفاة المبدع "شادي عبد السلام".
كتاب "النبي المفقود اخناتون" للكاتب الدكتور شريف شعبان. دراسة وافية جدا لأخناتون تناولت كافة جوانبه وردت علي كل التسالات والهرطقات بأسلوب سهل ممتنع. يصل للقارئ العادي بكل سهوله، ويزيد معلوماته ثراء.
مروة طلعت
29/11/2022
#عايمة_في_بحر_الكتب
تعليقات
إرسال تعليق