السلطانة شجر الدر 2

وراء كل عظيم امرأة، ووراء كل تعيس امرأة برده مش هننكر. وزي ما قال الروائي الفرنسي "الكسندر دوماس" فتش عن المرأة. وحكايتنا النهاردة عن امرأة فيها من التناقضات الكتير زيها زي أي امرأة، لكنها كانت مختلفة، متميزة وقوية.

كان الملك "لويس التاسع" في دمياط مستني موسم فيضان النيل يخلص، عشان يقدر يكمل ويزحف لحد القاهرة، ما هو انتصاره والطريقة اللي هرب بيها قصاده الجيش المملوكي، خلت ثقته في نفسه تزيد وبقي مطمن انه اكيد هيدخل القاهرة، ويقضي علي "الملك الصالح نجم الدين أيوب"، خصوصا انه عارف ان "الملك الصالح" مريض جدا، ومبيخرجش من قاعته وطريح الفراش. 

يوم 15 شعبان 647 هجري الموافق 21 نوفمبر 1249م، اتحرك جيش الصليبي بقيادة "لويس التاسع" من دمياط. وفي نفس اليوم مات "الملك الصالح نجم الدين أيوب". كانت جنبه زوجته "شجر الدر" لحظة وفاته، تخيل معايا المشهد، ست عاشقة لزوجها اللي حبها حب عظيم، ورفعها وعلاها من مجرد جارية لملكة لمصر شريكة الحكم والكفاح،وقدرها وقدملها خير الدنيا كله. مش هتكلم عن كمية الوجع والألم في اللحظة دي وحبيبها بيفارقها ويفارق الدنيا بين ايديها. لكنها بسرعة بديهة فكرت في حاجة تانية خالص. فكرت في الجيش الصليبي الزاحف، وفكرت في جيش المماليك اللي برا الباب، واللي لو شموا بس خبر بموت ملكهم وسيدهم "الملك الصالح"، مش بس عزيمتهم هتنهار، ده فيه احتمال أكيد انهم يسيبوا الحرب أصلا والمماليك والأيوبين ياكلوا في بعض، مهما في الاصل عبيد والبلد مش بلدهم، والحرب لجل "الملك الصالح" اللي بيكنوله بالولاء بس، وأهو مات. وهي مكنتش مستعدة تخيب ثقة "الملك الصالح" فيها وهي حاملة اسمه حتي وهو ميت.

وعشان كده كتمت صرخاتها جوا قلبها المكسور، ومسحت دموعها، وصلبت طولها، وقررت ان خبر موت "الملك الصالح" مش هيخرج بره الأوضة اللي نايم فيها، والأمور هتمشي طبيعية ولا من شاف ولا من دري. ما كده كده هي اللي كانت حلقة الوصل بينه وبين قواده عن طريق الرسايل. هي بس خرجت وطلبت استدعاء القائد العام للجيش "الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ" والمشرف العام الطواشي "جمال الدين محسن"، واختصتهم دول بالذات علي الخبر وأمرتهم بكتمانه، وده لأنها كانت واثقة فيهم وعارفة انهم أهل للثقة، ما هي في قلب الحكم وعندها خبرة كافية بالناس اللي حواليها. وبعتت رسالة مستعجلة ل "توران شاه بن الصالح نجم الدين أيوب" اللي كان في حصن كيفا، بسرعة الحضور الي مصر. 

وفي قلب الليل في السر وفي صمت، وبمساعدة "الأمير فخر الدين" و "جمال الدين محسن"، خرج جثمان "الملك الصالح نجم الدين أيوب" من قصره في جزيرة الورد، منقول في تابوت علي ضهر مركب صغيرة، عبرت بيه النيل لحد قلعة جزيرة الروضة. واللي كان"الملك الصالح" بانيها عشان اقامة مماليكه البحرية. وفي نفس الوقت، "شجر الدر" مشت اليوم عادي وطبيعي جدا زي كل يوم وكأن الملك موجود، عشان محدش يشك في حاجة. ففضلت محتفظة بالأطباء جوا القصرزي ما كانوا بيراعوا صحة الملك، وكالعادة هي اللي كانت بتستلم المكاتبات والاقتراحات من الأمراء وتعمل نفسها داخلة تسلمها للملك، وتطلع معاها التعليمات والرد علي المكاتبات بإمضاء وختم الملك. وهنا اختلف المؤرخين حوالين ازاس "شجر الدر" كانت بتوصل الردود بخط الملك. فيه اللي قال انها كانت بتعرف تقلد خط وامضاء الملك، وفيه اللي قال انها في فترة مرضه كان بيمليها وهي اللي بتكتب بخطها، وفيه اللي قال ان كان فيه خادم للسلطان اسمه "سهيل" بيعرف يقلد خط الملك وامضته وهو اللي كانت بيكتب الرسايل. المهم ان "شجر الدر" عملت الحيل والألاعيب وكأنها ماشية علي حبل ألغام عشان تفضل محافظة علي السر وتخدع المماليك والايوبيين بوجود الملك لأطول فترة ممكنة لحد ما يوصل "توران شاه بن الملك الصالح" ويستلم الحكم.

تسكت بقي علي كده، أبدا، دي بذلت كل جهودها عشان تضمن تسليم الحكم لابن جوزها "توران شاه" من غير قلق، وخططت عشان متديش اي احتمال للمفاجآت. جمعت "شجر الدر" كل الامراء الموجودين معاها في المعسكر، وقالتلهم ان "الملك الصالح" طالب منهم يحلفوله ولابنه "توران شاه" علي السمع والطاعة والولاء، عشان الملك وصاله بالعرش من بعده، علي الرغم من ان الملك مات من غير ما يوصي لحد بالعرش من أصله. وطبعا لأن الأمراء واثقين ان "شجر الدر" هي لسان ورسول الملك، فكله نفذ وحلف. ومش بس كده دي بعتت رسالة مشابهة بختم وامضاء الملك لنائب السلطنة قي القاهرة الأمير "حسام الدين بن أبي علي الهذباني"، وحلف كل أمراء وأكابر الدولة والجنود علي مبايعة "توران شاه" من بعد "الملك الصالح". ومن يوم الجمعة 19 شعبان 647 هجري 26 نوفمبر 1249م كل مساجد مصر في كل المحافظات دعت في الخطبة ل"توران شاه" من بعد الدعاء لل"الملك الصالح" أبوه. وكل ده وكان لسه "فارس الدين أقطاي" بيجري بخيله متجه لحصن كيفا، عشان يسلم "توران شاه" رسالة "شجر الدر" اللي بتبلغه فيه بضرورة المجئ لمصر بسرعة.

لكن ان جيتوا للحق الوحيد اللي شك في الختم والعلامة السلطانية كان نائب القاهرة الأمير"حسام الدين بن أبي علي الهذباني"، شكلها مريحوش، والفار لعب في عبه أكتر لما عرف أن "أقطاي" سافر مخصوص يجيب "توران شاه" من حصن كيفا. حتي الصليبيين شكوا وحسوا ان ممكن يكون "الملك الصالح" مات.

بدأ الجيش الصليبي بقيادة "الملك لويس التاسع" يتحرك لحد ما وصلوا جزيرة الورد في رمضان 647 هجري ديسمبر 1249م، وفضل القتال داير بين الجيش المملوكي والايوبي قصاد الصليبيين لمدة شهرين. وكان بيفصل ما بين معسكر الجيشين بحر أشموم، لحد ما عرض واحد من البدو علي "لويس التاسع" يدله علي طريق يعدوا منه البحرمقابل 500 بيزنط - عملة أوروبا في الوقت ده - وفي يوم 4 ذي القعدة 647هجري عدا الجيش الصليبي البحر وانقضوا علي المسلمين علي غفلة، وطبعا مكنوش مستعدين فكانت الخساير في الجيش الاسلامي رهيبة، ومن ضمنهم كان قائد الجيش نفسه الأمير "فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ".

كده لقت "شجر الدر" نفسها لوحدها بعد موت قائد الجيش، وانها في وش المدفع حرفيا، والأمر ليها. فجأة ظهر "بيبرس البنقداري"واحد من قادة المماليك البحرية، قدملها اقتراح خطة، وهي ان سكان جزيرة الورد يلتزموا بيوتهم ويحط الساكر في كمائن في كل حتة من البلد، وأول ما يدخل الصليبيين جوا البلد وياخدوا راحتهم وميدوش خوانة يهجموا عليهم. "شجر الدر" مكنش قدامها حل تاني وكانت دي أحسن خطة وصلتلها، فوافقت عليها وأدت "بيبرس البندقداري" قيادة الجيش. وفعلا المماليك بعتت للأهالي في السر ان كله يدخل بيته ولا حس ولا نفس يطلع، وكل الأهالي بلغوا بعضهم في سرية، وكلهم اتعاونوا علي نجاح الخطة. دخل الصليبيين جزيرة الورد بصوا لقوا الشوارع فاضية والبيوت هادية والمحلات مقفلة، فكرتهم بدخلتهم لدمياط، وقالولك بس الناس هربت زي ما هربوا من دمياط، والبلد فاضية. والجنود الصليبيين فكوا كدة ونزلوا من خيولهم وقلعوا دروعهم وخدوا راحتهم واللي نام واللي أكل واللي لعب. وفجأة يدي "بيبرس" الاشارة فيهجم الجيش الاسلامي علي الصليبيين هجمة حرة مباشرة، واللي كان بيهرب من الصليبيين كانت الأهالي تلحقه بالشوم والنبابيت والحجارة والسكاكين ولو فيه غطيان حلل ميضرش. المهم كانت النتيجة خسران الصليبيين الألاف من جنودهم، وده كان أول نصر عظيم يتحقق علي جزيرة الورد، اللي من فرحة الأهالي بانتصارهم غيروا اسمها وبقت "المنصورة". وكان النصر ده بتوقيع "بيبرس البندقداري".

وارتفعت الروح المعنوية للجيش الاسلامي للسما، والخبر وصل القاهرة، والناس هللت في الشوارع وقلعة الجبل ضربت مدافعها وكان يوم عيد. وبعد موقعة المنصورة بأيام وصل "توران شاه بن نجم الدين أيوب" مع الأميرالمملوكي "فارس الدين أقطاي" ومعاه 50 فارس من فرسانه. وأول ما دخل قصر المنصورة استقبلته "شجر الدر" بفرحة وحفاوة كبيرة جدا، حست ان المسؤولية التقيلة اللي علي ضهرها انزاحت وجه اللي هينقذها وينقذ مصر من أزمتها. وبعد 3 شهور من وفاة "الملك الصالح" أعلن قصر الحكم عن وفاته رسميا وتولي ابنه "المعظم مغيث الدين توران شاه بن الصالح نجم الدين أيوب" الحكم.

يتبع.... 

مروة طلعت

1 / 10 / 2022

المصادر:
بدائع الزهور في وقائع الدهور جزء 1 "ابن اياس"
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة جزء 6 " ابن تغري بردي".
البداية والنهاية الجزء 13 "ابن كثير".
المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار جزء 2 " المقريزي".
مرآة الزمان في تاريخ الأعيان جزء 8 "سبط ابن الجوزي".



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الليث بن سعد 5

الدكتور نجيب محفوظ باشا

هل تعلم أن جدك الأكبر كان من آكلي لحوم البشر؟