ايفيلين بوريه
مصر دائما مليانة بالخير... مليانة بالكنوز... وأعظم كنز فيها هم ولادها، أهل مصر اللي جزاهم الخير وجواهم قوة كبيرة ومواهب عظيمة مش حاسين بيها، وللأسف حتي مش مقدرين قيمتهم.
حكاية النهاردة حكاية ست مصنوعة من الإنسانية... فنانة تري العالم بمشاعر مرفهة... محبة البساطة والجمال... روح طيبة عدت من هنا فجرت بانسانيتها وفنها القوة والموهبة المدفونة في قلب أهل قرية صغيرة في محافظة الفيوم.
"إيفيلين بوريه"
في ستينات القرن الماضي جت بنت سويسرية خريجة فنون تطبيقية من جامعة جنيف مع والدها لمصر في شغل. اتعرفت علي الشاعر "سيد حجاب" وربط بينهم الحب واتكللت بالزواج. لكن "إيفيلين" بحسها المرهف كانت كارهه زحام القاهرة وحاسة أنها خنقاها لدرجة فكرت انها تمشي وترجع بلدها. حاول "سيد حجاب" يهيألها الجو اللي ترتاح فيه، وفي سنة ١٩٦٥م سمع عن قرية جميلة في محافظة الفيوم اسمها "قرية تونس". وسافرت "إيفيلين" لقرية تونس الواقعة على بعد 60 كيلو متر من مدينة الفيوم، وأكثر من 100 كيلو متر من القاهرة، وعلى ضفاف بحيرة قارون، وقريبة من شلالات وادي الريان بمركز يوسف الصديق، بمحافظة الفيوم، شمال صعيد مصر، حيث الهدوء والخضرة والماء، أعجبت "ايفلين" بهذه الأجواء.
لكن نظرا لظروف عمل "سيد حجاب" مقدرش يحقق لها أمنيتها في الحياة في القرية رائعة الجمال دي. فكان الطلاق نهايتهم بعد خمس سنين زواج، ورجعت سويسرا.
لكن فضلت قرية تونس بجمالها وموقعها الساحر تراود احلام "إيفلين". وفي سنة ١٩٧٩ رجعت "إيفيلين" لقرية تونس الفيومية بصحبه زوجها السويسري "ميشيل باستوري". كانت قرية تونس قرية صغيرة جدا فيها بيوت، ويغلب عليهم الفقر واكل عيشهم من الزراعة وشغل الغيط. بدأت"إيفلين" تندمج في مجتمع القرية وتتقرب من الستات من خلال تقليد لبسهم واكلهم وقعدتهم وقدرت تكتسب اللغة وتتكلم عربي باللهجة الفيومية. وعاشت نفس عيشة أهل القرية في بيت من الطوب اللبن ومن غير كهربا ولا مية، تشرب من الطلمبة وتمشي حافية، وكانت تقضي وقتها بين العمل والقراءة أو الاستماع إلى أغاني مطربتها المفضلة فيروز. وكانت سعيدة جدا بالحياة وسط الريف وجمال الزرع والماء والروح الحلوة لأهل القرية. اندمجت في حياة القرية وشاركت أهلها أفراحهم وأتراحهم، وعُرفت بينهم بأم أنجلو
لحد ماجه اليوم اللي ابتدت فيه حياة قرية تونس تنقلب رأسا علي عقب. يوم ماخرجت "إيفلين" تتمشي ولقت اطفال القرية بيلعبوا في طين الغيط وبيشكلوا منه اشكال طيور وحيوانات. راحت "إيفلين" قعدت وسطهم وبدأت تلعب معاهم وتشكل من الطين أشكال زيهم واكتشفت اد ايه الأطفال دي عندها موهبة جميلة وخيال واسع. ومن هنا خطرت ل "إيفلين" فكرة نابعة من تخصصها أنها تستغل موهبة الاطفال وتعلمهم الخزف وصنع الفخار.
وآمنت "إيفلين" بوجهه نظري المهندس "رمسيس ويصا واصف" في قدرة الإنسان على الإبداع الفطري أيا كانت درجة تعليمه ومؤهلاته. وشدت العزم واستعانت بالمعماري "عمر الفاروق" عشان يساعدها في اختبار طمي قرية تونس في الحرق في افران تصنيع الفخار، وقررت ضرورة إنشاء مدرسة لتعليم الخزف للاطفال، مدرسة تعلم طريقة صناعة الخزف مع حرية الرسم والإبداع للاطفال النابع من موهبتهم الفطرية وجو بيئتهم الساحر، واللي حرصت علي انها تكون مدرسة حرة غير نظامية، عشان القيود دائما ما تقتل الابداع، فكان الاطفال يروحوا يساعدوا اهاليهم في الغيط ويطلعوا بعدها علي مدرسة "إيفلين" وقت ما يكونوا فاضيين يتعلموا صناعة الخزف وفنونه. وساعدها زوجها علي استخراج الأوراق اللازمة لإنشاء مدرسة الخزف وأصرت أنها تتبني بنفس الطراز الريفي والطين اللبن المميز لبيوت القرية. وعاشت "إيفلين" في قرية تونس لامار من ٥٠ سنة تعلم أبناء القرية صناعة الفخار والخزف وانجبت فيها أبناءها انجلو وماريا.
مبخلتش "إيفلين" بخبرتها في مساعدة الشباب الراغبين في الاستقلال بأعمالهم ممن تخرجوا على يديها، وساندتهم وقدمت لهم المشورة وساعدتهم في تسويق أعمالهم أو تصديرها إلى الخارج. واضاف صناعة الفخار والخزف في قرية تونس في مجئ عديد من المبدعين المصريين والأجانب للإقامة فيها، ومن بينهم على سبيل المثال المترجم البريطاني "دنيس جونسون" اللي ترجم روايات "نجيب محفوظ" إلى الإنجليزية، والفنان المصري "محمد عبلة" الذي أسس هناك مركزاً فنياً ومتحفاً لفن الكاريكاتير، والفنان الإسباني "خافيير بوغمارتي".
وعملت معارض كتير لعرض اعمال خريجين مدرستها، معارض محلية في مصر وعالمية في سويسرا وفرنسا وغيرهم. واتحولت قرية تونس من قرية عادية من آلاف القري المصرية اللي ميتسمعش عنها الي قرية لها اسمها وذكرها في العالم مرتبطة بفن الفخار والخزف.
وطبيعي لما اتحطت قرية تونس في سبوت عالمي خلي المستثمرين ورجال الأعمال يبنوا الفنادق والكافيهات والمنتجعات فيها لاستقبال السياح والقادمين لرؤية فنون قرية تونس. فاتحولت القرية كليا وبقت قطعة من أوروبا ولكن علي طراز الريف المصري، بقت جنة علي الارض.
فضلت "إيفلين" أو _ ام انجلو زي ماتحب الستات يندهولها_ عايشة في قرية تونس ووصلت لما تموت اندفن في حديقة بيتها في القرية. وفي يوم ١ يونيو ٢٠٢١ توفت "إيفلين بوريه" عمر ناهز الثمانين قضت منهم اكتر من خمسين سنة في قرية تونس.
ودعها طلابها ومحبيها واهل القرية كلهم في جنازة مهيبة، عبروا فيها عن حزنهم علي الست اللي غيرت حياتهم بإنسانيتها وفنها.
تعليقات
إرسال تعليق