السلطانة شجر الدر
تاريخ مصر مليان بالملوك والسلاطين اللي اتحفرت أساميهم في قلب صفحات التاريخ، منهم اللي اتبروز إسمه بالعزة والمجد، ومنهم اللي إتحط في خانة العار والمهانة. ووسط الملوك والسلاطين دول هتلاقي ملكات حكموا مصر أو كانوا ملكات في ضهر وحافز أساسي لأزواجهم الملوك، والتاريخ خلد أساميهم، زي الملكة حتشبثوت والملكة نفرتاري والملكة اياح حتب والملكة كليوباترا والملكة زنوبيا والسلطانة شجر الدر.
النهاردة هنحكي حكاية ست مش زي أي ست، دي مش بس اتحفر اسمها في التاريخ، ده اتحفر في المواعظ والأمثال والحكم. ست جمعت ما بين حسن وجمال ودلال الستات، وقوة وحزم وصلابة وشكيمة الرجال. الست دي تبقي السلطانة "شجر الدر".
بنت صغيرة واقفة وسط البنات في سوق الجواري والعبيد، بنت بيضا جميلة جدا، جمالها أخاذ جذاب. احتار المؤرخين في أصولها فيه اللي قال إنها خوارزمية، وفيه اللي قال تركية، واللي قال أرمنية. بس اللي معروف ان إسم "شجر الدر" ده الإسم اللي أطلقه عليها النخاس، لما شاف جمالها وحسنها، فداها إسم بيحاول فيه يعبر عن كنز الجمال ده، وعشان يرفع سعر البضاعة أكتر. وحطها في فرقة الجواري اللي بتتعرض علي الملوك والأمراء.
كانت مصر والشام في الوقت ده تحت حكم الدولة الأيوبية، وسلطانها هو "السلطان الكامل ناصر الدين محمد بن العادل سيف الدين أحمد بن نجم الدين أيوب". يعني يبقي ابن أخو "الناصر صلاح الدين الأيوبي". وفي يوم عرض النخاس بضاعته من الجواري والعبيد في حضور الأمراء، وزي ما توقع النخاس "شجر الدر" زغللت عين الأمير "الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل ناصر الدين محمد"، وأشتراها منه.
"شجر الدر" مكنتش زي أي جارية عند "الصالح نجم الدين" دي ملكت قلبه وعقله، لأنها مطلعتش جميلة الشكل وبس، دي طلعة جميلة الروح وحكيمة وذكية ولماحة ودبلوماسية ولبقة وقارئة وكاتبة. يعني ست من النوع الخيالي اللي يحلم بيها أي راجل حكيم. عشان كده وصلت مع "الصالح نجم الدين" انه خلاها حظيته الأولي والأثيرة، ورفع مكانتها، ودخلها في أموره السياسية، ياخد رأيها ويستفيد من مشورتها، لدرجة أن رجلها كانت علي رجله في أي مكان وأي بلد، ميقدرش يستغني عنها ولا عن أراءها، كانت بالنسبة له الهوا والميا حرفيا. ولإن كل فعل له رد فعل، فقصاد حبه الشديد ده ليها، هي عشقته فوق العشق أضعاف. وجه اليوم اللي أنجبت فيه "شجر الدر" ابنها الوحيد "الخليل بن الصالح نجم الدين" فأعتقها وتزوجها، واتكنت علي إسمه ب "أم الخليل".
في رجب سنة 635 هجري مارس 1238م. توفي السلطان" الكامل ناصر الدين محمد". والأخوات من بعد موت أبوهم قطعوا في بعض، كل واحد طمعان في الحكم. فالأمراء اتلموا واتفقواعلي تقسيم التركة علي الأخوات، بحيث ابنه "العادل الثاني" ياخد الحكم بس يكون ابن عمه "الملك الجواد يونس" نائبه علي دمشق، و"الصالح نجم الدين" علي ممالك الشام. التقسيم ده كانت نار تحت الرماد وقامت التحالفات والمؤامرات بين الاخوات وولاد العم، وقدر "الصالح نجم الدين" ياخد دمشق من أخوه "العادل التاني". لكن استمرت المؤامرات والانقلابات، وكل الوقت ده كانت "شجر الدر" والخليل مرافقين ل "الصالح نجم الدين" في كل خطوة وبلد. لحد ربيع الاول 637 هجري أكتوبر 1239م، ما اتحالف "العادل الثاني" مع عمه "الملك الصالح اسماعيل" ضد "الصالح نجم الدين" ودبروله فخ وقع فيه وقدروا يقبضوا عليه هو وزوجته "شجر الدر" وابنه "الخليل" ومعاهم بعض من مماليكه، وودوهم حصن الكرك مكبلين بالأغلال، وسجنوهم فيه.
في حصن الكرك عانت "شجر الدر" مرارة وقسوة الحبس وذله مع زوجها "الصالح نجم الدين أيوب". لدرجة إنها كانت حامل وأجهضت في الحبس. يعني اتبهدلت بهدلة جامدة وعانت من الألم والتعب، لكنها استحملت وصبرت عشان تفضل جنب زوجها وتقويه. فضلوا محبوسين في حصن الكرك 7 شهور، لحد ما طلعه ابن عمه "الناصر داوود".
أول ما خرج "الصالح نجم الدين" من سجنه٬ فوجئ بدعوة من أمراء مصر٬ بيستنجدوا بيه من سفه وظلم أخوه "العادل التاني" اللي انشغل باللهو والشراب وساب البلاد سداح مداح. وفعلا سافر "الصالح نجم الدين" لمصر وطبعا معاه زوجته "شجر الدر" وابنه "الخليل"٬ ودخل مصر مع مماليكه اللي رباهم وعمل منهم جيش قوي جدا يكاد لا يقهر٬ وكانت مصر أبوابها مفتوحة ليه واخدها من غير تعب ولا مشقة٬ وقبض علي أخوه "الملك العادل التاني"٬ وهكذا تدور الأيام. قعد "الملك الصالح نجم الدين" علي عرش مصر وساب ابنه "توران شاه" علي حكم دمشق. أول ما استلم "الملك الصالح نجم الدين" الحكم٬ رفع "شجر الدر" مكانة عالية جدا٬ تقريبا كانت بتحكم معاه٬ كان الملك وهي الملكة المتوجة. وزي ما شاركته ذل ومهانة السجن خلاها تشاركه الحكم والنفوذ والسلطان. لكنها اتعرضت لألم جديد في حياتها وهو موت ابنها "الخليل" اللي كان عمره ۳ او ٤ سنين. ورغم كده فضلت "شجر الدر" علي مكانتها بالعكس ده زادت عظمة ونفوذ وكإن زوجها "الملك الصالح نجم الدين" كان قاصد يخفف عنها ويهون عليها. يعني كانت علاقة حب وثقة وتضحية فوق الوصف.
ومن كتر ما كان "الملك الصالح نجم الدين" واثق فيها ومن عقلها اللي يوزن بلد٬ كان بيطلع بره مصر في غزواته وحروبه٬ ويسيب "شجر الدر" مكانه تحكم مصر لحد ما يرجع. والحقيقة كانت كل مرة بتثبت جدارة وحسن بعد نظره فيها. وفضلت "شجر الدر" واقفة جنب "الملك الصالح نجم الدين" بقوة تشجعه وتحمسه وتشور عليه بأفكار وخطط لحد ما قدر يوحد الصف الاسلامي تاني وقدر كمان يرجع بيت المقدس من جديد بعد ما راح منهم تاني في عهد ابوه "الملك الكامل".
لما بيت المقدس (القدس) راح من ايد الصليبيين للمرة التانية٬ ثارت البابوية في أوروبا. وفضل ينادي ويدعوا ملوك أوروبا بالانتفاضة والهجوم علي "الملك الصالح" عشان ياخدوا منه بيت المقدس. لكن كانت نداءاته كلها في الهوا٬ محدش من ملوك اوروبا كان متحمس للحرب دي. في الوقت ده كان ملك فرنسا "لويس التاسع" مريض مرض عضال٬ لما سمع نداءات البابا للحرب٬ ندر ندر انه لو خف من مرضه هيقوم ويحارب المسلمين ويرجع بيت المقدس. وفعلا خف "الملك لويس التاسع" وطبعا اعتبرها علامة انه لازم يوفي بندره. وبدأ يجهز جيشه ومعداته وسفنه للحرب. بعت للبندقية (فينيسيا) واللي كانت أشهر مدن أوروبا في صناعة السفن٬ بيطلب منهم يجهزوله سفن لأسطوله الحربي. لكن البندقية رفضت عشان كان بينها وبين مصر علاقات اقتصادية كبيرة ومهمة٬ أهم من "لويس التاسع" وحروبه شخصيا٬ والمصالح لما تتصالح بتكسب. فاضطر يستعين بمرسيليا وجنوة٬ وجهز حملته ومعداته وجنوده وساب فرنسا لأمه "الملكة بلانش القشتالية" واتحرك أسطوله بالحملة الصليبية التاسعة سنة 1248م الي مصر.
في الوقت ده كان "الملك الصالح نجم الدين" في الشام بيخلص مشاكل وفرض سلطة ونفوذ مع أمير حمص المنشق عنه. وهو في حمص وصلته اخبار الحملة الصليبية اللي داخلة علي مصر. مصر اللي كانت علي عرشها "شجر الدر" مؤقتا لحد ما يرجع "الملك الصالح" من حربه. راح باعت "الملك الصالح" رسالة ل "شجر الدر" بيحذرها فيه بهجوم الصليبيين.
"شجر الدر" وصلتها الرسالة٬ متفزعتش ولا صوتت وعيطت ولا قالت ده انا لوحدي مكسورة الجناح. بعتت رسايل في الحال لكل أمراء المماليك في كل حتة في مصر٬ قالتلهم قوموا عندكوا طالعة. المماليك دول كانوا عندهم ولاء تام واخلاص رهيب لل"الملك الصالح نجم الدين" كانوا يفدوه بالروح والدم حرفيا مش نفاق ولا مصالح٬ لانه هو اللي رفعهم من عبيد وخدم مذلولين لجنود وفرسان وكمان امراء. فالمماليك كلها بمجرد ما نادت عليهم "شجر الدر" اتجمعوا من كل مكان تحت قيادة الأمير المملوكي "فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ" قائد الجيش. وبدأ في تجهيز الجيش وتنظيمه٬ وزي ما وجههم "الملك الصالح" طلعوا علي دمياط٬ حصنوها وحطوا الاسلحة والمتاريس والمجانيق فيها٬ عشان "الملك الصالح" من خبرته مع الصليبيين٬ وحروبهم القديمة في مصر٬ كان متأكد انهم هيدخلوا من دمياط. وبعت الملك الصالح نجم الدين" رسالة لشيخ قبيلة عرب كنانة يطلب منهم الإنضمام لجيش المماليك٬ عشان مشهور عنهم الشجاعة في الحروب. وبعت كمان اسطوله علي مصر مليان بالمؤن والذخيرة والاسلحة ومعدات الحرب علي دمياط.
اللي مكنتش تعرفه "شجر الدر" ان "الملك الصالح نجم الدين" كان مريض جدا في الشام٬ ولما خد خبر الحملة المتجهة لمصر. ساب حمص ورجع مصر بس مش علي حصانه٬ لا علي محفة المرض متشال. وفي دمياط فوجئت "شجر الدر" بمنظر "الملك الصالح" وهو داخل عليها متشال من المرض في قلعة دمياط.
وصل اسطول "لويس التاسع" شواطئ دمياط زي ما توقع "الملك الصالح" في يونية 1249م. وصل ولقي الاستعدادات والتحصينات فعرف ان الموضوع مش هيكون بالساهل. فاستخدم حرب النفسية٬ وده عن طريق رسالة لل"الملك الصالح" بيهدده فيها وبيوصفله بشاعة اللي هيحصله ولبلده لو مسلمش. في الوقت ده "الملك الصالح" كان مريض جدا٬ يعني كان ضعيف وهش نفسيا وجسديا٬ فلما وصلته الرسالة وقراها٬ اتأثر بيها جدا وعينيه اتملت بالدموع. وهنا كانت "شجر الدر" جنبه٬ فضلت تقوله ده كلام فاضي ده لولا خاف من منظر التحصينات مكنش كتب كده٬ دول اضعف مننا وياما دقت ع الراس طبول٬ تيجي ايه الحرب دي قصاد فتوحاتك وانتصاراتك٬ واحنا قدها ومماليكك وحلفائك رهن اشارتك وهم ادها واكتر. وقدرت "شجر الدر" تثبت عزيمة "الملك الصالح" من تاني. وبعت الرد ل "لويس التاسع" بيتحداه ويتمسخر بيه.
ونزل الجيش الصليبي شواطئ دمياط رغم المواجهة الشديدة من المماليك اللي حاولوا ميخلوهمش ينزلوا من مراكبهم. وفضل القتال داير٬ لكن الجيش الصليبي قدر يضغط علي الجيش المملوكي وكل شوية يتقهقر. لحد ما في يوم انسحب الجيش المملوكي بالليل علي جوا البلد نفسها. فالأهالي وسكان دمياط لما شافوا الجيش المملوكي داخل بيجري عليهم اتفزعوا٬ والناس عرفت ان الصليبيين اكيد داخلين وراهم٬ فطلعوا من بيوتهم حافيين من عز نومهم يجروا بكل فزع في نص الليل٬ ما بين صريخ وصويط والناس بقت تدوس علي بعض سايبين وراهم بيوتهم وفلوسهم وحالهم كله٬ هدفهم بس كله ينجا بحياته ويلا يا نفسي. طبعا كانت مأساة وفاجعة شديدة. ودخل الصليبيين دمياط يوم 6 يونية سنة 1249م٬ واستولوا عليها وعلي كل حاجة فيها من غير اي مجهود٬ استلموا مدينة اشباح فاضية مليانة بخيرات الله. وسلبوا ونهبوا٬ وعاشوا حياتهم٬ وحولوا جامع دمياط لكنيسة.
طبعا "الملك الصالح" غضب جدا من المهزلة اللي حصلت٬ ياريته انسحاب تكتيكي منظم٬ ده اتقلب لكارثة. وأمر بمعاقبة قبيلة عرب كنانة اللي اتسببت في الانسحاب ده٬ بشنق اكتر من 50 من كبارهم وامراءهم. لكن بسبب ضعفه ومرضه اللي بيسوء يوم ورا التاني٬ أجل التنفيذ.
وبرده فضلت "شجر الدر" جنب جوزها تحفزه وتشجعه وترفع من معنوياته٬ وكانت هي حلقة الوصل بينه وبين قواده بسبب شدة المرض٬ توصلهم قراراته واوامره عن طريق الرسايل المختومة بختمه وامضاؤه. واتنقل "الملك الصالح" مع "شجر الدر" وحاشيته٬ لقصره اللي بناه أبوه في جزيرة الورد.
في الوقت ده حصل الفيضان السنوي للنيل٬ فقعد الصليبيين 5 شهور ونص في دمياط. والوقت ده كان فرصة ذهبية للمماليك يرجعوا صفوفهم ويزودوا اسلحتهم ومؤنهم٬ وبالمرة كمان يقوموا بعمليات فدائية زي حرب الاستنزاف كده علي الصليبيين. وبرده الصليبيين مكنوش قاعدين ساكتين ده جالهم مدد من فرنسا وتعبئة في اكتوبر 1249م بقيادة اخو "الملك لويس التاسع" الأمير "الفونسو" كونت بواتييه.
يتبع....
مروة طلعت
30 / 9 / 2022
#عايمة_في_بحر_الكتب
#حواديت_مروة_طلعت
المصادر:
بدائع الزهور في وقائع الدهور جزء ۱ "ابن اياس"
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة جزء ٦ " ابن تغري بردي".
البداية والنهاية الجزء ۱۳ "ابن كثير".
تعليقات
إرسال تعليق