سليم حسن
وانا في ثانوي كانت اصدارات مكتبة الاسرة شئ أساسي في حياتي، من الروايات العربية لكبار كتابنا أو المترجمة. كنت بدخر مصروفي لأسبوع كامل عشان يجي يوم الخميس، أروح مكتبة المترو - اللي طبعا انقرضت دلوقتي - اشوف فيها ايه اخر اصدارات مكتبة الأسرة، واشتري رواية او اتنين علي حسب المبلغ اللي حوشته. لحد ما في مرة لقيت كتاب ضخم نازل لأول مرة اسمه "مصر القديمة" ومن فوقه مكتوب بخط عريض "سليم حسن". الحقيقة الاسم شدني وكمان الغلاف الفرعوني، لكن حجم الكتاب خضني وخلاني مشتريهوش. لكن في وقت وقوفي بالمكتبة اللي هو ميتعداش 10 دقايق فوجئت بناس كتير جاية تسأل عن الكتاب ده مخصوص وعدد الكتب بيتناقص بسرعة غريبة. وده اللي خلاني الحق اخر كتاب واضحي بال 5 جنية اللي معايا كلها واشتريه هو وبس، مع العلم ان سعر اعظمها رواية أو كتاب تاني مكنش بيتجاوز ال 2 جنية، فده كان مبلغ فادح بالنسبة لي. الغريب بقي اني مقريتوش بس حسيت انه كتاب مهم، والأغرب اني فضلت كل اسبوع اضحي بال 5 جنية واشتري الجزء الجديد من السلسلة لما تنزل، لحد ما اشتريت معظمها، وبرده مقريتهمش، بس احساسي انها مجموعة قيمة خلاني احتفظ بيهم لحين ميسرة، وطبعا مكنش فيه نت او طريقة اعرف بيها في سني ده مين هو "سليم حسن". لحد ما دخلت الكلية واخدت مادة تاريخ معاصر في سنة تانية من ضمن المواد الادبية اللي درستها، وجه ذكر "سليم حسن" في شرح الدكتور، خلاني افتكرت السلسلة بتاعته اللي عندي في البيت. وهنا كانت معرفتي الحقيقية لموسوعة "سليم حسن" "مصر القديمة" وتيقنت اد ايه احساسي كان في محله، وان فعلا لو مكنتش جمعتهم كنت خسرت كتير.
ولفت ودارت الايام والسنين، وجيت النهاردة عشان اقولكم مين هو "سليم حسن"؟. "سليم حسن " ابن قرية ميت ناجي التابعة لمركز ميت غمر محافظة الدقهلية، اللي اتولد سنة 1886م، وقبل ما وعيه يكمل علي الدنيا توفي والده وسابه لأمه تربيه وزي أي أم أصيلة ومكافحة أصرت على أنه يكمل تعليمه رغم فقرهم - تربية واحدة ست يعني - وقدر "سليم حسن" يفرح والدته وصبرها علي شقاها باتمامه حفظ القرآن الكريم كامل وهو عنده 7 سنين في كتاب شيخ قريتهم "الشيخ محمد"، وبتفوقه لحد ما خلص مرحلة التعليم الابتدائية والثانوية وحصل على شهادة البكالوريا عام 1909م. في الوقت ده كان "أحمد كمال باشا" أقنع وزير المعارف - وزارة التربية والتعليم حاليا - "أحمد حشمت باشا" انه ينشئ في مدرسة المعلمين - كلية التربية حاليا - قسم للآثار. وكان "سليم حسن" من أوائل الطلبة اللي دخلوا مدرسة المعلمين قسم دراسة الآثار.
اتخرج "سليم حسن" من مدرسة المعلمين سنة 1913م وبتفوق كعادته. طبعا كشخص متفوق وعاشق لدراسته، كان حلمه يشتغل في المتحف المصري. لكن للأسف حلمه ده متحققش وقتها، عشان التوظيف في المتحف المصري كان حكر علي الأجانب وخصوصا الانجليز بس. من ماله ولا يهناله يعني. فأضطر يشتغل مدرس تاريخ في المدرسة الناصرية في القاهرة، وبعدها اتنقل لمدرسة طنطا الثانوية، وبعدا راح مدرسة في أسيوط، واخيرا رجع القاهرة تاني واشتغل في المدرسة الخديوية الثانوية. بس خلال رحلته دي مكنش مجرد مدرس بيرص الكلمتين اللي في المنهج وخلاص، لا ده كان مبدع، يحكي ويقول اللي بين السطور، ورؤيته واجتهاده الشخصي في فهم التاريخ. لحد ما صيته سمع في وزارة المعارف - أيام ما كان للمدرسن صيت وبيسمع - فنقلوه للمدرسة الخديوية في القاهرة بالذات، عشان يحط بنفسه مناهج للتاريخ وهو عنده 29 سنة.
رغم النجاح اللي بالنسبة لأي مدرس عادي مجد عظيم، لكن "سليم حسن" كان شايفها خطوة عادية وتقليدية، هو كان حلمه المتحف المصري. لحد ما جاتله الفرصة لما قامت ثورة 1919م، وكعادة الثورات بيبقي ليها تبعات كده انفراجية، الهدف منها تنفيس الضغط شوية. في سنة 1921م، وتحت الضغط والالحاح من "أحمد شفيق باشا" وزير الاشغال علي مسئولين المتحف المصري، تم تعيين اتنين معاونين لأمناء المتحف مصريين وهما "محمود حمزة" وطبعا صاحب الصيت الواسع في التاريخ "سليم حسن". يا فرج الله مصائب قوم عند قوم فوائد. وفي المتحف المصري تتلمذ "سليم حسن" علي ايد عالم الآثارالروسي "جولنشيف".
في سنة 1922م، كان فيه احتفالية في فرنسا بمرور 100 سنة علي فك رموز حجر رشيد علي ايد العالم الفرنسي "شامبليون". وكان حاضر الاحتفالية دي "أحمد كمال باشا" أستاذ "سليم حسن" في الكلية. وبسرعه تواصل معاه "سليم حسن" وطلب منه مرافقته للاحتفالية فوافق. وهنا لم "سليم حسن" هدومه وجمع كل مدخراته وسافر مع "أحمد كمال باشا" سفرية غيرت معالم حياة "سليم حسن"، وغيرت نظرة المصريين لتاريخهم وآثارهم.
سافر"سليم حسن" فرنسا ومركنش جنب الاحتفالية، ده لف وسافر فرنسا وانجلتر وألمانيا، وفضل يكتب ويبعت من هناك مقالات قلبت الرأي العام في مصر، عن الآثار اللي شافها هناك المنهوبة من مصر، تحت عنوان "الآثار المصرية في المتاحف الأوروبية". عشان وقتها كان فيه قانون بيقول لو أي بعثة أجنبية فتشت وطلعت آثار فالبلد اللي جايبة البعثة دي هتقسم الآثار مع مصر. ده غير الآثار المتهربة، والآثار اللي بتتهادي كده كأنهم بيهادوا كيلو موز، زي ما حصل سنة 1855م لما الخديوي "عباس الاول" هادي الأمير النمساوي الأرشيدوق "مكسمليان" مخزن كامل ضخم من الآثار كان محطوط في دار الدفتردار في الازبكية. هدية من مَن لايملك الي من لايستحق.
وفي سنة 1925م، لعب "أحمد كمال باشا" دور جديد وحيوي في حياة "سليم حسن"، لما اقنع "زكي أبو السعود باشا" وزير المعارف، انه يبعت بعض الآثريين بعثة لفرنسا لدراسة علم الآثار، وطبعا من ضمنهم كان "سليم حسن". وهناك دخل جامعة السوربون، وأخد منها مش دبلومة ولا اتنين بل ثلاثة، في اللغات الشرقية وتاريخ الديانات والهيروغليفية، وكمان اخد دبلوم الآثار من كلية اللوفر. وكتب عنه الصحفي "أحمد الصاوي محمد" وقال ان بيت "سليم حسن" في فرنسا هو بيت الأمة، من كتر ما كان بيته ملاذ للطلبة المصريين الوافدين علي فرنسا. ومن عاداته في فرنسا انه مكنش بيخرج من بيته الا للجامعة، ومرة فضل 11 شهر مبيخرجش من بيته وبين كتبه وابحاثه ومذاكرته، لدرجة ان الجيران شكوا ان يكون حصله حاجة فخبطوا عليه لقوه قاعد وسط كتبه بيذاكر ولسان حاله بيقول ايه مالكوا يا جماعة فيه حاجة. وخلص بعثته سنة 1927م.
لما رجع مصر، لقي مكانه مستنيه طبعا في المتحف المصري، اثبت جدارة ونبوغ ميتفرطش فيه. وكمان جاله جواب بانتدابه في كلية الآداب جامعة فؤاد الاول - جامعة القاهرة حاليا - قسم الآثار للعمل فيها علي درجة مدرس، واترقي لدرجة أستاذ. ده الي جانب انه في الوقت ده ظهر شغفه بالتنقيب عن الآثار والحفريات، فاشترك "سليم حسن" سنة 1928م مع عالم الآثار النمساوى "يونكر" في أعمال الحفر والتنقيب في منطقة الهرم. وفي سنة 1929م، عملت جامعة فؤاد الأول هيئة علمية منظمة لأعمال التنقيب عن الآثار بأيادي مصرية بس وطبعا كانت برئاسة "سليم حسن"، ودي كانت أول بعثة مصرية في المجال ده. وكان من أهم الأكتشافات التي نتجت عن أعمال التنقيب مقبرة (رع ور) وهى مقبرة كبيرة وضخمة وجد بها العديد من الآثار. أستمر "سليم حسن" في أعمال التنقيب في منطقة الهرم وسقارة لحد سنة 1939م واكتشف حوالي 200 مقبرة أهمها مقبرة الملكة (خنت كاوس) من الأسرة الخامسة ومقابر أولاد "الملك خفرع"، ده غير مئات القطع الأثرية والتماثيل ومراكب الشمس الحجرية للملكين "خوفو" و"خفرع".
في سنة 1935م، يسافر "سليم حسن" النمسا وياخد الدكتوراة من جامعة فيينا. ولما رجع انعم عليه الملك فؤاد بلقب البكاوية. ده غير انه اتعين وكيل مصلحة الآثار المصرية، وبكدة يعتبر أول مصري يمسك المنصب ده، ويكون المسئول الأول لكل آثار البلد، وده غاظ طبعا الأجانب المسيطرين علي الوضع.
ومن هنا بدأت حياة "سليم حسن" تتغير لأنه دخل في صراعات مع القصر الملكي. في يوم بعد ما بقي وكيل مصلحة الآثار، جاله مندوب من "الملك فؤاد" معاه مجموعة من الآثار اللي كانت بحوزة الأسرة المالكة، بيطلب منه يودعها في المتحف المصري. فأخد "سليم حسن" الآثار وسجلها في سجلات المتحف وبكدة بقت ممتلكات الدولة. لما تولي "الملك فاروق" الحكم، بعت له "محسن باشا" يقوله ان الملك عاوز ممتلكات والده اللي بعتهاله. وهنا رد "سليم حسن" الرد المنطقي، دي بقت ممتلكات الدولة حضرتك عاوزها خد اذن البرلمان. لكن "الملك فاروق" فضل يبعتله يطلب الآثار فرد "سليم حسن" وقاله عاوز الآثار موافق بس امضيلي إيصال أمانة باستلامها. وهنا قامت ثائرة "الملك فاروق" عليه وزادت لما وصفه "سليم حسن" باللص الجرئ، حرامي بجح يعني. وحاول "الملك فاروق" يرميه بالتهم الباطلة ويتحقق فيها ويطلع برئ فيروح مطير اللي طلعه براءة، حاجة في منتهي فساد القرن الواحد وعشرين يعني. ويتشال من منصبه ويرجع، ولما يرجع يتشال تاني يوم. لحد ما هو قرر يسيب العمل الحكومي ويستقيل سنة 1940م.
في سنة 1946م حصل موقف تاني، لما جري كبير أمناء المتحف المصري "محمود علي حمزة" علي "سليم حسن" يبلغه ان فيه بعثة فرنسية بتشتغل في (صان الحجر)، اكتشفوا مقبرة الكاهن "حورنحت" وآثار قيمتها نص مليون جنية وقتها. وكانوا متفقين علي نقل الآثار دي لمتحف اللوفر في فرنسا بعد ما يجي الملك يبارك الاكتشاف ويوهبها لفرنسا هدية. فقاله "سليم حسن" بسرعة سجل المقبرة وكل الآثار اللي في فيها، وفي يوم الافتتاح ولما دخل "الملك فاروق" الاحتفال فوجئ الكل ان "محمود علي حمزة" بيعلن تسجيل المقبرة باللي فيها والورق اهو. طبعا وش الملك "فاروق" جاب كذا لون، واتحرج قصاد البعثة اللي اتفق معاها. وعشان يداري ع الموقف جمع مندوبي كل الصحف واعلن انه يفتخر بالآثار دي. وفي قصره بقي يتشال ويتهبد ويقول: هو برضه الفلاح ابن الكلب اللي عملها فيه. الله يرحمك يا دكتور "سليم حسن" ويحسن مثواك.
وفي سنة 1954م، استعانت الحكومة المصرية ب "سليم حسن" وعينوه رئيس للبعثة التي حددت مدى تأثير بناء السد العالي على آثار النوبة. و أنتخب "سليم حسن" في سنة 1960م عضو بالأجماع في أكاديمية نيويورك اللي بتضم أكثر من 1500 عالم من 75 دولة.
لما استقال "سليم حسن" من عمله الحكومي، اتفرغ بقي لكتاباته، زي "جغرافيا مصر القديمة" و"الأدب المصري القديم"، ده غير مؤلفاته وكتبه المكتوبة بالفرنسية والانجليزية. أما بقي أعظم انجازاته واللي خلدت اسمه في التاريخ هي موسوعة "مصر القديمة" اللي ضمت 18 جزء، واللي كتبها في 30 سنة. واللي قدر فيه يجمع تاريخ قدماء المصريين كله، واللي بقي مبحث ومصدر مهم جدا للباحثين، هى الموسوعة المتكاملة الوحيدة- فى أية لغة من لغات العالم- اللي كتبها وصنفها عالم واحد لوحده، فيها شرح دقيق وتحليل بالتفصيل عن مراحل وتاريخ الحضارة المصرية، بدايةمن عصور ما قبل التاريخ حتى قرب نهاية العصر البطلمى. وجدير بالذكر ان "سليم حسن" كتب اهداء في الجزء الاول من الموسوعة قال فيها: "إلى الذين أرادوا الإساءة إلى فأحسنوا، وباعدوا بينى وبين الوظيفة فقربوا بينى وبين الإنتاج وخدمة العلم". وطبعا احنا فهمنا هو كان يقصد مين بالاهداء ده.
وفي يوم 30 سبتمبر سنة 1961م، انطفأت شمس من شموس المعرفة. توفي عميد الأثريين المصريين، عاشق مصر وأمين تاريخها، عن عمر 75 سنة. ولآخر نفس له في الدنيا كان بيكتب في كتاب عن كليوباترا، بس للأسف مكملش، وكان رغم كبر سنه محتفظ بروتين يومه وبيكتب 21 ساعة في اليوم.
تعليقات
إرسال تعليق