البهيجي

انتهيت من قراءة رواية "البهيجي" للروائي الكبير "مصطفي البلكي"، في طبعتها الأولي الصادرة عن دار سما، بعدد صفحات 286 صفحة.

حقيقي أقف حائرة٬ لا أستطيع أن اجمع كلماتي التي تستطيع وصف ذلك الإبداع المدون في رواية "البهيجي". رواية "البهيجي" هي لقائي الثاني مع الكاتب بعد رواية "نفيسة البيضا"٬ التي ذكرت سابقاً أنها سبب معرفتي بتلك الشخصية الثرية وتعلقي بها حتي دفعني ذلك التعلق بكتابة قصة حياتها التي تجدونها  هنا . من أين ابدأ الحديث؟. هل أتحدث عن معزوفة الكلمات٬ وروعة وجمال السرد٬ وعزوبة التعبيرات البلاغية؟ نعم٬ فلدي قائمة للكتاب أسميتها العازفين علي أوتار الأدب. و"مصطفي البلكي" أحد كتاب تلك القائمة. لا أبالغ عندما أقول إنني أتلذذ بإعادة قراءة بعض الفقرات وربما الصفحات من باب زيادة النشوة٬ وكأنني أستمع الي أم كلثوم أو مقطوعة لعمر خيرت.

أم أتحدث عن أسلوب الحكي الدائري المميز لكتابات "مصطفي البلكي"٬ والتي تقربه لاسلوب الروائي الكبير "بهاء طاهر". فبين الحوار في الحاضر والانتقال المفاجئ لمشاهد وذكريات من الماضي ثم السفر للمستقبل والعودة للحاضر٬ الكثير من الابداع اللغوي وخطوط رسم للأحداث ليست متداخلة علي قدر ماهي متضافرة. هذا الاسلوب قد لا يناسب مبتدئي القراءة٬ ولكنه قادر علي العصف الذهني٬ والتفكير المستمر لربط الأحداث. 

أم أتحدث عن غزارة المعلومات التاريخية التي غزت سطور الرواية لتنسج احداث دقيقة ومقبولة تاريخياً٬ وذلك أدي الي جعل الرواية واقعية الي حد بعيد بكل ماتحمله من مشاهد وأحداث.

فرواية "البهيجي" هي رواية تاريخية فلسفية٬ من النوع الذي أفضله٬ تدور أحداثها في حقبة حكم "محمد علي باشا". فيما بعد مذبحة المماليك وسيطرت "محمد علي" علي الحكم الديكتاتوري للبلاد. وعلي عكس الروايات التاريخية السائدة التي تهتم بالحكم٬ ومؤامرات قصور الحكم٬ ودسائس السياسة٬ فالرواية تكشف لنا شؤون البشر لا حاكم ولا محكوم. يدعبس الكاتب بداخل النفس البشرية٬ ويضع الكل أمام كاشف النوازع النفسية الداخلية. فالكاتب رسم كافة شخصياته مقسومة نصفها الجلاد ونصفها المجني عليه. كل منهم داخله الشيطان والملاك٬ كل منهم داخله مبررات لشره٬ واذا اتبعت الشر داخله وجدت أحدهم له اليد الطولي في بعث ذلك الشر. فلكل منهم له ثأر٬ أو بمعني أدق كل منهم هو الشرير في حكاية الآخر. 

فالأم المغلوب علي أمرها الضعيفة المنكسرة من الفقر وطغيان الحاكم والمقهورة من جور وفجور رجال الكتخدا٬ هي نفسها الشريرة في رواية إبنها فرح٬ فأتعسته وقهرته. هناك أيضا "شهرة" الغانية صاحبة أكبر ماخور للغواني٬ وفي الحقيقة هي من أكبر البصاصين٬ مصادر معلومات لاظوغلي والقلعة. فهي في الاصل ضحية الفقر وظلم المجتمع. وهناك أيضا "واد خيبة"٬ الشاب الريفي البسيط ابن السقا٬ الذي قاده رجال الكتخدا مع من قبضوا عليهم كالخراف من قلب أرضهم وطينهم٬ لتقديمهم للتجنيد الإجباري القسري. فتحول تحت غسل الأدمغة بشعارات كاذبة٬ لآلة بلا مشاعر أو عقل لدرجة أنه قتل أباه لمجرد أن الأخير عارض مولانا ولي النعم. وهناك "جرجس" الشاب الريفي البسيط عاشق للأرض وطينها من جدود الجدود٬ لدرجة إن أباه رفض الدفن في صندوق كالطريقة المسيحية٬ وطلب الدفن في باطن الأرض كالمسلمين ليلامس جسده طين الارض الذي عشقه٬ هو نفسه الذي قبل أن يكون جسده ركوبه للشيخ يمتطي عليه ليركب فرسه مقابل هروبه من جند الباشا والتجنيد. وهناك أيضا ولي النعم ذات نفسه "محمد علي باشا"٬ التاجر من قولة٬ العاشق لزوجته "أمينة هانم" ولأبنائه "إبراهيم وطوسون واسماعيل". فيقبل أن يتخلي عن كل ذلك ليحقق حلمه بأن يكون الباشا ولي النعم فيسير علي جثث ودماء من عارضوه ليصل٬ فيكتشف في الاخير انه سار علي قلبه ودمر قلب حبيبته وخسرها للأبد وسار علي جثث أبنائه أيضا. وفي الأخير هناك "محمد البهيجي" القارئ المتعلم مكتسب اللغات صاحب الألسن٬ من الذين خالفهم الحظ وقبض عليه رجال الكتخدا في احدي غزواتهم لقري الغلابة ليقتادوا الرجال كالنعاج للخدمة العسكرية. وكان علمه هو شفيعه ليقتصر علمه علي ان يصبح ترجمان للجيش الوليد ولسان لأوامر ولي النعم فقط. ولكن نفس العلم كان نقمة علي حماه العرضحالجي الذي بتروا له أصابع يديه حتي لا يكتب ما يخالف أوامر ولي النعم. فيدور "البهيجي" في دوامة رغبته في الثأر٬ وكلما وضع هدف لثأره يكتشف أن هناك من هو الأولي لثأره٬ حتي يضيع الثأر في رحابة الظلم.

لا أستطيع أن أغفل عن الحس الرومانسي في العلاقات الإنسانية المتشابكة للأبطال. هناك "محمد وفاطمة" و "فرح وصفيه" و محمد علي وأمينة". فالكاتب تفنن في الوصف بمنتهي الشاعرية والرقة والعذوبة.

كما كان اضافة بعض الكلمات التي كانت متداولة قديما في تلك الحقبة مع شرح لمعانيها أسفل الصفحة٬ زادت من ثقل المعلومات الممنوحة للقارئ.

رواية "البهيجي" تجعلك تشعر وتشاهد وتسمع الاحداث والحوار بعينيك واذنك وقلبك وعقلك. أتمني أشاهدها كعمل درامي قريبا.

مروة طلعت

٧ / ۲ / ۲۰۲۲

#عايمة_في_بحر_الكتب