صلاح الدين الايوبي 17
الجمعة 12 أكتوبر سنة 1187م، 27 رجب سنة 583 هجري. دخل "صلاح الدين" فاتح لبيت المقدس، وسط التكبير والتهليل والزغاريد، والفرحة العظيمة اللي لفت ارض بلاد المسلمين كلها، برجوع أرض الاسراء وفي ليلة الاسراء، ورجوع المسجد الاقصي أولي القبلتين وثالث الحرمين لحضن المسلمين من تاني بعد غياب مايقرب من قرن. ربنا يوعدنا ونشوف اليوم ده تاني.
طبعا الصليبيين قلبهم انقبض وكانوا مرعوبين، لان كل واحد فيهم في دماغه ذكريات اللي حصل لما دخل الصليبيين بهمجيتهم وتوحشهم وانحطاطهم، وعملوه في سكان بيت المقدس، سواء كانوا مسلمين او مسيحيين او يهود، شاب او كهل، طفل او ست، كلهم اتساوا في المعاملة تحت سيوفهم وسنابك خيولهم. لدرجة ان الدم كان مغرق الشوارع للركب زي الانهار.ولزيادة المهانة والذل حولوا المسجد الاقصي لاسطبل خيول وخنازير. يقول "مل" المؤرخ الانجليزي عن لحظة دخول الصليبيين بيت المقدس: "كان المسلمون يقتلون في الشوارع والبيوت، ولم يكن للقدس من ملجأ يلجأ اليه من نتائج النصر، فقد فر بعض القوم من الذبح فألقي بنفسه من أعلي الاسوار، وانزوي البعض الآخر في القصور والأبراج وحتي في المساجد، غير ان هذا كله لم يخفهم من أعين الصليبيين الذين كانوا يتبعونهم أينما ساروا" وقال :"ولقد اندفع المشاة والفرسان وراء الهاربين، فلم يسمع في وسط هذا الجمع المكتظ الا نزعات الموت وسكراته، ومشي اولئك المنتصرون فوق آكام من الجثث الهامدة وراء اولئك الذين يبحثون عن ملجأ او مأوي". وقال: "أما اولئك الذين أبقاهم الفرنج احياء املا في اموالهم فقد ذبحوا عن اخرهم بلا مبالاة ولا شفقة، حتي اضطر المسلمون الي ان يلقوا بأنفسهم من فوق المنازل، وقد احرق بعضهم وهم أحياء، وسحب آخرون من أخبيتهم الي الساحات العمومية وقتلوا علي جثث القتلي هناك، وماكانت مياة عيون النساء، ولا صياح الاطفال، ولا منظر المكان الذي عفا فيه المسيح عن قاتليه لتسكن من ثورة اولئك المنتصرين". وقال: "ولم يتحرك اي قلب حنانا ولا شفقة علي اولئك الابرياء، ولم يتقدم الي عمل البر والاحسان رجل واحد. نحو سبعين الف نفس ذهبت ضحية بلا ذنب".
وطبعا بعد كل الفظائع اللي ارتكبوها، والذكريات الوحشية اللي كانوا فاكرينها انها تصرفات طبيعية وانها شريعة المنتصر، وكانوا متوقعين ان "صلاح الدين" هيعمل فيهم كده.. لكن "صلاح الدين" اثبتلهم واثبت للتاريخ ان شريعتهم دي ما هي الا شريعة الغاب.
تحلي "صلاح الدين" بسماحة الاسلام، وشريعة الله علي الارض، وضرب اروع مثال للانسانية. اكرم فقراء الصليبيين، وترفق بالضعيف منهم، وتجاوز عن الفدية لالاف منهم، لدرجة انه اخرجلهم دواب مخصوصة يركبوها وهم خارجين سالمين من المدينة رحمة بيهم، بدل ما يتبهدلوا في المشي علي رجليهم، وهم فيهم العجوز والطفل والمريض. وأمنهم علي نفسهم وحياتهم واموالهم، مفيش نقطة دم واحدة سالت من الصليبيين العزل، والغني منهم دفع الفدية وخرج بباقي فلوسه ومتاعه كامل بسلام. لدرجة ان الصليبيين نفسهم كانوا مستغربين لما شافوا البطريرك "هرقل" وهو بيدفع الفدية بتاعته اللي هي 10 دنانير، وخارج من بيت المقدس وهو شايل كل اللي طالته ايديه من دهب وفضة كانوا في الكنيسة. ووصف المؤرخين للحقبة دي البطريرك ده بالذات انه كان من غير ضمير ولا وجدان، رغم كده رفض "صلاح الدين" انه يتعرضله وقال :"لا أخذ منه غير العشرة دنانير ولا أغدر به". فكتب عالم الآثار "استانلي لين بول" عن الموقف ده وقال :"وقد وصل الامر ان سلطانا مسلما يلقي علي راهب مسيحي درسا في معني البر والاحسان". وأكرم "صلاح الدين" كل الرهبان والخدام والمتعبدين اللي في كنيسة القيامة، وادالهم الاختيار مابين خروجهم من بيت المقدس او الحياة داخل الكنيسة بسلام.
وفي موقف تاني خرجت عدد من النساء الصليبيات قاصدين "صلاح الدين" وهم بيبكوا وقالوله: "أيها السلطان أترانا الآن راحلات عن هذه الديار ونحن بين زوج أو أم أو ابنة لأولئك الجند الذين لا يزالون في أسرك ونحن الآن نغادر هذه الديار الي الابد". فأشفق "صلاح الدين" عليهم انهم يخرجوا من غير عائل او سند، فأمر باخراج كل ابنائهم او ابائهم او اخوانهم او ازواجهم، وحلف انه يعامل اللي بقي في الأسر بكل رحمة واحسان.
يقول المستشرق وعالم الآثار البريطاني "استانلي لين بول" : " ان السلطان قد قضي يوما من اول بزوغ الشمس الي غروبها وهو فاتح الباب للعجزة والفقراء تخرج من غير ان تدفع الجزية". اما بقي عن حال الفقراء والضعفاء الصليبيين اللي رأف بيهم "صلاح الدين"، لما راحول للامارات الصليبية زي انطاكية يتحاموا في اخوانهم. قال المؤرخ الانجليزي "مل": "ذهب عدد من المسيحيين الذين غادروا القدس الي انطاكية المسيحية، فلم يكن نصيبهم من أميرها الا ان أبي عليهم ان يضيفهم، فطردهم، فساروا علي وجوههم في بلاد المسلمين، فقوبلوا بكل ترحاب". يعني انطاكية الصليبية طردت اللي منهم واللي انقذهم البلاد الاسلامية وعاشوا فيها بسلام، وده يأكد ان الحروب الصليبية حروب استعمارية وحشية لا بتهتم لا بدين ولا اخلاق واخدين الصليب شعار خداع يرتكبوا كل الفظائع من وراه وهو عنهم برئ. والمؤرخ الفرنسي "ميشود" قال: "اولئك الذين طردوا من القدس وما لاقوه من اخوانهم المسيحيين من عدم احترام الانسانية، فقد تضور عدد منهم جوعا في سوريا، وهم علي أشد ما يكونون من البؤس، وقد اغلقت طرابلس ابوابها في وجوههم. وقد اضطرت احدي السيدات ان تلقي بولدها في اليم وهي تلعن أولئك الصليبيين الذين أبوا ان يضيفوها أو يؤوها".
الملفت بقي للنظر ان اول ناس فرحوا واتنططوا واحتفلوا بدخول "صلاح الدين" بيت المقدس، وخروج الصليبيين منها، كانوا اليهود. فبعد فتح "صلاح الدين" لبيت المقدس حصلت هجرة لعدد كبير من اليهود ليها. من المعروف ان العالم الاسلامي كله كان عايش فيه المسلمين والمسيحيين واليهود مع بعض، مكنوش مرتكزين في بيت المقدس يعني، لكن كانوا سكان عاديين زي غيرهم ويعتبروا من الاقليات. وزي غيره من الخلفاء والسلاطين معترضش "صلاح الدين" علي وجود اي طائفة دينية، لانه كان امر طبيعي.
السؤال بقي هنا ياتري فيه سماحة أروع ولا أنبل من سماحة "صلاح الدين"؟ "صلاح الدين" اللي سيرته بتلكوها الالسنة حقد وغل، رغبة في تشويه كل مجيد. لكن زي ما حضراتكم شفتوا في مقال النهاردة، المؤرخين الغربيين بيشهدوله وبينصفوه قبل المؤرخين العرب. رحم الله "صلاح الدين الايوبي" القائد المسلم الانسان. وارزقنا يا الله ب "صلاح الدين" جديد عاجلا وليس آجلا.
تعليقات
إرسال تعليق