بهاء طاهر
أهين يا حربي .. أنا حربي جلبي..
الجملة دي اكيد خلتك تشوف وش بوسي والراحل ممدوح عبد العليم في المسلسل الأيقوني "خالتي صفية والدير" المأخوذة عن رواية بنفس الاسم لفارس الرواية العربية "بهاء طاهر"، واللي النهاردة غيبه الموت عنا، ربنا يرحمه ويغفر له. لقيتني من أول ما سمعت الخبر الحزين ده وانا بردد نفس الجملة (أهين ياحربي أنا حربي جلبي) وكأني بنعيه بيها.
"بهاء طاهر" من الشخصيات اللي أثرت في حياتي، ممكن أكون محتكتش بأعماله بشكل كبير، لكن كل عمل قريته ليه ضافلي كتير، نقدر نقول اقل حاجة ضافهالي انه علالي حاسة تذوق الكلمات والوصف التعبيري، ودي حاجة ميحسش بيها غير متذوق الادب. "بهاء طاهر" كان بيكتب في حتة كده لوحده، بيغوص في المشاعر الانسانية، ورعب تقلبات النفس البشرية، ويربطها بمكان وزمان فريدين من نوعهم، فكتاباته دائما بتوصل للقلب. الحقيقة ان كتابات جيل "بهاء طاهر" هي اللي وقفت قصاد حلمي في كتابة رواية، لان سيف الجلاد اللي جوايا كان بيمسح اي مشروع كتابي ليا لانها مرتقتش لشكل كتاباتهم فبيرفضه و مايقيموش كعمل أدبي. فالعمل الروائي المتكامل من وجهة نظري هو جيل الستينات والمعاصرين اللي منهم "بهاء طاهر".
في 13 يناير سنة 1935، اتولد "محمد بهاء الدين عبد الله طاهر" في الجيزة. والده كان أزهري، ووالدته كانت ست بيت مش متعلمة، أسرة بسيطة عادية جدا زيهازي أغلب الأسر في الوقت ده، بيت مليان دفا وأصالة وتقاليد. أسرة كانت نازحة من الاقصر واستقرت وعاشت في الجيزة. وبرده زيهم زي أغلب الناس لما بيختلفوا علي اسم المولود، وكنوع من مراضية الاطراف، المولود اتكتب باسم "محمد" لكنه اتشهر باسم "بهاء".
وفي الجيزة دخل "بهاء طاهر" مدرسته الابتدائية، وكانت بداية معرفته بالحروف والكلمات، لحد ما انفجرت وهو في سنة رابعة ابتدائي لما كتب موضوع تعبير عجب مدرس اللغة العربية، ومن ساعتها مبطلش كتابة. كان دايما كل اخر سنة دراسية يجمع الورق الفاضي من الكراريس، ويدبسهم عشان يعمله كشكول خاص بيه، يكتب فيه طول فترة اجازة الصيف اي حاجة سواء خواطر او قصص او حتي شعر. كانت اجازة الصيف بالنسبة له يقرا كتب من مكتبة والده الأزهري، ويختلي بكشكوله يكتب فيه. حاول "بهاء طاهر" يكتب شعر لكنه وعلي حسب قوله الشخصي (من حسن حظ البشرية لم تقرأ ما كتبته) اكتشف انه شعر ردئ من نظرات اخواته لما قراها، فقرر ميكتبش شعر تاني.
كمل "بهاء طاهر" دراسته واخد الثانوية العامة سنة 1952م. ودخل كلية الآداب قسم تاريخ واخد الليسانس سنة 1956م. أول ما اتخرج مضيعش وقت واخد في نفس سنة تخرجه دبلومتين مع بعض، واحدة في الاعلام والتانية في التاريخ الحديث. أيام مجانية التعليم بقي.
لما اتخرج وخلص دراساته العليا، اشتغل مترجم في الهيئة العامة للاستعلامات، ايام ما كان فيه قوي عاملة بتشغل الخريجين. ومن بعدها اشتغل مخرج درامي ومذيع للبرنامج الثاني الثقافي في الاذاعة المصرية سنة 1968م. أول انطلاقة ليه في عالم الادب كانت مجموعة قصصية بعنوان "الخطوبة" سنة 1972م. لكن للأسف أول عمل له أدبي كانت أكبر ضربة وصدمة في حياة "بهاء طاهر". فوجئ بالرقابة منعته من الكتابة، بسبب قصة الخطوبة اللي في المجموعة القصصية، فسرتها السلطة وناس كتير تانية وقتها انها اسقاط على العصر، بيلسن عليهم يعني. ومن غير ما يدوله فرصة تبرير او يدافع عن نفسه اتوقف عن الكتابة خالص، ومش بس كده ده كمان اتوقف عن العمل، او الشغل حتي في الجرايد، وفضل موقوف كده لمدة 8 سنين.
في ال 8 سنين دول عاش فيهم "بهاء طاهر" فترة صعبة جدا، لاقادر يكتب ولا فيه عنده مصدر دخل. لحد ما في يوم كان بيقلب في الجرنان لقي اعلان نازل بيطلب مترجمين للغة الفرنسية تابعة للأمم المتحدة. بس "بهاء" وقتها مكنش يعرف اي حاجة عن الفرنساوي، لكن باصراره وعزيمته انه يخلق لنفسه فرصة عمل ومجال جديدة خلاه اتقن اللغة الفرنسية في ظرف 3 شهور اللي قبل الامتحان، واتقدم للامتحان، وامتحن، ونجح، واتقبل في الوظيفة. ومن خلال وظيفته الجديدة، لف بلاد كتير في افريقيا واسيا واوروبا، زودت خبراته في الحياة، ووسعت مداركه ووعيه، لحد ما استقر في سويسرا سنة 1981م. وهنا كانت الضربة القاصمة التانية والأشد عنف في حياة "بهاء طاهر" وهو وصوله خبر وفاة والدته وهو في الغربة.
حزن "بهاء طاهر" حزن شديد جدا علي والدته، وحزنه ده خلاه يفكر في الانتحار. مكنش قادر يتقبل عدم وجود حصن أمان روحه في الدنيا. لكن الكتابة انقذته مع الانتحار، عزل نفسه بين اوراقه وكتب كل الصراع اللي في صدره، نزل دموعه حبر علي اوراقه، فغزل مجموعته القصصية التانية "بالأمس حلمت بك" سنة 1984م.
وفي سنة 1985م كتب مجموعته القصصية التالتة "أنا الملك جئت" وقال عنها "بهاء طاهر": «كتبت أنا الملك جئت فى جنيف، والثلج يحاوطنى من كل جانب، لكننى تخيلت أن هذا الثلج رمال صفراء فى صحراء مصر، فخرجت أنا الملك جئت، وستظل الكتابة عصاتى السحرية لمواجهة الواقع، وكنت طول الوقت حورس اليتيم الذى يبحث عن حقه».
وفي نفس السنة 1985م ظهرت أول رواية لا مش رواية دول روايتين وهم "شرق النخيل" و "قالت ضحي". يعني صدمة وفاة والدته كانت العامل الاساسي في خروج مارد الأدب من محبسه. وفي سنة 1991م تظهر رائعته الروائية "خالتي صفية والدير"، واللي اتعملت مسلسل سنة 1996 واللي هيفضل في ذاكرة الدراما وفي ذاكرتنا جيل التمانينات، واللي كان السبب في أول معرفتي ب "بهاء طاهر". لاني لما جبت الرواية وقريتها، خلتني شغوفه ادور علي أعمال ساحر الكلمات ده. ومن بعدها توالت اعماله زي "الحب فى المنفى" سنة 1995م، والمجموعة القصصية "ذهبت الي شلال" سنة 1998م ورجع للروايات ب"نقطة النور" سنة 2001م، و"واحة الغروب" سنة 2006م، واللي برده اتعمل مسلسل رائع سنة 2017م بطولة خالد النبوي ومنة شلبي. والمجموعة القصصية "لم أعرف أن الطواويس تطير" سنة 2009م. ده غير الكتب النقدية والدراسات والترجمات والمقالات.
وعن رأية في صراع السلطة والأدب قال "بهاء طاهر": (السلطة والكتابة وجهان لكائن واحد اسمه «الدولة»، فلو ظهر أحدهما اختفى الآخر، أو غاب لفترة، ومن يظهر كلاهما يدخل التاريخ، عهد عبدالناصر كان له فضل على الكتابة، ففى عصور الرقابة، يتطور الأدب، مثلما حدث فى روسيا).
اعتبر النقاد "بهاء طاهر" مؤسس تيار الوعي في الرواية المصرية، وأطلقوا عليه صفة روائي بنكهة سويسرية، باعتبار ان أهم اعماله وابداعاته كانت في غربته في سويسرا. وكانوا شايفين ان عيبه الوحيد هو قلة انتاجه.
فاز "بهاء طاهر" بجائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة 1998م. وجايزة "جوزيبي أكيربي" الايطالية عن رواية "خالتي صفية والدير" سنة 2000م. وجايزة "آلزياتور" الايطالية عن "الحب في المنفي" سنة 2008م. والجايزة العالمية للرواية العربية عن "واحة الغروب".
واليوم 28 أكتوبر 2022م بتغرب شمس "بهاء طاهر"، ولكن أعماله وتاريخه باقي وسيظل "بهاء طاهر" هو فارس الرواية العربية. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
مروة طلعت
تعليقات
إرسال تعليق