مؤامرة محمد علي
_ في كتير من الأحيان، يشعر الواحد بالقلق من ناحية شخص آخر من غير مايقدر يحدد نوع القلق ده ايه. يظهر الشخص ده قدامك طاهر الذيل ومستقيم لا غبار عليه، لكن من جواك بيدق ناقوس خطر من ناحيته، ايه سببه؟ مش واضح، وغالبا ما بيكون الاحساس صحيح. وده اللي حس بيه "خسرو باشا" من ناحيتي، وبسبب الاحساس ده أرسلني مع رجالي بعيد عن مقر القيادة الي ضواحي القاهرة.
_ أفندينا "محمد علي باشا" متتصورش اد ايه أنا سعيدة جدا برحلتي معاك. بس ليا سؤال معلش. حضرتك قلت ان في الوقت ده كنت قاعد بتتفرج مبتعملش حاجة. يبقي ازاي "خسرو باشا" شك فيك؟ علي أي أساس؟!.
_ أنا فعلا مكنتش مشارك في أي حاجة لا قولا ولا فعلا. بس كنت بحب اخالط عامة الشعب. أنزل بين الناس، أقعد علي القهاوي واتعرف علي الناس واشاركهم حجر معسل. وشوية بشوية بدأت الناس تحس اني مختلف عنهم وترتاحلي، خصوصا ان فرق الألبان لما اتأخرت عليهم الرواتب نزلوا الشوارع والأسواق وفرضوا علي الناس اتاوات ادرجة كان الواحد منهم يدخل محل يقعد فيه ويقول لصاحب المحل أنا شريكك هات نص ايراد النهارده. فلما ظهرت انا وسط الناس بالشكل المختلف ده، فحصل بيني وبين كبار قادة الشعب كلام وتفاهم، والكلام فتح أبواب كتير من الود والمحبة والثقة.
_ ياساتر للدرجة دي الوضع كان متفحل.
_ لا الوضع كان لسه في البداية. في شهر ابريل 1803م وقعت المنيا في ايد المماليك. والمنيا زي منتي عارفة بوابة الصعيد. وبناءا عليه الصعيد كله بقي في ايد المماليك وانقطع الصلة بينه وبين حكم العثمانيين.وكان لسه "خسرو باشا" مفقش من خبطة المماليك جاله شهر يوليو بخبطة أشد من الألبان.
_ طبعا عاوزين رواتبهم المتأخرة. وخصوصا ان دول مش فرق نظامية دول فرق مرتزقة يعني ابوهم وجدهم الفلوس.
_ بالظبط. راح الألبان ل "طاهر باشا" المسؤول عن فرق الألبان مطالبين برواتبهم المتأخرة. فراح قالهم روحوا ل "محمد علي" نائبي هو اللي معاه ضرائب الصعيد هيديكوا منها.
_ العب. وطبعا دي كانت أغبي حاجة عملها "طاهر باشا".
قهقه الباشا ضاحكا بصوت عالي وقال: _ منكرش انه جابلي فرصة ذهبية لحد عندي. طبعا أنا قلتلهم ضرايب ايه والمماليك خلاص أخدوا الصعيد. ده بيضحك عليكم وشكله مش ناوي يديلكم فلوسكم.
_ وطبعا منستش يا باشا تحط بنزينك فوق نارهم. وشويتين من استمروا وماضاع حق من ورائه مطالب. وانتم أمل ألبانيا يارجالة، طول عمر العثمانيين واكلين قوتنا. وجدودنا راضيين عليكم.
قهقه الباشا مرة أخري وقال: _ حاجة زي كده. المهم يرجع الألبان بغضبهم ويطالبوا برواتبهم فيرد عليهم "خسرو باشا" وقالهم (لن أدفع شيئا ولن أعطي أي أمر بالدفع، وعلي هؤلاء المرتزقة أن يغادروا بلدي، ويرحلوا عنها، والا أذقتهم الموت جميعا). والغريب بقي ان "خسرو باشا" نسي انه بيكلم 6 آلاف من خيرة المحاربين.
_ حقيقي ده رد نسف الواقع. واضح ان عضلاته مقوية قلبه.
أشار الباشا علي ميدان الأزبكية وقال: _ في المكان اللي هناك ده كان موجود قصر "خسرو باشا". فجأة لقي نفسه محاصر فيه بعد ما أعلن العصيان في صفوف فرق المرتزقة. وبدأ ضرب النيران والمدافع بشكل عنيف ومخيف. لدرجة أن الأهالي المدنيين اترعبوا وحصل هرج ومرج وكل الناس بقوا يجروا من بيوتهم ومحلاتهم وكأن الحرب قامت وسط شوارعهم. ودخل الجنود المرتزقة المحلات والبيوت _ بعد ماهرب أهلها ومات منهم اللي مات _ نهبوها وسرقوا كل مافيها. ونزلت مجموعة موالية للوالي تنادي علي الناس في الشوارع تستنجد بيهم يقفوا ويشيلوا السلاح في صف الوالي لكن مفيش حد من المصريين استجاب.
_ طبعا هيستجابوا ازاي وهم معملوش حساب اليوم ده وكانوا هرينهم ضرايب وسخرة وآخرها رعب ونهب أموال.
_ ظهر "طاهر باشا" وأعلن مؤازرته للمتمردين الألبان اللي هو كان قائد عليهم وطالب بتسليم مفاتيح قصر "خسرو باشا" فسلمهاله الخازندار مسؤول القصر من خوفه من قوة الألبان والمتمردين. وفي الوقت ده بالذات قررت أن ده وقت التدخل الصح.
_ أخيرا هتتحرك ياباشا. وياتري وقفت مع مين ضد مين.
_ لا انتي فهمتيني غلط.
وضحك الباشا وقال: _ انا مقفش مع حد ضد حد. انا اتدخلت كضيف شرف وبس.
_ ده اللي هو ازاي ياباشا.
_ يعني انا كنت موجود هنا برجالتي في الأزبكية. بالنسبة للألبان والمتمردين داعم معنوي. وبالنسبة للوالي والعثمانيين انا اهو واقف موجود مهربتش.
_ يابن اللعيبة. لا مؤاخذة ياباشا بس حقيقي دماغك ألماظ. يعني انت يا أفندينا لعبت دور مزدوج مشارك ومتفرج ومتآمر وبتغير سيناريو الأحداث. وطبعا طبقا لسياسة فرق تسد اتحركت.
_ طبقا لقانون ميكافيللي الغاية تبرر الوسيلة.
_ أه طبعا ده كان قانون حياتك كلها، عشت ميكافيللي يا باشا.
_ تاني يوم من الأحداث الدموية دي كان قصر "خسرو باشا" اتحرق واتهدمت معظم بيوت الأزبكية من ضرب المدافع لدرجة إن اتقال "خسرو باشا" أغم عليه من كتر دوي المدافع.
_ مش كان عامل فيها سبع البرومبة وقالهم مش دافع وراح مشوح بإيده كده. يستاهل.
_ لما فاق "خسرو باشا" ولقي نفسه ضاع لم أهل بيته وهرب علي دمياط. ونصب "طاهر باشا" نفسه الوالي لحد مايجي فرمان الباب العالي.
_ طبعا القرار ده هدي المتمردين خصوصا إن "طاهر باشا" خد صفهم من أول التمرد. وأنت عملت ايه ياباشا كده ظهرك وجه جديد في الحكاية ومتضامن مع المتمردين يعني مش ليك سكة تفرق بيها بينهم.
_ لا ولا شغل دماغي الموضوع ده، كنت عارف انها مسألة وقت قليل و"طاهر باشا" هيلف حبل مشنقته بايده حوالين رقبته.
_ ليه؟ ازاي ياباشا؟!.
_ "طاهر باشا" كنت أنا النائب بتاعه مع "حسن باشا"، يعني حافظه كويس وعارف أنه لاعب خيبان، ومش شايف أبعد من تحت رجليه.
_ أمال انت عملت ايه ياباشا في الوقت ده.
_ رحت الصعيد واتحالفت مع "البرديسي بك" زعيم المماليك. ماهو الوقت ده وقت المتمردين، يعني العثمانية فيها طرف أضعف. واتفقنا علي القبض علي "خسرو باشا" وقدمناه أسير هو وعائلته في سجن القلعة.
_ طيب و"طاهر باشا" عمل ايه؟.
_ "طاهر باشا" عمل خطاب للشعب يطمنه ويعتبر عن حالة الخوف والهلع اللي حصلت. ويتعهد بإن مصالح الناس وحقوقهم هتحترم، ويؤكد إن حقوق المسيحيين هتحفظ، وإن سياسته هتكون سياسة مختلفة تماما عن اللي سبقوه.
_ وياتري ده حصل فعلا.
قهقه الباشا ضاحكا وقال: _ هي فعلا اختلفت لأنه طبق نفس سياسة جمع الضرائب من جلد الشعب وفوقيها حملات ابتزاز وتعذيب وسجن من غير سبب لأي حد يكح مش بس يتكلم. ونجح في فترة قصيرة جدا في استعداء الشعب وكمان فرقة الانكشارية العثمانية. لأنهم طبعا مغلولين منه لأنه وقت مع المرتزقة المتمردين ضد العثمانيين.
_ أوبا. جالك الموت ياتارك الصلاة.
_ فعلا بعد ٣ أسابيع بس من توليه الحكم حصل تمرد في صفوف الإنكشارية، وقدروا يقتحمون عليه قصره ويقطعوا رأسه ويرموها من الشباك.
_عنيفين أوي الإنكشارية دول. طيب ومصر مين مسكها ياباشا في الفترة الحرجة دي.
_ كان نواب "طاهر باشا" أنا و"حسن باشا". "حسن باشا" شاف إن الجو ملبش ومش أده فأنسحب من نفسه.
_ قالك كفي الله المؤمنين شر القتال.
_ بالظبط. وفي شهر يونيو ١٨٠٣م يدخل بكوات المماليك مرة تانية للقاهرة بعد ما عقدت معاهم الصلح. وبقت القاهرة تحت قيادتي ومعايا الألبان والمماليك، في انتظار الوالي الجديد اللي هيبعته الباب العالي.
مروة طلعت
25 / ٩ / ٢٠٢١
تعليقات
إرسال تعليق