معركة حطين

تأخرت في كتابة تلك المقالة لأنني لا اعرف بأي وجه سأكتبها، كيف اكتبها والخزي والعار فوق رؤوسنا، كيف اسطر حروفي عن فتح القدس، والقدس اليوم في نار وضياع، مستباح من أبناء الشيطان. القدس درة القلب المكنون التي لا تجد لها صاحب ولا معين، انشغلوا عنها بمسلسلات تدمرت الباقي من شرف الأمة. إن تنصروا الله ينصركم، وكيف ينصرنا وقد نسيناه وعلينا في الأرض تجبرا وتمردا علي احكامه، هذا ما صنعت ايديكم.
 أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، و انصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر و رمل الذاكرة
و خذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا
انكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء
 أيها المارون بين الكلمات العابرة
منكم السيف - ومنا دمنا
منكم الفولاذ والنار- ومنا لحمنا
منكم دبابة أخرى- ومنا حجر
منكم قنبلة الغاز - ومنا المطر
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
وادخلوا حفل عشاء راقص .. و انصرفوا
وعلينا ، نحن ، أن نحرس ورد الشهداء
و علينا ، نحن، أن نحيا كما نحن نشاء 
(محمود درويش)
بعد وفاة "نور الدين محمود زنكي" وقد سبق أن تحدثنا عنه هنا في موقعة حارم، وبعد وفاة "عموري" ملك مملكة بيت المقدس الصليبي، ووفاة "أسد الدين شيركوه" قائد جيش "نور الدين" في مصر وعم "صلاح الدين". اصبح "صلاح الدين الأيوبي" القوة الرئيسية التي تواجه دويلات الصليبيين في المشرق، وقد تركزت جهوده على توحيد القوى في مصر والشام لمواجهة العدو المشترك وإضعافه تمهيداً للقضاء على الوجود الصليبي في المنطقة، ونجح "صلاح الدين" في دمج بلاد كثيرة من بلاد الشام والجزيرة العربية وغيرها إضافة إلى مصر واليمن تحت سلطته الكاملة. في حين شهد المعسكر الصليبي انهياراً سريعاً فيما بينهم لتنازعهم علي السلطة بين صغار الأمراء، فتوجه زعمائهم بالاستغاثة إلى الغرب ثانية، وتمخضت جهود البابا "ألكسندر الثالث" عن بعض النجاح في هذا الصدد.
وقع الملك "بلدوين الرابع" ملك بيت المقدس هدنة مع "صلاح الدين الأيوبي"، تحددت مدتها بسنتين، بدأت من عام 1180م. من شروط الهدنة حرية التجارة للمسلمين والمسيحيين وحرية اجتياز أي من الطرفين بلاد الطرف الآخر. لكن " رينالد دي شاتيون" المعروف ب "أرناط" امير أنطاكية وأمير الكرك والشوبك لم يقبل أن تمر قوافل المسلمين حاملة الثروات والأموال من منطقته بدون مقابل. في صيف عام 1181م خرج "أرناط" مع قوة كبيرة، متجها إلى تيماء، على الطريق التجاري بين دمشق والمدينة مكة، حيث سطى على قافلة عربية واستولى على كل ما تحمله من ثروة وأسرى من فيها، منتهكا هدنة 1180.
قام "صلاح الدين" بمراسلة "بلدوين الرابع" بغضب مذكرا اياه بالهدنة وطالباً التعويض. فقام "بلدوين الرابع" بمخاطبة "أرناط" في الأمر، فرفض "أرناط" طلبه. أستطاع المسلمون أن يأسروا أكثر من 2500 حاج فرنجيا كانت سفنهم قد جنحت إلى مصر بعد كانوا في طريقهم إلى بيت المقدس. أمر "صلاح الدين" بحبسهم ثم راسل "بلدوين" عارضا أطلاق سراحهم مقابل السلع والسبي التي نهبها "رينالد". رفض "رينالد" المبادلة، واندلعت الحرب. في فبراير 1183، دعا "أرناط" فرسان الصليب للسيطرة على مكة والمدينة وليس ذلك فحسب بل اقسم أن ينبش قبر الرسول محمد. وبغرض إلهاء صلاح الدين عن القدس أرسل بعضا من رجاله لهذه المهمة، مما إضطر "صلاح الدين" لإرسال جيش من دمشق لإيقافهم.
توفي "بلدوين الرابع" عام 1185 تاركاً "ريموند الثالث" وصياً على العرش بناء على اتفاق سابق. وتوفي خليفته "بلدوين الخامس" في السنة التي تلت، وتغلب حزب البلاط على بقية البارونات متجاوزاً ترتيبات الوراثة المتفق عليها وتوجت "سيبيل" ملكة، وتولت هي تتويج زوجها "غاي لوزنيان" ملكاً على مملكة بيت المقدس.
لم يدرك "أرناط" بأن حركاته الصبيانية قد أخرجت مارد الغضب من صدر "صلاح الدين" _ دبور وزن علي خراب عشه _ قرر صلاح الدين إعلان الحرب على مملكة المقدس.
كانت قوات "صلاح الدين" تضم 12 ألف فارس، و13 ألفا من المشاة وقوة كبيرة من المتطوعين ورجال الاحتياط، وفي الجانب الآخر حشد الصليبيون 22 ألفا بين فارس ومشاه، والتحق بهم عدد كبير من المتطوعة حتى روي أنه زاد عددهم على الستين ألف.
عبر "صلاح الدين" بجيشه نهر الأردن جنوبي طبرية، وسار في اليوم التالي إلى تل كفر سبت (كفر سبيت) في الجانب الجنوبي الغربي من طبريا، وحاول الاشتباك مع الصليبيين، فرفضوا القتال، وفي 2 يوليو ١١٨٧م استولى جيش "صلاح الدين" على بحيرة طبرية قاطعا على عدوه طريقه إلى الماء. 
اعتمد "صلاح الدين" في حربه علي تكسير الروح المعنوية الصليبيين قبل المواجهه وانهاكهم. وقد واجه الجيش الصليبي المتقدم عدة مشكلات أثرت تأثيرا سلبيا على قدراته القتالية، منها:
- انحطاط روح أفراده المعنوية، بعد الانقسام في الرأي بين القادة؛ فساروا مُكرَهين بين مؤيد للزحف ومعارض له.
- اشتداد حرارة الجو اللافحة في شهر يوليو.
- افتقارهم إلى الماء.
- صعوبة الطريق الذي بلغ طوله ستة عشر ميلاً.
- تعرضهم لهجمات المسلمين الخاطفة.
في كل مكان أحرق المسلمون الأعشاب والشجيرات، وكان الريح تحمل الأدخنة والحرارة في اتجاه المعسكر الصليبي، فزاد من عذابهم واجهادهم خصوصا مع انعدام ماء الشرب، فنزلوا مسرعين إلى حطين، حيث كان ينتظرهم "صلاح الدين" وهناك دارت معركة رهيبة انتصر فيها الجيش الإسلامي انتصارا عظيما، وهاجمت قوة صليبية بقيادة "ريموند الثالث" المسلمين في بداية القتال، في محاولة لاحتلال الممر المؤدي إلى قرية حطين حيث بعض ينابيع الماء والآبار، فانفصلت عن باقي الجيش الذي كان يتبعه، وعندما وصل أفرادها إلى الممر وجدوا أنفسهم مطوقين من جانب المسلمين، فحاولوا شق طريق لهم عبر صفوف المسلمين، ولكن الرماة رموهم بالنبال، فلقي عدد كبير منهم مصرعهم على الفور، بينما وقع آخرون في الأسر.
في ظل هذه الفوضى التي ضربت الجيش الصليبي، حاول الملك "ريموند الثالث" أن ينصب خيمة تكون مركزا لإعادة التجمع، حيث لاحظ ما آلت إليه الأوضاع العسكرية من التدهور، فأيقن قبل أن تنتهي المعركة أن النصر سيكون في صالح "صلاح الدين"، ولذا بذل كل ما عنده من ذكاء لينجو بنفسه من الموقعة، فحاول أن يتراجع لكنه أخفق، ثم علت الصيحات بين صفوف الصليبيين: "من كان منكم يستطيع الهرب فليهرب؛ لأن المعركة ليست في جانبنا"، لكن الهرب -حتى الهرب- كان مستحيل.
وكرر "ريموند الثالث" محاولته فك الطوق عن قواته، والانسحاب من المعركة عن طريق القيام بصدمة الجناح الإسلامي المقابل له بقيادة "تقي الدين عمر"، وقد نجحت خطته عبر ثغرة فتحها له القائد المسلم، وبعد أن اخترق صفوف المسلمين، أغلق القائد المسلم الثغرة، فانسحب "ريموند" من ساحة القتال، واتخذ طريقه إلى صور، ومنها إلى طرابلس.
تجمع بعض فرسان الصليبيين حول خيمة ملك مملكة بيت المقدس لشن هجوم مضاد، لكن "صلاح الدين" عاجلهم، فاندفع المسلمون الذين صعدوا إلى التلة التي نصبت فيها الخيمة وأنهوا المعركة، وأسروا كل من كان حول الملك وفيهم الملك نفسه وأخوه، و"رينولد دي شاتيون" صاحب الكرك، والكثير من جماعة الداوية والإسبتارية المعروفين بفرسان الهيكل، وكثر القتل والأسر فيهم.
سيق الأسرى إلى خيمة "صلاح الدين" التي أقامها في مكان المعركة، فاستقبل الملك والأمراء في لطف وبشاشة، وأجلس الأول إلى جانبه، وقد أهلكه العطش، فسقاه كأس ماء مثلج، فشرب منه وأعطى ما تبقى إلى "ارناط" الذي كان إلى جانبه، ووفقا لتقاليد الضيافة العربية متى جرى بذل الطعام أو الشراب للأسير، فإن ذلك يعني الإبقاء على حياته، ولذا بادر صلاح الدين إلى القول: "إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني فيناله أماني". فقد أقسم "صلاح الدين" سابقا علي قتل "أرناط" بيديه.
ثم التفت إلى "أرناط" وأخذ يذكره بجرائمه وخيانته وغدره، ثم قام إليه وضرب عنقه بنفسه، فارتعد الملك وظن أنه سوف يحل دوره، غير أن "صلاح الدين" سكن جأشه وأمنه، وقال له: "إن الملك لا يقتل ملكًا، وإنما هذا فإنه تجاوز الحد، فجرى ما جرى".
استمر "صلاح الدين" في الزحف من بعد حطين حتي وصل إلي ابواب بيت المقدس "القدس" والاستيلاء علي كل البلاد التي يمر عليها وتطهيرها من الوجود الصليبي، وأرسل إلى قائد أسطوله في مصر "حسام الدين لؤلؤ" أن يخرج بأسطوله من مصر لحماية الشواطئ، وقطع الطريق على مراكب الصليبيين والاستيلاء عليها.
ويبدو أن سكان بيت المقدس قد أدركوا بعد تساقط المدن والمعاقل الداخلية والساحلية بيد "صلاح الدين"، أنهم أضحوا محاصرين فعلا، فأرسلوا إليه وفد اجتمع به أمام عسقلان، فعرض عليهم تسليم المدينة بالشروط نفسها التي استسلمت بها بقية المدن والمعاقل الصليبية، أي يؤمنهم على أرواحهم ونسائهم وأولادهم وأموالهم، وأن يسمح لمن يشاء بالخروج من المدينة سالم، ولكن سكان بيت المقدس رفضوا أن يسلموا المدينة، عندئذ أقسم "صلاح الدين" أنه سوف ينالها بحد السيف.
ثم كرر "صلاح الدين" عرضه على سكان بيت المقدس، وذلك رغبة منه في عدم استخدام العنف مع مدينة لها حرمتها وقدسيتها عند المسلمين والمسيحيين على حد سواء، لكنهم أصروا على موقفهم الرافض، عندئذ قرر "صلاح الدين" اقتحام المدينة عنوة.
في 20 من رجب، بدأ بنصب المجانيق. وتراشق الطرفان بقذائف المجانيق، وقاتل أهل بيت المقدس بحميَة وكذلك المسلمون، ولما رأى الصليبيون شدة القتال، وشعروا بأنهم أشرفوا على الهلاك، أرسلوا وفدا إلى "صلاح الدين"، واشترطوا احترام من في المدينة من الصليبيين، والسماح لمن يشاء بمغادرتها.
كانت هذه الشروط هي نفسها التي سبق ل"صلاح الدين" أن عرضها عليهم من قبل، لكنه رفض قبولها الآن، لأنه أوشك أن يفتح المدينة، وقال: لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه سنة ٤٩١ من القتل والسبي، وجزاء السيئة بمثلها.
حيث قتل الصليبيين أهل بيت المقدس العزل وسفكوا الدماء حتي صارت الدماء في الطرقات تكاد تصل لركبهم، وحاولوا المسجد الأقصي الشريف لاسكبل لخيولهم.
وازداد موقف الصليبيين في الداخل سوء، وراحوا ينظرون بقلق إلى المصير الذي ينتظرهم، ولم يسعهم إلا أن يحاولوا مرة أخرى إقناع "صلاح الدين" بالعفو عنهم، ولكن "صلاح الدين" سبق له أن أقسم بأنه سوف يفتح بيت المقدس بحد السيف، ولن يحله من قسمه سوى إذعان المدينة بدون قيد أو شرط.
وبالفعل سلم الصليبين بيت المقدس، ودخل "صلاح الدين" المدينة يوم الجمعة 27 من رجب، وشاءت الظروف أن يصادف ذلك اليوم في التاريخ الهجري، ذكرى ليلة الإسراء والمعراج. وقرر السماح للصليبيين بمغادرة المدينة مقابل عشرة دنانير عن الرجل يستوي فيها الغني والفقير، وخمسة دنانير عن المرأة، ودينارين عن الطفل، ومن يبق فيها يقع في الأسر، واشترط أن يدفع الفداء المفروض في مدى أربعين يوم، لكن تبين أن في المدينة نحو عشرين ألف فقير ليس بحوزتهم المبلغ المقرر للفداء؛ فوافق "صلاح الدين" أن يدفع "باليان" قائد القوات الصليبية في بيت المقدس مبلغ إجمالي قدره ثلاثون ألف دينار عن ثمانية عشر ألف منهم.
ثم عمل صلاح الدين على محو الآثار الصليبية في المدينة، فأعاد قبة الصخرة، والمسجد الأقصى إلى سابق عهدهم، وغسلت الصخرة بماء الورد وبخرت، ثم دخل صلاح الدين إلى المسجد الأقصى يوم الجمعة ٤ من شعبان، وصلى فيه، وشكر الله على توفيقه ونصره.
مروه طلعت
١٠/٥/٢٠٢١

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خماراويه

السلطانة شجر الدر 6

نشأة محمد علي باشا