موقعة حارم
في قلب سنون الحروب الصليبية علي الشرق، واحتلالها وتدميرها لبلاد الاسلام، مستغلين قليلا من سنوات ضعف ألمت بالأمة الاسلامية، ظهر بطل مسلم حمل راية الجهاد وأعاده الهيبة لكثير من البلاد الاسلامية، وأصبح أسمه يبعث الخوف والقلق في قلوب الصليبيين. أسمع تقول "صلاح الدين الأيوبي"!. كلا ياصديقي، فبطلنا اليوم أعظم من "صلاح الدين" بل أنه هو من مهد ل"صلاح الدين" الطريق كثيرا، ولا أن وافته المنية كان فعل مافعله "صلاح الدين".
إنه "نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي", الملك العادل منقذ قبر النبي "صلي الله عليه وسلم" _ تلك قصة أخري سنسردها مع حكاية "نور الدين" بالتفصيل في لقاء أخر بإذن الله _ الذي ينتسب الي الساحقة الاتراك الذي مشهورين عندهم رسالتهم في القتال والشجاعة، وهو الابن الثاني ل"عماد الدين زنكي" الذي كان تحت إمارته كلا من منبج وحلب وحماة وحمص وبعلبك في الشام. اختار "عماد الدين" إبنه الثاني "نور الدين" وقدمه لذكائه الشديد وحكمته الاداريه وفروسيته ليكون خليفته. وبالفعل ما إن استقر " نور الدين" علي ولايته بعد أبيه حتي وسع مملكته حيث شملت إمارته معظم الشام، وتصدى للحملة الصليبية الثانية، ثم قام بضم مصر لإمارته وإسقاط الفاطميين والخطبة للخليفة العباسي في مصر بعد أن أوقفها الفاطميون طويلا، وأوقف مذهبهم. وبذلك مهَّد الطريق أمام صلاح الدين الأيوبي لمحاربة الصليبيين وفتح القدس بعد أن توحّدت مصر والشام في دولة واحدة. تميَّز عهده بالعدل وتثبيت المذهب السنّي في بلاد الشام ومصر، كما قام بنشر التعليم والصحة في إماراته، ويعده البعض سادس الخلفاء الراشدين.
في سنة ٥٥٨ هجريا إنهزم "نور الدين محمود" في إحدي معاركه مع الصليبيين في موقعة "البقيعة"، وبعدها بدأ نور الدين -رحمه الله- بتجهيز قواته، استعدادًا لمواجهة الفرنج والأخذ بالثأر، وكان قد خصص أموالاً من بيت المال ينفقها على العلماء والعباد والفقراء، فقال له بعض أصحابه لما رأى كثرة إنفاقه: "لو استعنت بهذه الأموال في هذا الوقت لكان أصلح"، فغضب عليهم وقال: "والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك، فإنّما تُرزقون وتنصرون بضعفائكم، كيف أقطع صلاة قوم يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطئ، وأصرفها على من لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطئ؟ وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال، كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم؟". كانوا قوم يعقلون لذلك كان الله معهم وينصرهم.
في هذا الوقت كان "نور الدين محمود" مولي علي مصر إحدي قواد جيوشه "أسد الدين شيركوه" ومعه ابن أخيه " صلاح الدين الايوبي"، وكان الصليبيين كثيرين الغزو لمدينة دمياط وكان بينهم وبين "أسد الدين وصلاح الدين" الكثير من الفر والكر في دمياط.
وفي سنة 559هـ خرج الفرنج من "عسقلان" لقتال "أسد الدين شيركوه" بمصر، فاستغل "نور الدين" فرصة خروجهم، وراسل الأمراء يطلب العون والنصرة، فجاءوا من كل فَجّ، وكتب إلى الزُهَّاد والعباد يستمدّ منهم الدعاء، ويطلب أن يحثوا المسلمين على الغزو والجهاد في سبيل الله.
ولما اجتمعت الجيوش سار نحو "حارم " -وهو حصن حصين في بلاد الشام ناحية حلب في سوريا حاليا - في شهر رمضان من هذه السنة، فحاصرها ونصب المجانيق عليها، ثم تابع الزحف للقاء الفرنج الذين تجمعوا قريبًا من الساحل مع أمرائهم وفرسانهم بزعامة أمير أنطاكية.
وقبل المعركة ابتعد "نور الدين" عن جيشه وانفرد بنفسه تحت "تل حارم"، وسجد لله ومرغ وجهه في التراب وظل يبكي ويتضرع لله فهو الملك القوي لكنه أمام الله العبد الذليل وقال: "يا رب، هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك، فانصر أولياءك على أعدائك"... "أيش فضول محمود في الوسط"؛ وهو يعني أنك إن نصرتنا فدينك نصرت، فلا تمنع النصر عن المسلمين بسببي، ثم قال: "اللهم انصر دينك ولا تنصر محمودًا، مَن محمود الكلب حتى يُنصر؟!".
وبدأ القتال والتحمت الصفوف، فهجم الصليبيين على ميمنة الجيش الإسلامي حتى تراجعت الميمنة، وبدا وكأنها انهزمت، وكانت تلك خطة المسلمين اتُّفِق عليها "نور الدين محمود" مع قواد جيشه لكي يلحق فرسان الصليبيين ميمنة الجيش الاسلامي، ومن ثَمّ تنقطع الصلة بينهم وبين المشاة من قواتهم؛ فيتفرغ المسلمون للقضاء على المشاة، وعند رجوع الفرسان لم يجدوا أحدًا من المشاة الذين كانوا يحمون ظهورهم. وبهذه الخطة أحاط بهم المسلمون من كل جانب، وألحقوا بهم هزيمة عظيمة، وخسائر فادحة قُدِرت بعشرة آلاف قتيل، ومثل هذا العدد أو أكثر من الأسرى، وكان من بين الأسرى أمير "أنطاكية"، وأمير "طرابلس"، وحاكم "قيليقية" البيزنطي، وقد أسر جميع الأمراء عدا أمير "الأرمن".
وفي اليوم التالي استولى نور الدين على "حارم" بعد أن أجلى الفرنج عنها، وكان ذلك فتحا كبيرا، ونصرا مبينا أعاد للمسلمين الهيبة في قلوب أعدائهم، وأعزّ الله جنده وأولياءه في شهر رمضان المبارك.
مروه طلعت
3/5/2021
#عايمة_في_بحر_الكتب
تعليقات
إرسال تعليق